طرابلس الاستثناء الإنساني
علاء فرحات – العربي القديم
منذ اندلاع الثورة السورية آذار/ مارس 2011، سارعت مدينة طرابلس اللبنانية إلى الإعلان عن موقفها الذي لم يفاجئ من يعرف تاريخها من جيرانها السوريين، ولا من أشقائها اللبنانيين، وخصوصاً أولئك الذين وقفوا في صف نظام الأسد وإجرامه، وتوجهوا إلى سوريا حاملين الأجندة الإيرانية فتوى لقتل السوريين، والشد على يد نظامهم الظالم.
على العكس كانت طرابلس هي الاستثناء الإنساني لدى الجار اللبناني، تسير بإيمان حقيقي نحو الانخراط في نسيج الثورة، عبر احتضان النازحين واللاجئين السوريين، باعتبار التاريخ والجغرافية والحاضنة الاجتماعية من قرابات أسرية، إضافة إلى توجه الشباب الطرابلسي، نحو العمل المسلح لجانب السوريين ضد نظام تسلطي منذ عهد “الأسد الأب”، الذي أذاق المدينة القابعة شمال لبنان وككل المدن اللبنانية ويلات الحرب والقمع والتهميش، إلا أن جرعات العنف والسحق كانت الأقسى فيها، عندما حولها لحماة أخرى، بغرض سحق النفس الفلسطيني فيها. حتى عندما شعروا بالأمان مع شخصية “رفيق الحريري” كرئيس وزراء لبناني وطني، أعاد اغتياله من “الأسد الابن” 2005 القهر والخيبة لهم.
العامل التاريخي، واستذكار جرائم الأسد الأب في طرابلس، ولا سيما مجزرة “التبانة” عام 1986، وتنفيذ اغتيالات وأصوات التعذيب التي كانت تعلو من المباني التي حوّلها نظام الأسد إلى مقرّات لمخابراته، وبثّ الخوف في مجتمعها، والحكم بقبضة من حديد آنذاك، كل ذلك دفع طرابلس للبحث عن هوية تحررية، اجتمعت مع تطلعات السوريين، واستمرت حتى اندلاع ثورة تشرين 2019، والتي انطلقت سلمية من ساحة النور بطرابلس، وقيل عنها يومذاك إنها “فتنت اللبنانيين بروحها”، وتصدرت عناوين الصحف العربية والعالمية، وكانت ركناً أساسياً في صناعة المشهد الثوري اللبناني المشابه لثورة السوريين في بداياتها.
منذ القدم جمعت طرابلس عاصمة الشمال اللبناني عينات من كل القوى المناهضة لنظام الأسد وتوجهاته، فهي كما هو معروف مدينة لا تنقصها المقومات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية التي كانت تتوافر عليها الحواضر العربية العريقة، إضافة إلى خصوصية طرابلس، باعتبارها امتداداً لمدن الداخل السوري، وتعد من كبرى حواضر المتوسط، (وأكثرها فقراً)، لكنها من المدن السنية العربية العريقة من الموصل إلى بغداد، ودمشق، وبيروت، كما أنها ثالوث خط حماة، حمص، طرابلس، كما يتشابه أهلها معهم في اللهجة وطريقة العيش، وهي إلى جانب ذلك تحوي الأكثرية السنية، مع أقلية علوية تتمركز في جبل محسن، وبالتالي فقد تحولت المدينة لمدينة تحاكي وجدان السوريين.
كل تلك العوامل جعلت المدينة “طرابلس” صاحبة اليد الطولى في جذب واحتضان عشرات آلاف السوريين الذين هجرتهم الحرب، منذ العام 2011، تتضامن مع ثورتهم وتعيش على إيقاع انتصاراتها.
حتى في مراحل اختناق الثورة السورية، كان يتردد صدى الاختناق في جولات قتالية بين “التبانة” ذات الأكثرية السنية، و”جبل محسن” الموالي لنظام الأسد، إضافة لاستعراض أدبيات الثورة السورية في أسواقها الشعبية القديمة، هناك حيث تعلو الأناشيد الثورية، والهتافات المناهضة للنظام، وتعلّق صور الشهداء كرموز وطنية لبنانية على الجدران.
منذ بدء الحملة الأمنية اللبنانية المسعورة ضد اللاجئين السوريين مؤخراً، الرافضة لبقائهم على الأراضي اللبنانية، والساعية لإعادتهم قسراً إلى نظام الأسد، حيث السجون والمعتقلات والموت، وقفت طرابلس عبر مظاهرات حاشدة رافعة شعارات عديدة كان منها: “لن نسمح بترحيل إخواننا إلى حضن نظام الإجرام، وفينا عرق ينبض”، “ترحيل السوريين خطوة في طريق تعويم النظام والتطبيع معه”.
ويمكن القول: إن طرابلس ما تزال الصوت الصادح الأول الداعم للسوريين، والرافض لاضطهادهم، رغم التداعيات التي تركها موقفهم، ولا سيما أمام موقف الشارع المسيحي العلني الراغب بإعادتهم إلى آلة القتل الأسدي، زاعمين إن وجودهم يمثل خطراً على الديمغرافيا اللبنانية، أما موقف البيئة الشيعية المتماهية مع موقف حزب الله اللبناني فمعروف، لا بل تجاوز الموقف إلى دعوة حزب الله على لسان زعيمه، قبل مقتله مؤخراً بغارة إسرائيلية في الضاحية الجنوبية إلى فتح البحر للسوريين نحو أوروبا، دون أي إدراك لحجم المأساة والكارثة والموت المحيط بهم.
_________________________________________
من مقالات العدد السادس عشر من (العربي القديم) الخاص بطرابلس الشام – تشرين الأول/ أكتوبر 2024