سنة أولى تحرير: الصدمة، الفقد، الأمل، وبداية التعافي النفسي

كمال صوان * – العربي القديم

مرت سنة على التحرير في أجزاء من سوريا — لحظة مفصلية للعديد من السوريين، لكنها لم تمحِ آثار الحرب على النفوس. التحرير السياسي أعطى شعورًا بالحرية والانفراج، لكنه لم ينقذ الناس من جروح الفقد والصدمة التي خلفتها سنوات القمع والحرب. هذه المرحلة تمثل ما بعد الصدمة (post‑traumatic stress) حيث يستمر أثر التجارب القاسية على الإنسان والمجتمع، رغم تغيّر الظروف الخارجية (Herman, 1992).

الصدمة المركّبة، الفقد النفسي، وتأثيره على الكبار والأطفال

السنة الأولى بعد التحرير لم تكن هادئة، إذ واجه الناس الفقد المتعدد: أفراد من العائلة، أصدقاء، منازل، حنينًا للذاكرة والمكان. هذا الفقد يترك أثراً نفسياً مركباً، قد يظهر كحزن عميق، قلق، اكتئاب، أو صعوبة في الثقة بالآخرين.

بالنسبة للأطفال والشباب — وهم من أكثر الفئات تأثراً — فقدان الأمان، الاستقرار، والمحيط المألوف قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية مثل: كوابيس، قلق مزمن، صعوبة في النوم، انفصال عاطفي، أو انسحاب اجتماعي. هذا يتوافق مع نتائج دراسات ميدانية: مثلاً، في عينة من أطفال في مدارس داخل سوريا، أظهرت مراجعة أن نحو 35.1% منهم عرضة لأعراض PTSD، تليها مشكلات اكتئاب وقلق.

بمعنى آخر: التحرير السياسي ــ رغم قيمته الكبيرة ــ لا يعني شفاء تلقائياً من الألم النفسي أو من الجرح الداخلي.

قصص واقعية مختصرة — نبض من جرح الناس

قصة أم فقدت ابنها الصغير: بعد التحرير، ما تزال الأم تعاني من نوبات بكاء متكررة، خوف دائم على أبنائها الآخرين، وكأن الفقد الذي عاشته يطاردها يومياً.

قصة طالب مراهق: رغم خروجه من مناطق النزاع المباشر، إلا أن فقدان أصدقاء وجيران خلال الحرب جعله يعيش حالة من الغضب والانعزال، ويشعر بصعوبة في بناء علاقات جديدة.

قصة فتاة صغيرة: فقدت أحد والديها، وتعيش الآن مع كوابيس الليل، خوف من الأصوات العالية، وصعوبة في التركيز في المدرسة؛ لكنها تحاول التعبير عن ألمها عبر الرسم أو الكتابة.

هذه القصص — وما يشابهها كثير — تعبّر عن أن الفقد ليس مجرد حدث زائل، بل تجربة مستمرة تؤثر على القلب، الذاكرة، والعلاقات.

الأمل والتعافي النفسي :

التحرير السياسي فتح الباب للأمل، لكنه يحتاج إلى عملية إعادة بناء نفسية ومجتمعية: الأمل ليس شعوراً عابراً، بل طريق — يتطلب أهداف واضحة، دعم نفسي، وبيئة تأخذ بجرح الناس بجدية. نظرية الأمل في علم النفس الإيجابي (Hope Theory) تؤكد أن الأمل يشمل خطة، أدوات، وتأقلم مع الواقع (Snyder, 2002).

لهذا، الأمل في سياق ما بعد الصدمة يعني: استعادة الثقة بالآخرين، دعم أولئك الذين فقدوا، توفير بيئة آمنة للأطفال والشباب، والعمل على العدالة والمصالحة، بحيث يتحول الألم إلى بداية بناء إنسان ومجتمع.

خطوات نحو التعافي

لبناء شفاء نفسي فعّال بعد التحرير والفقد:

• الاعتراف بأن الصدمة والفقد أثّرا بعمق — ليس مجرد ماضٍ يُنسى.
• دعم نفسي فردي وجماعي، مع اهتمام خاص بالأطفال والشباب.
• إعادة بناء الانتماء والهوية — عبر المجتمع، الأسرة، التعليم، والإعلام.
• دمج الصحة النفسية ضمن جهود إعادة البناء (بيت — مدرسة — دعم اجتماعي) وليس الاقتصار على البنية التحتية فقط.
• تضافر جهود الدولة كاملة لتلبية مطالب الناس المحقة وتحقيق العدالة ودعم السلم الأهلي.

خاتمة

سنة بعد التحرير هي بداية، لكن التعافي النفسي رحلة طويلة. الحرب لم تترك فقط أثارا مادية، بل تركت جروحاً في الذاكرة والوجدان. إن أردنا أن يكون التحرير بداية حقيقية لحياة إنسانية، فعلينا أن نحوله إلى فرصة للتعافي — فردياً وجماعياً. فقط حين نُعالج الألم الداخلي، يمكننا أن نبدأ ببناء مجتمع حقيقي من جديد.

المراجع :

• بن حسين، محمد علي محمد. (2023). اضطراب كرب ما بعد الصدمة لدى اللاجئين السوريين بمدينة مكة المكرمة. Journal of Arts, Literature, Humanities and Social Sciences. JALHSS
• Kakaje, A., Al Zohbi, R., Aldeen, O., Makki, L., Alyousbashi, A., & Alhaffar, M. (2021). Mental disorder and PTSD in Syria during wartime: a nationwide crisis. BMC Psychiatry. SpringerLink+1
• Yilmaz, E., Tamam, L., & Cengisiz, C. (2024). Post‑traumatic stress disorder among long-term resettled Syrian refugees in Turkey: a comprehensive analysis of pre‑ and post‑migratory factors. Frontiers in Psychiatry. ResearchGate
• Theofanidis, D., et al. (2022). Post‑traumatic stress disorder among Syrian refugees: prevalence and mental health correlates. Frontiers in Psychiatry. Frontiers

…………………………………………………………………….

*باحث في مجال الصحة النفسية – مدرب سايكودراما