تفاصيل سورية | هي سيرة سورية الأسد قبل أن تكون سيرتي الذاتية
بقلم: غسان المفلح
الكتابة عن تفاصيل سورية انطلاقا من حياة فرد أي فرد مهمة ليست سهلة. لأن الانحياز الأيديولوجي والسياسي والثقافي للفرد (أو الكاتب) هو الذي يلعب دوراً في الحديث عن تفاصيل مبعثرة هنا وهناك في تلافيف دماغه وذاكرته.
حاولت في الزوايا العشرة الأولى وأنا أكتب عن طفولتي وبداية مراهقتي، ألا أكتب شيئا لم أكن أعرفه في تلك المرحلة. لم أحاول أن أظهر كطفل يعرف ما يدور في الشأن العام، كي لا أتورط في هذه المعادلة التي قد تثقل أي سيرة ذاتية. لكن في سن المراهقة والمرحلة الثانوية بات الأمر أسهل بالطبع. لهذا أعتذر من القراء الذين انتظروا في الزوايا الأولى أن أحدثهم عن تلك الفترة من طفولتي وأشبعها بما كان يحدث في الشأن العام الذي قرأت عنه وعرفته لاحقاً.
الكتابة عن سورية الأسد التي عشتها كغيري من أبناء جيلي، وعاشتنا أيضا كمعارضين ومعتقلين وملاحقين أحيانا، وعن تفاصيلها اشكالية كبيرة في سيرة ذاتية أحاول لملمتها من ذاكرة تعرضت كما تعرض الشعب السوري لكل أنواع التزييف، والترغيب والترهيب.
مثال على ذلك:
أذكر في حرب تشرين 1973 أن والدي تسلم مسؤولية المنطقة الجنوبية من دمشق، في متابعة تأمين احتياجات المواطنين. كان “طنبر” المازوت في أول شارعنا والناس تصف بالدور لأخذ احتياجاتها في ظل الازدحام، وكنت كبقية الناس أقف مع تنكة المازوت كما أمرني والدي.
فجأة ظهر رجل ووضع تنكته في أول الدور. عندها والدي قال له لا يجوز قف بالدور لو سمحت. فما كان منه إلا أن قال بصوت عال: “أنا مرافق علي دوبا”.
قال له والدي: “والنعم، ولكن لأنك كذلك يجب أن تقف بالدور”. عندها صرخ بوالدي واقترب منه؛ فما كان مني أنا الصبي المراهق، إلا أن حملت تنكة المازوت الفارغة وضربته فيها على رأسه وشتمته. تدخل الناس وتم تسوية الأمر لكنني عرفت لاحقا من يكون علي دوبا. كان حينها نائبا لرئيس شعبة المخابرات العسكرية التي حكمت سورية مع بقية أجهزة المخابرات. لكن في ذلك العمر لم يكن يعني لي سوى أنه حاول التهجم على والدي. طبعا الشيء بالشيء يذكر. هذا الرجل لم يكن مرافقا لأحد وكان مجرد مساعد متطوع في الجيش. لأنه لاحقا زار والدي عدة مرات… وكلما رآني يبتسم ويقول لي: “جيد أني لم أمسكك لحظتها” ويضحك.
لهذا يمكنني القول: منذ الزاوية السابقة، لم يعد للزمن البيولوجي وترتيبه أي تأثير، لم يعد المرء قادرا على الاستمرار في كتابة هذه التفاصيل وفقا لتراتب زمني محدد، بل بات لزمن الذاكرة والسياسة والثقافة والعلاقات الاجتماعية وتداخل كل هذا معا في زمن اسميه زمن التفاصيل السورية في عهد الأسدية. هي سيرة سورية الأسد أولا، وقبل أن تكون سيرتي الذاتية.
الزمن منذ الآن وفي التفاصيل القادمة… هو زمن الحدث الأسدي في سورية الهشة. سورية التي تسلم فيها علي دوبا رئاسة شعبة المخابرات العسكرية منذ 1974. هذه الشعبة التي تخزن في مكاتبها، وذاكرة ضباطها وجلاديها، الجزء الحقيقي من تاريخ سورية الأسد السياسي والعسكري. من يستطيع الوصول إلى هذا التاريخ؟ تاريخ أمهات يبكين أبناءهن المغيبين في سجون سورية، اباء يهانون ويذلون بسبب موقف أبنائهم السياسي. سجون مليئة بالزنازين والزنازين مليئة بالشباب السوري.
تاريخ الأسدية الحقيقي وما كانت تفعله ولاتزال تفعله في الشعب السوري موجود لدى المؤسسات الأمنية كلها. ضباطها يتشاركون الاقتصاد النهاب والأسود. حيث هو عماد الفساد الأسدي.
في كل بلد هنالك من يكتب عن تاريخ المخابرات، هذا الملف لا يزال ممنوع الاقتراب منه. ممنوع الاقتراب من ملف الجيش الأسدي بشكل أساسي. لأنه بالضبط “جيش الأسد” ولم يعد جيش سورية منذ نهاية الستينيات. بالتالي لا يمكننا تغطية تاريخ سورية بتفاصيله دون فتح هذه الملفات.
انطلاقا من هذه اللخبطة في ذاكرتنا، أتقبل أي ملاحظة او حتى اقتراح من أي من القراء الأعزاء. سواء اعجبتهم الزاوية أم لا. إضافة لذلك لدي إشكالية أخرى في الواقع لم أصل لنتيجة في حلها، تتعلق بأسماء الأشخاص المزروعين في ذاكرتي. هل اكتب بأسمائهم الحقيقية؟ أم اخترع لهم أسماء؟ مثالا أختم فيه هذه الزاوية:
كنا كل يوم أنا وصديقي هيثم منذ بداية المرحلة الثانوية نقف أمام إعدادية (الفالوجة)، ننتظر صبية تبتسم، أو صبية تبهدل، لكن الذي حدث ذاك اليوم كان صاعقة بالنسبة لنا. فقد جاء إلينا صديق لنا ووقف معنا مع انه لم يكن لديه فتاة يحبها. شاهد فتاة في الصف التاسع، جميلة وناعمة شعرها مجعد. اقترب منها ونحن خلفه مباشرة، فقال لها: “ممكن كلمة؟” فردت عليه سريعا وبدون تفكير: “روح من هون يا منيك!”
لم نتمالك أنا وهيثم أنفسنا فانفجرنا بالضحك! هل أقول اسمه واسمها لأنها بعد زمن ليس ببعيد صارت صديقتنا اليسارية القومية العربية. كانت معجبة بالتيار الناصري في تحرير فلسطين لأنها فلسطينية. لهذا يجب ان تكون السلطات العربية كلها ناصرية. على قد فهمنا في تلك المرحلة. الله يذكرهما بالخير.
في الحقيقة بدأت تتكشف لي وأنا أكتب بعض الإشكاليات، كالتي ذكرتها. من حق من أريد ذكر أسمائهم أن أسألهم. أليس كذلك؟ من جهة أخرى عندما لا أذكر الاسم الحقيقي للصديق أو غيره، أشعر أن قسما من روح ما أريد كتابته قد فقد. وإلى زاوية قادمة..