الشرع في موسكو: حين يتحدث المتفلسفون عن “الاتفاقيات المجحفة”
الدول لا تُقاس بكمية الاتفاقيات التي ترفضها، بل بقدرتها على تحويل ما يُفرض عليها إلى فرص قوة لاحقة.

بلال الخلف – العربي القديم
يطلّ علينا المتفلسفون من كل صوب، أولئك الذين يظنون أنفسهم العارفين بكل شيء، بالسياسة والرياضة والمال والاعمال وحتى بمقاس خصر النساء حتى بما هو أصلح للبلد وللناس أكثر من أهل الشأن أنفسهم. يتحدثون اليوم عن الرئيس أحمد الشرع وكأنه وقّع بيده كل اتفاقية أبرمها النظام السابق مع الروس، ويهاجمونه لأنه – حسب فهمهم السطحي – “اعترف” بها أو “أقرّها” علينا.
لكن ما يغيب عن أذهانهم هو أن الدول لا تُدار بالعواطف، ولا تُلغى الاتفاقيات ببيان أو منشور، وأن ما يُبنى بالسنوات لا يُهدم بالصراخ. المشكلة ليست في النقد، بل في الجهل الذي يتنكر بثوب الوعي. فالتاريخ مليء باتفاقيات وُصفت يومًا بـ”المجحفة” أو “الإذعانية”، ثم تبيّن لاحقًا أنها كانت جسر عبور نحو القوة والسيادة.
خذ مثلًا معاهدة لوزان عام 1923 التي وُقّعت بعد سقوط الدولة العثمانية، وقبلها معاهدة سيفر التي مزقت السلطنة. ورغم أن لوزان فرضت قيودًا على تركيا الجديدة في مجالات عديدة، إلا أن مصطفى كمال أتاتورك تعامل معها ببراغماتية شديدة: لم يتنصل منها، بل جعلها بداية مسار بناء دولة قومية حديثة. وبعد قرن، ما زالت تركيا تلتزم بها رسميًا، لكنها تجاوزتها عمليًا بقوتها الاقتصادية والعسكرية والإقليمية.
الأمر ذاته يمكن أن يُقال عن اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، حين فُرضت عليها اتفاقية سان فرانسيسكو الأمنية مع الولايات المتحدة عام 1951، التي أبقت القواعد الأميركية على أراضيها ومنعتها من بناء جيش هجومي. وُصفت تلك الاتفاقية حينها بأنها “إذلال وطني”، لكن اليابان حولت قيودها إلى فرصة: فبدل الإنفاق على الجيش، استثمرت في الصناعة والتعليم والتكنولوجيا حتى أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم خلال بضعة عقود.
ولننظر أيضًا إلى ألمانيا الغربية التي قبلت بشروط “مهينة” بعد الحرب، تحت إشراف الحلفاء في إطار “اتفاق بون – باريس” 1952، الذي حدّ من سيادتها العسكرية والسياسية. ومع ذلك، جعلت من تلك المرحلة نقطة انطلاق لإعادة الإعمار، وولدت منها “المعجزة الاقتصادية الألمانية” التي أعادت برلين إلى قلب أوروبا.
وحتى كوريا الجنوبية، التي وُصفت اتفاقيتها الدفاعية مع واشنطن عام 1953 بأنها “وصاية عسكرية” بعد حرب مدمّرة، استطاعت من خلال تلك المظلة الأمنية أن تبني اقتصادًا صناعيًا هائلًا جعلها واحدة من أقوى عشر دول اقتصادية في العالم.
كل هذه التجارب تبرهن أن الدول لا تُقاس بكمية الاتفاقيات التي ترفضها، بل بقدرتها على تحويل ما يُفرض عليها إلى فرص قوة لاحقة.
أما نحن، فنعيش زمنًا يتحدث فيه من لم يقرأ صفحة واحدة في التاريخ عن “الإذعان” و”الكرامة الوطنية”، وكأنّ الوطنية تُقاس بالرفض اللفظي لا بالقدرة على البناء.
الرئيس أحمد الشرع لم يخلق تلك الاتفاقيات، لكنه يتعامل معها كأمر واقع ضمن إرث ثقيل تركه من سبقه. ومَن يفهم السياسة يعرف أن الحكمة ليست في تمزيق الورق، بل في إعادة صياغة موازين القوة التي تجعل الآخرين يأتون إليك لتوقّع من جديد.
ليس في السياسة اتفاق أبدي، ولا في التاريخ عدالة كاملة، لكن هناك دائمًا من يحول الخسارة إلى مكسب.
أما الذين اكتفوا بالاعتراض، فهم مثل من يلعن الظلام كل ليلة، رافضًا أن يشعل شمعة واحدة.