بين الغَلَبة والحقوق: جدلية التاريخ الطبيعي في الحالة السورية؟
السؤال الجوهري اليوم لم يعد: من يحكم سوريا؟ بل: كيف يمكن لسوريا أن تحكم من دون أن تُكسر مرة أخرى؟

محمد الشوا- العربي القديم
تمر الأمم والمجتمعات بمراحل متعاقبة في تطورها التاريخي، ليست عشوائية، بل تتبع مساراً تصاعدياً من البدائي إلى الراقي، ومن الغريزة إلى الوعي، وما بين البداية والنهاية، تشهد صراعات وتحولات وتراكمات حضارية تنتج الأمة وتعيد تشكيلها.
وبحسب رؤية فيلسوف البدائل المستقبلية، المفكر العراقي ميثم الجنابي ( 1955-2021)، فقد لخص هذا التطور فيما اسماه بـ ” مسار التاريخ الطبيعي”
وهو مسار يمر بسبع مراحل كبرى: ( من المرحلة العرقية- الثقافية، مروراً بـ الثقافية- الدينية، ثم الدينية- السياسية، تليها السياسية- الاقتصادية، ثم الاقتصادية- الحقوقية، وصولاً إلى المرحلتين الأرقى: الحقوقية- الاخلاقية، والأخلاقية- العلمية).
في ضوء هذا التصور الفلسفي- التاريخي، تبدو سوريا بعد سقوط نظام القتل والإجرام الأسدي، وكأنها تعيد التموضع ضمن هذا السلم، لكنها لا تفعل ذلك بصعود سلس، بل عبر قفزات مؤلمة وانتكاسات متكررة. فهل تجاوزت سوريا طورها الديني- السياسي نحو مرحلة جديدة قائمة على الحقوق والأخلاق؟ أم أن صعود التيارات الدينية ذات الأيديولوجيا الأحادية، يمثل عودة إلى نمط الاستبداد اللاهوتي، بصيغة مختلفة؟ وهل ثمة مخرج نحو المستقبل، أم أن التيه مستمر في حلقة مفرغة؟
يرى الفيلسوف الجنابي أن التاريخ البشري لا يتطور فوضوياً، بل يمر بمراحل متداخلة ومتتابعة، تعبر كل واحدة منها عن مستوى الوعي الإنساني بالعالم وبنفسه وبالآخر. وقد قسم المراحل إلى ثلاث مجموعات:
- مراحل “طبيعية صرف”
- المرحلة العرقية- الثقافية:
حيث تتشكل الهوية الجماعية على أساس الانتماء العرقي والقبلي، وتمثل المحطة الأولية لنشوء التجمع والاجتماع والهموم المشتركة، أي الأصول الضرورية للفكرة الثقافية ووعي الذات البدائية، وهي الطور الأول في مسار الحضارة الإنسانية، حيث تتحدد الهوية بالعرق والجماعة، والثقافة تتجسد في التقاليد والأساطير والأعراف، وهي مرحلة ضرورية لكنها محدودة، تمثل بحسب الجنابي ” الطفولة الحضارية” التي سينتقل منها التاريخ إلى آفاق أوسع، تبدأ مع الثقافة الدينية ثم تتبلور تدريجياً في الدولة والحقوق والاقتصاد.
- المرحلة الثقافية- الدينية:
تبدأ فيها البنى الدينية بالظهور، ويعاد تفسير العالم والموقف منه من خلال العقيدة / الايديولوجيا. وتمثل هذه المرحلة عند الفيلسوف الجنابي لحظة تاريخية أساسية في تطور الوعي الإنساني: حيث يتحرر الإنسان من قيد الدم والعشيرة لينتمي إلى أمة إيمانية – ثقافية أوسع.
هذه المرحلة تعيد تشكيل الأخلاق والمعرفة والمجتمع على أساس ديني، فتفتح الطريق لتأسيس حضارات كبرى، لكنها تبقى محدودة ما دامت تربط الشرعية والقانون فقط بالعقيدة دون أن تطورها إلى وعي سياسي وحقوقي أوسع.
- المرحلة الدينية- السياسية:
تتداخل فيها السلطة مع الدين، وتستخدم الشرعية الدينية لتبرير الحكم، وهي المرحلة الأكثر تعقيداً من حيث البناء والاستمرار، وذلك لأنها تتوج مسار التاريخ الطبيعي عبر ربطه الكامل والشامل بالوجود الديني/ الماوراء- طبيعي. وفيها فقط تتراكم قيم المطلق والمقدس والأبدي وأولويته لتصهر فيه كل القيم والمبادئ النظرية والعملية. وتنتج هذه المرحلة نمطاً من الثقافة يعبر عنه الجنابي بـ ” لاهوت السياسة” أي تأويل النصوص لخدمة التنظيم السياسي والاجتماعي.
- مراحل “بينية انتقالية”
- المرحلة السياسية- الاقتصادية:
تنتقل فيها السلطة من التبرير الديني إلى الواقع الاقتصادي وتظهر فيها الدولة الحديثة بمفاهيم القوة والتنمية.
إن الانتقال من المرحلة الدينية السياسية إلى المرحلة السياسية الاقتصادية، يعادل معنى الانتقال من الدين إلى الدنيا، ومن اللاهوت إلى العقل الخالص، ومن النزعة الدينية إلى النزعة الدنيوية. ففي سياق التنوير الأوربي كان يلزم لكي تنهار منظومة المرجعيات القروسطية، العمل على إضعاف وتذليل سطوة رجال الدين والكنيسة وحضورهم الطاغي في كل مجالات الحياة، لقد ذللت أوروبا هذه المرحلة الانتقالية في مجرى ثلاثة قرون من الزمن، بدأ من النهضة حتى الثورة الفرنسية. أما فيما يتعلق بالسياق العربي والإسلامي، فبحسب الجنابي ” لا يمكن تحقيق هذا الانتقال عبر محاربة الله والجماعة والأمة، بل الإمكانية التاريخية والمستقبلية والواقعية الوحيدة تقوم عبر مراجعة ونقد فكرة الأصول الإسلامية، بوصفها مرجعية تاريخية ثقافية.
- المرحلة الاقتصادية- الحقوقية:
وهي مرحلة مفصلية في التاريخ الإنساني، لأنها تؤسس لوعي جديد بالعلاقة بين الإنسان، المجتمع، الدولة. تعود جذورها إلى التحولات الاقتصادية الكبرى (انتقال أوروبا من الإقطاع الى الرأسمالية) وما رافقها من تغير في البنية الاجتماعية. ويقترن الاقتصاد هنا بظهور الفكر الحقوقي، أي اعتبار الفرد صاحب حقوق طبيعية (الحرية، المساواة، التملك) هنا يبدأ الحديث عن العدالة الاجتماعية، وتظهر المطالبات بالحقوق ضمن سياق اقتصادي.
ويوضح الجنابي أن هذا الوعي الجديد بالاقتصاد حرر الإنسان من التبعية المباشرة للسلطة الدينية والإقطاعية، وفتح المجال لفكرة “الإنسان المنتج” و” المواطن الحر”
- مراحل “ما وراء طبيعية ” (ذروة الوعي الإنساني)
- لمرحلة الحقوقية- الأخلاقية:
هي طور تاريخي- فلسفي يتكامل فيه الحق (القانون والمؤسسات) مع الأخلاق العامة (الفضائل المدنية)، بحيث يصبح معيار صلاح الدولة والمجتمع هو إنسانية القانون لا شكليته، وأخلاقية الفعل العام لا شعاراته. في هذه المرحلة تعاد صياغة الدولة والمجتمع بناءً على الحقوق والأخلاق الكلية لا على القوة أو الأيديولوجيا.
وتعتبر فكرة “أنسنة الدولة” ذروة المسار في هذه المرحلة، فيها يقاس تقدم المجتمع بمدى صون الكرامة وإنفاذ الحق وأخلاقية السلطة والمجال العام، هي ليست نقيض الدين ولا الاقتصاد، بل مقام أعلى يضعهما تحت معيار واحد: الإنسان غاية لا وسيلة، والحرية حق مقرون بالمسؤولية، والقانون قوة مقيدة بضمير.
- المرحلة الأخلاقية- العلمية:
هي طور تاريخي وفكري يصل فيه المجتمع إلى مستوى يكون العلم منهجاً مؤسساً لإدارة الشأن العام، يتحول فيها من أداة إنتاج وربح إلى نظام معرفي مقوَم أخلاقياً يخدم كرامة الإنسان ومستقبل المجتمع، فيصبح العلم هنا مؤسس، والأخلاق مرشدة – بعيداً عن تضادهما. فتندمج المعرفة مع القيمة، ويصبح العقل والأخلاق مرجعية السياسات العامة والثقافة الجمعية.
إن الحكم على الظواهر الكبرى كالتحولات الاجتماعية والثورات والتغيرات التقنية أو القيمية أو حتى المناهج وفلسفاتها تستوجب عودة لتاريخ كل منها لرصد المحرك لها، وألا يكون تحليل هذه الظواهر وقراءتها أسير اللحظة الراهنة فقط.
لأن ما يجري الآن في سوريا ما هو إلا نتيجة لمتغيرات تاريخية وجغرافية وسياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية ونفسية واجتماعية وتتمدد في الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية.
ويمكن قراءة تطور الدولة والمجتمع في سوريا خلال القرن الماضي من خلال فكرة المراحل السبع التي اقترحها الجنابي، إذ تظهر بوضوح مراحل الانتقال المتعثر والانتكاسات المتكررة.
- تاريخ سوريا الحديث في ضوء هذه المراحل
في المرحلة العرقية- الثقافية: تشكلت بدايات الهوية القومية السورية في ظل انهيار الدولة العثمانية، وظهور مشاريع قومية عربية، كان أبرزها مشروع “سوريا الكبرى” و”الوحدة العربية”، متأثرة بثقافات متعددة داخل المجتمع السوري عن عرب وأكراد، وشركس، وسريان، وغيرهم. يرى الجنابي أن المرحلة العرقية الثقافية كانت ضرورية لبناء وعي جماعي جديد، لكنها بقيت أسيرة الرومنسية: لغة وتاريخ مشترك، لكن دون تأسيس مؤسسات سياسية- حقوقية تحمي المواطنة، هذا النقص برأيه، مهد لاحقاً لانحراف المشروع القومي نحو العسكرة السلطوية، خصوصاً مع الانقلابات وصعود البعث. بالنسبة له، هذه المرحلة أسست الهوية السورية- العربية الحديثة لكنها بقيت غير مكتملة، مما جعلها أرضية لصراعات لاحقة حول الشرعية والهوية.
أما المرحلة الثقافية- الدينية: فمع سقوط الدولة العثمانية واحتلال سورية من قبل فرنسا فيما عرف بـ (الانتداب)، ظهرت محاولات لإعادة الدين كمحدد للهوية العربية- الإسلامية (الثورة العربية الكبرى رفعت شعار ” النهضة العربية الإسلامية”). فمن منتصف الأربعينيات، برزت الحركة الإسلامية (كجماعة الإخوان المسلمين خصوصا) تتشكل كمعارضة للحكومات المدنية والعسكرية، متمسكة بأن الشرعية الثقافية- الدينية أهم من القومية أو الليبرالية. وتنتشر في المجتمع، ساعية لإعادة تنظيم الحياة وفق تصورات دينية، لكنها بقيت محدودة التأثير في مستوى الدولة، وظلت التقاليد الدينية أقرب إلى المجال الثقافي والاجتماعي منها إلى السياسي. إن الصراع مع الإخوان المسلمين ( 1979- 1982) يمثل ذروة التوتر بين الشرعية “القومية العلمانية” والشرعية الدينية الثقافية.
مع انطلاق ثورة الحرية والكرامة في عام 2011 بدأ الحراك الشعبي بمطالب مدنية- وحقوقية، لكن سرعان ما تحول إلى صراع حول الشرعية الدينية الثقافية، فصعود الحركات الإسلامية (من الإخوان المسلمين حتى السلفية الجهادية) عكس مركزية الدين كإطار بديل عن الدولة القومية البعثية، فيرى الجنابي أن غياب مؤسسات حديثة جامعة جعل من الدين الملاذ الثقافي- الشرعي الأساسي للسوريين، لكنه بقي أسيراً بين خطابين:
- خطاب إصلاحي – إخواني يدعو لأسلمة الدولة.
- خطاب سلفي- جهادي يحول الدين إلى مشروع صدام شامل.
هذه المرحلة أوضحت أن الدين في سورية لم يعد مجرد “إيمان شخصي”، بل إطار ثقافي- سياسي للمجتمع، فهو يرى أن تجاوز هذه المرحلة يتطلب دمج البعد الديني كعنصر ثقافي في هوية وطنية شاملة، بدل تحويله إلى أداة صراع سياسي.
المرحلة الدينية السياسية: يرى الجنابي أن هذه المرحلة، في سورية لم تكن خياراً أصيلاً، بل رد فعل على فشل الدولة الحديثة في بناء شرعية حقوقية- مدنية. تأكد رد الفعل هذا في صراع الاسلاميين مع الأنظمة العسكرية، خاصة في السبعينات والثمانينات، ومع تحول الدولة تحت حزب البعث إلى سلطة استبدادية بواجهة علمانية، لكنها حافظت على طابع سلطوي طائفي خفي. وقد بلغ هذا الصراع ذروته في أحداث حماة ١٩٨٢، وما تبعها من قمع ممنهج لكل مظهر من مظاهر الإسلام السياسي، بل لمظاهر الحياة السياسية بشكل عام.
والنتيجة تحول الدين إلى أداة للصراع على السلطة، بدل أن يكون عامل توحيد أو إصلاح.
وانتقل الدين في سورية من كونه ثقافة وهوية إلى كونه شرعية سياسية، سواء في يد النظام أو المعارضة. هذه المرحلة لم تنته بعد، فالمشهد السوري منذ 2011 حتى اليوم يوضح أن الشرعية الدينية- السياسية ما زالت في ذروة حضورها، ما يطرح ضرورة إعادة الدين إلى مجاله الثقافي والأخلاقي، وبناء دولة حقوقية- مدنية تتجاوز التسييس الديني.
المرحلة السياسية الاقتصادية: تختبر الدولة الحديثة عند الجنابي في هذه المرحلة، بقدرتها على الانتقال من الشرعية الرمزية (الدينية القومية) إلى شرعية الإنجاز المادي- الاقتصادي.
بعد مرحلة الاستقلال (1946- 1963) اعتمدت الدولة السورية الوليدة نموذجاً ليبرالياً اقتصادياً، هيمنت فيه النخب التجارية في دمشق وحلب على الاقتصاد والسياسة معاً. ما أدى إلى أن التفاوت الطبقي الكبير جعل الاقتصاد عامل تفكك لا توحيد، فغياب الرؤية لمشروع اقتصادي- اجتماعي شامل جعل الدولة هشة أمام الانقلابات.
أما بداية ربط الشرعية السياسية التي بنيت على الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي، فجاءت مع انقلاب البعث عام (1963)، وإطلاق مشروع الإصلاح الزراعي، تأميم المصانع، بناء قطاع عام واسع. وأصبح الاقتصاد أداة لتثبيت النظام سياسياً، لكنه فشل في تطوير إنتاجية حقيقية، وإنجاز مشروع اقتصادي وطني جامع.
مع دخول مرحلة الأسد الأب (1970-2000)، اعتمد سياسة الانفتاح الجزئي (التحالف مع البرجوازية الدمشقية) وتوظيف الاقتصاد لبناء شبكة ولاءات سياسية (القطاع العام- الاقتصاد غير الرسمي) فأصبح الاقتصاد أساس بقاء النظام السياسي، لكنه لم يؤسس لنهضة اقتصادية حقيقية، بل لاقتصاد ريعي زبائني.
بعدها أطلق ما يسمى بـ اقتصاد السوق الاجتماعي، في فترة الأسد الابن (الهارب)، عملياً كان تحريراً اقتصادياً جزئياً لصالح طبقة من رجال الأعمال المرتبطين بالسلطة، ما أدى إلى مفاقمة الفوارق الطبقية والفساد جعل الاقتصاد يولد غضباً شعبياً، فتحول إلى عامل تفجير سياسي.
ولّد ثورة شعبية بدأت بمطالب سياسية- حقوقية، لكنها سرعان ما كشفت البعد الاقتصادي: البطالة، الفقر، التهميش. مع تطور أحداث الحرب دُمرت البنية الاقتصادية، وتحول الاقتصاد إلى اقتصاد حرب (تهريب، مساعدات، تجارة نفط غير شرعية) – سيطرة فصائل وأمراء حرب على الموارد، فاستعملت هذه الموارد الاقتصادية كأداة للسيطرة.
ثم بعد ما يقارب العشرة أشهر على سقوط نظام الأسد، دخلت سورية مرحلة إعادة التشكل السياسي- الاقتصادي. فأصبح الاقتصاد اليوم هو محور الصراع على السلطة، لكنه عاجز عن خلق شرعية وطنية. بسبب بروز اقتصاد موازٍِ متشظٍ يعكس استمرار غياب الدولة المركزية، الصراع على الموارد، هشاشة اقتصادية عامة.
وبحسب فلسفة الجنابي فإن الدولة السورية لم تنجز مشروعاً اقتصادياً وطنياً جامعاً منذ الاستقلال، ويرى أنها فشلت في إنجاز المرحلة السياسية- الاقتصادية. هذا الفشل هو ما جعل سورية تعود إلى الوراء (الدينية- السياسية) بدل أن تتقدم نحو الحقوقية – الأخلاقية.
المرحلة الاقتصادية الحقوقية: تفجرت في ٢٠١١، بثورة شعبية شعارها الحقوق والكرامة والحرية، كانت لحظة انتقال محتملة نحو دولة العدالة والقانون واحترام حقوق الإنسان، لكن القمع العنيف والوحشي للنظام، وسرعة عسكرة الثورة، والتدخلات الإقليمية، وتخلي المجتمع الدولي عن مسؤولياته الإنسانية والاخلاقية، أحالت هذه اللحظة إلى كارثة ومأساة إنسانية، كادت أن تقضي على الحلم بالعدالة الاجتماعية وعودة الحق إلى أصحابه، لولا انتصار الثورة وسقوط النظام.
ومنذ ذلك الوقت لم تدخل سوريا فعلياً في المرحلة الحقوقية – الأخلاقية، بل إنها تراجعت مجدداً إلى طور المرحلة “الدينية – السياسية”، فبدل التقدم إلى المرحلة- الأخلاقية، وقعت سوريا في ارتداد مرير من خلال ترتيبات دولية وإقليمية بوصول قوى ذات خلفية سلفية وايديولوجيا عنفية أحادية تؤمن بمنطق طائفي بغيض هو ذات المنطق الذي كانت تعيبه على النظام، يستند هذا المنطق على لاهوت مؤدلج “أهل السنة والجماعة” وقد كانت هذه الصيغة
سياسية صرف لأن الجوهري فيها كان للجبرية السياسية، أو الاستبداد التام بالسلطة القبلية. أو ما عبر عنه بـ لاهوت “الفرقة الناجية” وهو لا يؤمن بـ لاهوت التعددية الدينية أو المذهبية أ والسياسية، ويصر على تحويل الدين من طاقة روحية وأخلاقية وإنسانية، إلى سلطة زجر وقمع لكل مخالف، ومن أفق مفتوح إلى أداة شرعنة لعنف السياسية.
بهذا الشكل تتضح وتستمر مأساة سوريا: ليست فقط في صراعها السياسي أو الدموي، بل في تعثرها التاريخي عن العبور إلى مراحل أكثر نضجاً، حيث يبنى المجتمع على الحقوق لا على الشعارات، وعلى الأخلاق لا على الغلبة.
- عوائق الانتقال نحو المرحلة “الحقوقية الأخلاقية”
إذا أردنا قياس ما جرى بمعايير المراحل السبع، فإن سوريا لم تعبر بعد نحو المرحلة “الاقتصادية- الحقوقية” بل عادت إلى التمترس في طور”الديني- السياسي” لكن هذه المرة بالاستحواذ على مؤسسات الدولة، وبمظاهر اكثر فوضوية. ان صعود “الإسلاميين” بهذا الشكل ليس انتقالاً نحو المستقبل، بل انتكاسة إلى الوراء، تظهر غياب مشروع وطني جامع، وتكريس أزمة الهوية والشرعية، بينما كانت الثورة تحمل شعار الكرامة والحرية، فإن الواقع الراهن يفرز سلطات تفرض الطاعة بدل الشراكة، والولاء بدل العدالة.
رغم ان الواقع السوري بلغ أقصى درجات الانهيار السياسي والاجتماعي، إلا أن هذا الانهيار لم يُولّد بعدُ وعياً جماعياً كافياً للعبور إلى مرحلة جديدة تبنى على الحق والأخلاق، بدلاً من السلطة والعقيدة/ الأيديولوجيا
ويمكن تحديد أبرز العوائق التي تمنع سوريا من التقدم إلى المرحلة ” الحقوقية- الأخلاقية” كما يلي:
- الإرث الاستبدادي والزبائنية: فما يقرب من نصف قرن عاشت سورية في ظل أنظمة جعلت الحقوق مشروطة بالولاء السياسي أو الطائفي. هذا الإرث يجعل من الصعب بناء ثقة بين المجتمع والسلطة الجديدة، لأن الذاكرة مليئة بانتهاك الحقوق.
- لم تفرز السلطة الجديدة في سوريا – حتى اليوم- بنية تعبر عن عموم الشعب السوري، بل تم تكريس نوع من “الحكم باسم الجماعة لا الشعب” وهو ما يغلق الباب أمام التأسيس لمرحلة حقوقية – أخلاقية واسعة.
- ثقافة الإقصاء: لايزال الخوف من” الآخر” سواءً الديني أو السياسي أو القومي يحكم سلوك السلطة.
- الطائفية والانقسام المجتمعي: رسخ نظام الأسد الهويات الطائفية والإثنية كبدائل عن الهوية الوطنية، فبناء مرحلة حقوقية- أخلاقية يتطلب مساواة مطلقة أمام القانون، لكن الواقع اليوم مشحون بالشكوك المتبادلة بين المكونات (عرب/أكراد، سنة/ علويين/ مسيحيين/ دروز …)، والخطر أن تتحول الحقوق إلى حقوق جماعية طائفية بدل أن تكون حقوقاً فردية مواطنية.
- الفساد وثقافة “الواسطة”: هذه الثقافة ما زالت سائدة داخل المجتمع، وتجعل الانتقال إلى نظام حقوقي مؤسساتي بطيئاً وصعباً.
- التدخلات الخارجية: القوى الإقليمية والدولية لا تدفع نحو دولة حقوقية مدنية، بل نحو ترتيبات نفوذ تخدم مصالحها، ما يعقد بناء عقد اجتماعي داخلي مستقل يضمن الحقوق.
هل من أفق …؟؟
ما يقرب من عشرة أشهر مضت على انهيار نظام القتل الأسدي، وصعود سلطة جديدة لا تؤمن بالدولة الحديثة ومفهوم المواطنة كقيمة، والوطن كجامع لكل أبنائه بغض النظر عن خلفياتهم وانتماءاتهم، وقررت من اليوم الأول بطريقة غير مباشرة على لسان جمهورها ومؤيديها بـ أن “من يحرر يقرر”…!! كل المؤشرات اليوم لا توحي بانتقال فعلي نحو المرحلة الحقوقية- الأخلاقية. على العكس تعيد الوقائع إنتاج منطق الدولة الغالبة، حيث القوة مقدمة على القانون، والهوية العقائدية مقدمة على المواطنة.
لقد خرج السوريون من سجن الاستبداد الأول، ليجدوا أنفسهم في سجنٍ ثانٍ بأبواب جديدة وأسوار أشد تعقيداً: غياب التمثيل الوطني، شلل العدالة الانتقالية، تهميش الأقليات، وتكريس سلطات فوقية لا تسمح بتداول حقيقي للسلطة أو تداول الأفكار.
السؤال الجوهري اليوم لم يعد: من يحكم سوريا ؟: بل كيف يمكن لسوريا أن تحكم من دون أن تُكسر مرة أخرى؟ وهذا يتطلب، حواراً تأسيساً مفتوحاً، تنبثق منه سلطة تتجاوز “حكم الفرد” أو “الجماعة الطليعية”، نحو دستور مدني، ومواطنة، ومصالحة مع الذات والتاريخ. عندها فقط يمكن الحديث عن العبور من مرحلة الدين- السياسة إلى مرحلة الحقوق- الأخلاق، من دولة العقيدة / الأيديولوجيا إلى دولة الإنسان.