من المذياع إلى السوشيال ميديا: كيف تغيّر الإعلام وكيف تغّول أثره في حياتنا
في بداياته، كان المذياع والتلفاز حكراً على الأغنياء والنخب، بينما كان الفقراء يتابعون الأخبار عبر المقاهي أو عبر نوافذ وبيوت الجيران.

خليل البطران – العربي القديم
تخيّلوا مشهداً من أربعينيات القرن الماضي: عائلة تجلس حول مذياع قديم، وجوههم مملوءة بالفضول والترقب لسماع نشرة الأخبار أو خطاب زعيم أو متابعة حفلة غنائية. كان المذياع آنذاك نافذة سحرية على العالم، رغم افتقاده للشاهد البصري، وكان وسيلة لجمع الناس حول صوت واحد ينقل لهم الأحداث ويحرك فيها شعوراً رائعاً بالارتباط الحميمي بذلك الجهاز الذي بدأ كبير الحجم محاطاً بالاهتمام في صدر المنزل، ثم تحول إلى رفيق درب في كل مكان، مع ظاهرة أجهزة الترانستور الصغيرة ومذياع السيارة.
واليوم، صار شاب واحد يحمل هاتفًا ذكيًا قادرًا على بث حدث مباشر لمتابعته ملايين الأشخاص. بين المذياع الأول و”لايف” على السوشيال ميديا تمتد رحلة الإعلام، من وسيلة لنقل الأخبار إلى قوة تصنع الرأي العام وتؤثر في مسار المجتمعات.
الإعلام في اللغة والمفهوم
في العربية، الإعلام مشتق من الجذر (ع ل م)، أي الإيضاح والإخبار. أما في الاصطلاح الحديث، فالإعلام يشمل الإخبار، التثقيف، التوجيه، الترفيه، والتأثير في الرأي العام، أي أنه أداة قوية لصياغة العقول والاتجاهات.
أهداف الإعلام: الإخبار، التثقيف، التوجيه، الترفيه، وغرس القيم الوطنية.
مراحل تطور الإعلام التقليدي
المذياع (الراديو): رفيق البيوت والمقاهي، مصدر الأخبار والخطب والبرامج التعليمية.
الصحافة الورقية: منصة التحليل والنقاش، وموثق التاريخ وصوت النخب.
التلفزيون: أضاف للصوت صورة نابضة، جعل المشاهد يرى الحدث وكأنه حاضر فيه.
القنوات الفضائية: كسرت الحدود الجغرافية، وفتحت المجال للمنافسة الدولية في صناعة الخبر.
الإعلام بين النخبة والجماهير
في بداياته، كان المذياع والتلفاز حكراً على الأغنياء والنخب، بينما كان الفقراء يتابعون الأخبار عبر المقاهي أو عبر نوافذ وبيوت الجيران.
مع تحسن الظروف الاقتصادية وانتشار الأجهزة، صارت وسائل الإعلام جزءًا من الحياة اليومية للطبقات الوسطى، ومع السوشيال ميديا أصبح أي شخص يحمل هاتفًا ذكيًا قادرًا على البث والمشاركة مباشرة، بنفس القوة التي كانت حكراً على المؤسسات الضخمة سابقًا.
الثورة المعلوماتية والسوشيال ميديا
تحولت منصات الإنترنت إلى وسائط تفاعلية مباشرة، حيث أصبح الجمهور شريكًا في صناعة الخبر. هذا التحول غيّر قواعد اللعبة: سرعة، وصول عالمي، وكسر احتكار الإعلام التقليدي.
أسباب تراجع الإعلام التقليدي: البطء، التكلفة العالية، غياب التفاعلية، فقدان الثقة، وتحول الشباب للمنصات الرقمية
الإعلام سلاح ذو حدين
الإعلام ليس مجرد ناقل للحقائق، بل سلاح ذو حدين: يمكن استخدامه لبناء المجتمع ورفع معنويات الناس، كما يمكن تسييسه لتوجيه الرأي العام لخدمة أجندات محددة.
على الصعيد الدولي، استخدم جورج بوش الابن الإعلام لترويج فكرة امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، ما ساهم في تجييش الرأي العام الدولي وكسب الشرعية لغزو العراق قبل تحقق الحقائق.
في المقابل، لعب محمد سعيد الصحاف، وزير الإعلام العراقي، دورًا محوريًا في رفع معنويات الشعب العراقي وتوجيه الرأي الداخلي. بفضل استراتيجيته الإعلامية، استطاعت بعض المدن العراقية والصمود العسكري لفترات طويلة، وبث الحياة والأمل في الجماهير، ما جعل المشاهد العربي يعتقد أن العراق قادر على الصمود وربما الانتصار أمام قوى التحالف بقيادة الولايات المتحدة.
هذا المثال يوضح قدرة الإعلام على إدارة المعركة النفسية والمعنوية، وجعله أداة قوة لا تقل أهمية عن القوة العسكرية في الميدان.
اليوم، للأسف، لا يرتقي الإعلام السوري إلى هذا المستوى؛ فهو أصبح مؤسسة أثبتت فشلها في أن تكون صوت الدولة ومرآة الواقع الذي تعيشه سوريا، بعيدًا عن التوجيه الإيجابي أو رفع معنويات الجمهور، مما أضعف تأثيره المحلي والعالمي على حد سواء.
الإعلام والثورات: الثورة السورية نموذجًا
في الثورة السورية، وبسبب قيام الأسد بتطبيق رقابة ومنع مشددين على عمل وسائل الإعلام التقليدية على الأرض السورية، أظهر الإعلام الرقمي قوة غير مسبوقة في نقل الأحداث فور وقوعها، ومواجهة الرواية الرسمية المتناقضة والتي افتقرت للمصداقية، ما سمح للجمهور بنقل قصصه مباشرة إلى العالم، وأدى إلى تأثير عالمي على الرأي العام
التسريب المخابراتي والإعلام
الإعلام يستخدم أيضًا للتسريبات المخابراتية، أحيانًا عبر “العرافين والعرافات”، الذين ينشرون رسائل مبطنة بلغة غامضة لجذب الانتباه، ما يخلق وعيًا مشوشًا ويبعد الناس عن الحقائق… وهي ظاهرة رأيناها منتشرة بكثرة في المحطات التلفزيونية اللبنانية
غياب الحياد والموضوعية في بعض القنوات والصحف الرسمية أدى إلى فقدان الجمهور للثقة، وظهور إعلام بديل على الإنترنت يعكس صوت المجتمع بشكل أدق… فلم يعد بالإمكان إخفاء أجندات القنوات والصحف المرتبطة بمموليها أو بالأنظمة المسيطرة عليها، ما أدى إلى كشف الأوراق وإسقاط الأقنعة.
نزوح الكتّاب إلى المنصات الإلكترونية
ظلت الرقابة الرسمية لعقود متحكمة بتحديد سقف ما ينشر… وهذا ما دفع الكثير من الكتاب إلى المنصات الرقمية المفتوحة، التي يصعب تطبيق القيود الرقابية عليها، وخصوصا على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث وجدوا حرية التعبير وتفاعلاً مباشرًا مع الجمهور، ما أعاد تشكيل العلاقة بين الكاتب والمتلقي بعيدا عن مقص الرقيب.
مهام الإعلام الرسمي
تشمل الإخبار، التثقيف، التوجيه، إدارة الأزمات، وحماية الهوية الوطنية، إلا أن الإعلام الرسمي غالبًا يتحول إلى أداة دعائية تخدم السلطة أكثر من خدمة المواطنين. وهذه ظاهرة نلمسها في كثير من المحطات العربية، المرتبطة بتمويلها وتعيينات مدرائها والمسؤولين فيها بالأنظمة الحاكمة. ولهذا يفقد الإعلام الرسمي شيئا فشيئا دوره ويتحول إلى معبر عن الأنظمة وأهدافها وما تريد إيصاله من رسائل إلى جمهورها المستهدف، الذي ينصرف عنها غالبا، وخصوصا إذا افتقدت المهنية والجاذبية الفنية في صوغ خطابها… ووقعت في فخ الجمود والتكلس.
ظاهرة المؤثرين “التافهين”
استخدام بعض المنصات الرسمية لأشخاص بلا خبرة قد يجذب الشباب، لكنه يضر بالمصداقية ويحوّل الإعلام إلى مسرح للسطحية والترفيه الفارغ بدل التثقيف وتقديم المفيد الذي يثري المتفاعلين مع تلك المنصات… هذا الأمر رأيناه فيما عرف بظاهرة (المؤثرين) الذين يتفقدون المحتوى الجاد والخلاق… ومن المؤسف أن يتم تبنيهم من خلال مؤتمرات تروج لتفاهتهم دون قدرة على توجيههم أو الحد من سطحيتهم وضحالة محتواهم.
قوة تصنع الرأي العام.
الإعلام اليوم ليس مجرد ناقل للخبر، بل قوة فاعلة تصنع الرأي العام وتوجه مسار المجتمعات. بين الإعلام التقليدي الذي يفقد بريقه أو يكاد، والإعلام الرقمي الذي يفتقد أحيانًا للمصداقية والمرجعية الواضحة، يبقى الرهان على وعي الجمهور، وعلى إعلام حر ومسؤول يجمع بين مهنية وزخم الأمس وسرعة الوصول اليوم.