هل كانت الولايات المتحدة وراء تدمير سوريا؟
حول تصريحات جيفري ساكس بشأن السياسة الأمريكية في سوريا

نوار الماغوط – العربي القديم
في مشهدٍ من مؤتمر أنطاليا الدولي الأخير، طرح وضاح خنفر، المدير العام السابق لشبكة (الجزيرة) الإعلامية، سؤالاً مباشراً على الخبير الاقتصادي الأمريكي المعروف جيفري ساكس، مستشار الأمم المتحدة السابق في قضايا التنمية المستدامة، حول ما إذا كانت الولايات المتحدة تقف على الحياد في الملف السوري، أم أنها تتخذ موقفًا واضحًا من خلال سياساتها، خاصة العقوبات المفروضة على النظام السوري.
جاء رد ساكس مثيرًا للجدل، إذ قدم تفسيرًا يعتبر أن الحرب السورية ليست ناتجة بشكل أساسي عن قمع داخلي أو حراك شعبي، بل نتيجة قرار اتخذته واشنطن عام 2011 لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، ضمن ما وصفه بـ”مشروع إقليمي أوسع” تقوده إسرائيل وتدعمه الولايات المتحدة لإعادة تشكيل المنطقة على مقاسها. وذهب إلى القول إن هذا المشروع اعتمد على عملية سرية تحت اسم “تيمبر سيكامور”، نفذتها وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) بالتعاون مع بعض دول الإقليم، وجرى خلالها تدريب وتسليح فصائل مسلحة، بينها جماعات جهادية، بهدف إسقاط النظام السوري[1].

جيفري ساكس خلال مشاركته في منتدى أنطاليا الديبلوماسي
ورغم أهمية ما طرحه ساكس، فإن هذا التفسير يغفل عمداً حقيقة أساسية لا يمكن تجاوزها، وهي أن شرارة الثورة السورية انطلقت من داخل البلاد، حين خرج آلاف السوريين، ثم ملايين، في احتجاجات سلمية تطالب بالحرية والكرامة، لا بتدخلات خارجية أو تصفية حسابات إقليمية. أسماء مثل غياث مطر وحمزة الخطيب لم تأتي نتيجة مشروع استخباراتي، بل نتيجة رصاص نظام لم يكن يرحم حتى الأطفال في الشوارع. إن تجاهل هذه اللحظة المؤسسة للثورة السورية، والتركيز فقط على الأبعاد الدولية، يُفقد الرواية توازنها وصدقيتها.
يبدو أن ساكس، في مسعاه لنقد السياسة الخارجية الأمريكية، قد وقع في فخ التبسيط. نعم، هناك تدخل أمريكي في سوريا، وهناك دعم عسكري لبعض فصائل المعارضة، وهناك مشروع “تيمبر سيكامور” الذي بدأ بالفعل خلال ولاية أوباما، وتم من خلاله نقل الأسلحة وتدريب مقاتلين[2].
لكن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة كانت تملك قرار اشعال ثورة في دولة ذات بنية سلطوية محكمة كالنظام السوري، كما أن ما أشار إليه ساكس بشأن مبادرة السلام التي قدمها كوفي عنان عام 2012 صحيح من حيث فشل المبادرة بسبب خلافات حول مصير الأسد، إلا أن تحميل واشنطن وحدها مسؤولية تعطيل الاتفاق يغفل مواقف روسيا وإيران والنظام السوري نفسه، الذين لم يُبدوا أي مرونة حقيقية في التعاطي مع فكرة انتقال سياسي حقيقي للسلطة[3].
أما إدارة ترامب، التي تولت السلطة بعد أوباما، فقد حافظت على سياسة العقوبات الاقتصادية الشديدة ضد النظام السوري، وأبقت على وجود عسكري محدود في الشمال الشرقي، وركزت في خطابها على محاربة “داعش” واحتواء النفوذ الإيراني. لكنها، في الوقت نفسه، أظهرت تناقضًا واضحًا في القرار السياسي، بدءاٍ من إعلان الانسحاب ثم التراجع عنه، وصولًا إلى التخلي عن بعض الحلفاء المحليين، لا سيما قوات سوريا الديمقراطية[4]. وبذلك، فإن واشنطن كانت – ولا تزال – لاعبًا مؤثرًا في سوريا، لكنها لم تكن، كما يصور ساكس، الجهة الوحيدة التي أشعلت الحرب أو أدارت خيوطها من وراء الستار
القول إن الولايات المتحدة وحدها كانت خلف الكارثة السورية هو تسطيح للتاريخ، وتبرئة ضمنية لأنظمة إقليمية مارست القتل، ولجماعات متطرفة غذّت الحرب، ولصراعات طائفية وقومية دفعت البلاد إلى الهاوية. كما أن اختزال صوت ملايين السوريين الذين خرجوا في مظاهرات سلمية في “مؤامرة خارجية” هو إهانة مباشرة لضحايا تلك الثورة، ولأولئك الذين لا يزالون يدفعون ثمن مواقفهم حتى اليوم.
أن الحرب السورية لم تكن فقط نتيجة تدخل خارجي، ولا يمكن أيضًا فهمها بمعزل عن احتجاجات شعبية التي فجرت الثورة. جيفري ساكس قدّم وجهة نظر متماسكة من حيث نقد السياسة الأمريكية، لكن التوازن الغائب في حديثه يُضعف من مصداقيته. إن الصراع في سوريا هو نتاج تفاعل معقد بين ثورة شعبية، وردّ دموي من نظام شمولي، وتدخلات دولية وإقليمية جعلت من البلاد ساحة حرب مفتوحة. والحديث عن المؤامرة لا يجب أن يُستخدم لتبرير القمع أو لمحو ثورة شعب .
ومن الجدير ذكره أن قطر التي ينتمي إلى مؤسساتها السيد وضاح خنفر لعبت دورًا محوريًا في الملف السوري، خاصة في المراحل الأولى من الثورة عام 2011. فقد كانت من أوائل الدول التي دعمت المعارضة السورية سياسيًا وإعلاميًا، وساهمت في إنشاء غرف عمليات في الأردن وتركيا، بالتعاون مع السعودية وتركيا والأردن والولايات المتحدة، بهدف تنسيق الدعم للفصائل المعارضة، قبل أن تنتقل إدارة الملف إلى الأمير بندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات السعودية آنذاك، الذي طلب ميزانية ضخمة تُقدّر بحوالي 2000 مليار دولار لإسقاط النظام السوري السابق.[5]
ولابد هنا من الإشارة إلى أهمية السياق الذي دار فيه هذا الحوار بين وضاح خنفر والبروفيسور جيفري ساكس، في مؤتمر أنطاليا الأخير بتركيا. تركيا، التي تحولت في العقد الأخير إلى محطة بارزة للقاءات المعارضة والنقاشات الإقليمية الحساسة، عكست هذه المرة نبضًا جديدًا من المواجهة الفكرية بين سرديتين متعارضتين: سردية التدخل الخارجي والصراع الجيوسياسي، وسردية الشعوب الباحثة عن الحرية والكرامة.
وضاح خنفر، الذي كان شاهدًا على بزوغ الربيع العربي من قلب غرفة الأخبار في الجزيرة، لم يكن سؤاله لجيفري ساكس عابرًا، بل يعكس صراعًا جوهريًا في فهم ما جرى في سوريا والمنطقة عمومًا. صراع بين من يرى الأحداث على أنها مؤامرة كبرى، ومن يؤمن بأن شعوب هذه المنطقة هي من أطلقت شرارة التغيير، رغم كل ما تخلل ذلك من تدخلات وتواطؤات لاحقة.
في أنطاليا، لم يكن النقاش فقط حول الماضي، بل كان جرس إنذار حول الحاضر والمستقبل: هل نسمح بإعادة كتابة التاريخ على أيدي الأقوياء، أم نتمسك برواية الشعوب، مهما كانت معقدة ومليئة بالخذلان؟
__________________________________
الهوامش:
1. صحيفة نيويورك تايمز، “عملية تيمبر سيكامور: كيف سلّحت السي آي إيه المعارضة السورية”، 2016.
2. مركز السياسة الخارجية الأمريكي، “تيمبر سيكامور ودور الاستخبارات الأمريكية في سوريا”، 2017.
3. صحيفة الغارديان البريطانية، “لماذا فشلت خطة كوفي عنان للسلام في سوريا؟”، 2012.
4. معهد بروكينغز، “سياسات ترامب المتناقضة في سوريا: من الانسحاب إلى الإرباك”، 2019..
5. صحيفة (القبس) الكويتية حوار مع رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق “حمد بن جاسم”
ما قاله جيفري ساكس يُعبّر عن إحباط حقيقي من إرث السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، وكان لوضاح خنفر دور مهم للغاية فيه لا يخفى إلا على النخب المرتشية وضاح خنفر عرّاب العلاقات الثلاثيّة الأميركية الاسرائيلية الإيرانية خصوصاً في السورية وعندما انفضح امره ” استقال ” من الجزيرة .