الرأي العام

 الثقة بالكفاءات الوطنية أم فلول النظام؟

معضلة الإدارة السورية الجديدة غياب الثقة بالمنشقين الأوفياء

نوار الماغوط – العربي القديم  

منذ اللحظة الأولى لانتصار أي عملية سياسية تهدف إلى بناء دولة جديدة، يبرز سؤال جوهري: من هم الأشخاص الذين يجب أن يُمنحوا الثقة والفرص لإعادة بناء مؤسسات الدولة؟ في حالة سوريا، يبدو أن هذا السؤال ما يزال بلا إجابة واضحة. الإدارة الجديدة تواجه تحديًا مركبًا، فهو ليس مجرد إدارة مؤسسات، بل يتعلق أيضًا بإعادة الثقة للمواطنين، وتحقيق العدالة الرمزية والعملية تجاه أولئك الذين ضحوا من أجل الوطن، مقابل أولئك الذين خدموا النظام السابق لأعوام طويلة، ومنهم ما زالوا يستفيدون من امتيازاته.

إحدى أبرز الإشكاليات التي يلاحظها المراقبون هي غياب الثقة بالمنشقين الأوفياء الذين لم يتورطوا في المعارضة التقليدية التي شكلت المشهد السياسي خلال الثورة السورية. هؤلاء الأفراد، الذين قد يكونون إعلاميين، دبلوماسيين، مهندسين، أو إداريين، اختاروا منذ البداية الوقوف إلى جانب مبادئ العدالة والحرية، وتحملوا تبعات ذلك على المستوى الشخصي والمهني. البعض منهم فقد وظائفه، البعض الآخر هجر بلده خوفًا على حياته، بينما استمر آخرون في تقديم الدعم للثورة بطرق سلمية ومهنية بعيدًا عن الانخراط في الصراعات السياسية المباشرة.

ورغم كل هذه التضحيات، يبدو أن إعطاء الثقة لهؤلاء الأوفياء لم يحدث على المستوى المؤسسي. بدلاً من ذلك، تُمنح الامتيازات والمنصّات لمن كانوا جزءًا من النظام البائد، أولئك الذين خدموا الاستبداد واستفادوا منه، وغالبًا ما حاولوا تأمين مواقعهم وحماية مصالحهم الشخصية حتى آخر يوم من أيام حكم النظام السابق. هذه الظاهرة تتكرر في كل القطاعات، من الخارجية، إلى الإعلام، وحتى الوزارات الخدمية والمهنية، حيث يُستبعد المنشقون عن أي عملية إعادة هيكلة أو قيادة، بينما يُبقي الفلول على مواقعهم الحيوية أو يُعاد تعيينهم بعد فترة قصيرة .

لنأخذ وزارة الخارجية كمثال، فهي أحد أبرز القطاعات التي تظهر هذه المفارقة بوضوح. هناك دبلوماسيون منشقون منذ أيام الثورة الأولى، لم يتورطوا في المعارضة التقليدية، ومع ذلك يُستبعدون عن قيادة العملية الانتقالية الدبلوماسية، بينما يتم الحفاظ على عشرات السفراء وموظفي النظام السابق الذين خدموا الاستبداد، بل إن بعضهم قدم على اللجوء في الخارج خوفًا من النظام الجديد، ومع ذلك يستمرون في تلقي رواتبهم بالدولار من الخزينة السورية. هذا التناقض يطرح سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن لأي نظام جديد أن يثق بمن خدم الاستبداد، بينما يتجاهل أولئك الذين ضحوا من أجل الحرية والعدالة؟

لكن المشكلة ليست محصورة فقط في الخارجية، بل تمتد إلى كل المؤسسات الحكومية. في الوزارات الخدمية، نجد أن المناصب الإدارية العليا غالبًا ما يُشغلها من لم ينخرطوا في الثورة، أو من حافظوا على ولائهم للنظام السابق. في قطاع الإعلام، تُمنح الفرص والامتيازات لمن كانوا جزءًا من آلية معارضة خارجية خدمت  النظام، بينما تُهمش أصوات المنشقين الإعلاميين الذين ساندوا قضايا الوطن بكل نزاهة ومهنية. وفي القطاعات الاقتصادية والفنية والمهنية، غالبًا ما يتم تفضيل الفلول على الكفاءات الوطنية، بحجة “الخبرة السابقة” أو “الاستمرارية”، دون النظر إلى أن الخبرة المبنية على خدمة نظام استبدادي ليست خبرة تؤهل لإعادة بناء الدولة.

هذه السياسة في توزيع الثقة لها انعكاسات خطيرة على العملية السياسية والاجتماعية. أولاً، تُضعف ثقة المواطنين بالنظام الجديد، حيث يشعر أولئك الذين ضحوا بأن جهودهم وتضحياتهم غير معترف بها. ثانيًا، تُضعف الأداء المؤسسي، لأن الكفاءات الوطنية التي تمتلك رؤية واضحة وإخلاصًا للوطن ليست جزءًا من عملية اتخاذ القرار. ثالثًا، تفتح المجال لإعادة إنتاج الفساد القديم، إذ أن الفلول غالبًا ما يمتلكون شبكات مصالح قوية، ويستطيعون الحفاظ على ممارسات الماضي تحت غطاء الاستمرارية المهنية.

من ناحية أخرى، المنشقون المخلصون يمثلون فرصة حقيقية لإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس وطنية ونزيهة. هؤلاء الأفراد يمتلكون المعرفة المهنية، الإخلاص الوطني، والقدرة على العمل بعيدًا عن المصالح الشخصية والنزاعات القديمة. إشراكهم في القطاعات كافة من الإعلام إلى التعليم، من الوزارات إلى القطاع الاقتصادي لن يكون فقط تصحيحًا للخلل التاريخي، بل سيمنح الدولة الجديدة مصداقية داخلية وخارجية.

السؤال الذي يجب أن يطرحه كل مسؤول اليوم: هل نريد دولة مبنية على مصالح الفلول وموروث النظام السابق، أم نريد دولة تعتمد على الكفاءات الوطنية الصادقة، التي ضحت من أجل الوطن منذ البداية؟ الإجابة الواضحة هي أن النجاح طويل المدى لأي مشروع وطني يتطلب إعطاء الأولوية للمنشقين الأوفياء، الذين  لم يكونوا جزءًا من المعارضة التي غرقت بالمال السياسي ، لأن هؤلاء هم من يمثلون الأمل الحقيقي في بناء دولة جديدة قائمة على العدالة، النزاهة، والمصلحة الوطنية العليا.

إن تجاهل هذه الفئة وإعطاء الفرص لمن خدموا الاستبداد ليس فقط ظلمًا تاريخيًا، بل يشكل مخاطرة عملية على استقرار الدولة الجديدة. فاستمرار وجود الفلول في مواقع القرار يعيد إنتاج شبكات النفوذ القديمة، ويحد من قدرة الدولة على إصلاح مؤسساتها. بينما مشاركة المنشقين، ستضمن أن القرار الوطني مبني على الخبرة المهنية، الإخلاص الوطني، والرؤية المستقبلية. في الختام، إذا كانت سوريا تسعى إلى بناء دولة جديدة، فإن الطريق واضح: يجب إعادة توزيع الثقة والفرص على المنشقين الوطنيين والكفاءات المهنية الصادقة، سواء في وزارة الخارجية، الوزارات الخدمية، الإعلام، أو أي قطاع من قطاعات الدولة. إهمال هذه الفئة لصالح الفلول هو وصفة لإعادة إنتاج الفساد والاستبداد القديم، بينما إشراكهم يمثل بداية حقيقية لبناء دولة وطنية، شفافة، وعادلة، تحقق طموحات المواطنين الذين ضحوا من أجل الحرية والكرامة

زر الذهاب إلى الأعلى