أرشيف المجلة الشهرية

مذكرات خالد العظم بين التزوير والتلفيق

عمرو الملّاح – العربي القديم

        لئن كان “أدب المذكرات”، أو “السيرة الذاتية” يُعدّ أحد أنواع الأجناس الأدبيّة الجديدة، التي عرفها الأدب العربي في القرن العشرين، إلّا أنّه ربما يمكننا أن نتلمّس بعض الإرهاصات، أو الومضات المبكرة لهذا الشكل من أشكال الكتابة الإبداعية في تراثنا العربي لدى شخصيات متفرّدة، سبقت زمانها، من أمثال أسامة بن منقذ (1095-1188) في كتابه “الاعتبار”، وابن خلدون (1332-1406) في كتابه “التعريف بابن خلدون”.

        وإنه لمن نافِلِ القول، إن كتب “المذكرات” أو “السير الذاتية”، وإن كانت تحظى بالأهمية في الكتابة التاريخية، إلّا أنّها لا تُصنّف دوماً بوصفها “مصدراً”، وإنما غالباً ما تكون “مرجعاً” يُستأنس به لا أكثر، إذ يبقى أصحابها، وإن كانوا شهوداً على عصر عاشوه، ويروون أحداثه من منظورهم بالطبع، بشراً لهم أهواؤهم ونزعاتهم وتحيزاتهم، التي قد تكون مقرونة بتعظيم ذواتهم وأنفسهم تارة، وبالمبالغة بالأدوار التي اضطلعوا بها وتضخيمها تارة أخرى.

        ومما لا ريب فيه أنّ المهمة الحقيقيّة للمؤرخ والباحث، إنما تتمثّل في إخضاع “المراجع” التاريخيّة- وفي عدادها كتب المذكرات، أو السير الذاتية بطبيعة الحال- التي قد يستقي معلوماته منها للنقد والتدقيق والتمحيص. وتلكم هي عملية أشد صعوبة من النقل التاريخي، وتقتضي من الباحث المتمكن من المناهج والأدوات والأساليب البحثية الرجوع إلى “المصادر الأولية”، التي تشتمل على الوثائق والسجلات والتقارير الرسمية والدبلوماسية إلخ، جنباً إلى جنب مع “المصادر الثانوية”، وفي عدادها الصحف والمجلات من جملة مصادر أخرى.

        ولعلّي أشير بهذا الصدد، إلى أنّ كتب المذكرات التي تصدر، إبان وقوع الأحداث ومواكبة لها وحدها، دون سواها التي يصح أن تُصنّف ضمن قائمة المصادر، وأمّا المذكرات التي تصدر عن صاحبها بعد مرور مدّة طويلة من الزمن، فإنها تصنف ضمن قائمة المراجع، على اعتبار أن كاتبها يكتب من وحي الذاكرة عن “ذكريات” عاشها، خبرها أو عاصرها.

        ولعل من بين أبرز التجارب التي عرفها التاريخ السوري في كتابة “المذكرات” أو “السيرة الذاتيّة”، تلك التي خلّفها وراءه خالد العظم (1903-1965)، الذي يُعدّ أحد أهم الزعماء السياسيين، إبان حقبة الجمهورية الأولى من تاريخ سوريا، إذ تولّى رئاسة الحكومة خمس مرات، بالإضافة إلى إشغاله منصباً وزارياً أكثر من عشرين مرة، وذلك من جملة مناصب دبلوماسية واقتصادية، يطول حصرها ويصعب ذكرها.

        وعلى الرغم مما تتضمنه هذه المذكرات- التي تقع في ثلاثة أجزاء ضخمة، والصادرة أول مرة تحت عنوان “مذكرات خالد العظم” عن الدار المتحدة للنشر ببيروت عام 1971– من كم هائل من المعلومات التي تتصل بأحداث شاهدها أو عايشها، بل وشارك في صنع الكثير منها، إلّا أنّه من اللافت للانتباه في هذا السياق، هو ما أثاره المؤرخ خير الدين الزركلي (1893-1976) في ترجمته للعظم في كتابه المرجعي “الأعلام”، من أن مذكراته نُشرت متسلسلة في صحيفة “النهار” اللبنانية، قبل أن تُطبَع كاملة في كتاب، وأنها لم تسلم من التحريف والتبديل، وإذ لم يشرح الزركلي ما اعترى مذكرات العظم من التحريف والتبديل بأي قدر من التفصيل، فإنه يجوز لنا ان نفترض بشيء من الطمأنينة، أنه ربما لاحظ وجود عدم تطابق بين ما نُشر من المذكرات متسلسلاً في صحيفة “النهار”، والكتاب الصادر لاحقاً بعنوان “مذكرات خالد العظم”.

        وبمعزل عن المآخذ والانتقادات التي عادةً ما تُوجّه إلى العظم في مذكراته في الصورة التي وصلت إلينا بها، من أنها لا تخلو من تضخيم ” الأنا” و”الذات”، تبرز الحاجة الملحة إلى ضرورة أن ينهض أحد الباحثين بمهمة العودة إلى أرشيف صحيفة “النهار”، فيجمع حلقات مذكراته المنشورة متسلسلةً فيها في كتاب جديد، بعد أن يحققها تحقيقاً علمياً رصيناً، يبيّن فيه أوجه الاختلاف القائمة بينها، وبين النسخة المطبوعة الصادرة عن الدار المتحدة للنشر. 

        وبصرف النظر عن تقييم المرء لتجربة العظم في السياسة والحكم سلباً كان أم إيجاباً، فإن ما لحق بمذكراته من التحريف والتبديل، إنما هو في واقع الحال عمل يرقى إلى جريمة التزوير، ولعل إعادة اكتشاف حلقات مذكراته المنشورة متسلسلة في صحيفة النهار اللبنانية، وتقديمها إلى جمهور القراء والمهتمين يشكل خطوة أولى، نحو صون الذاكرة السورية من العبث والتزوير والتلفيق. 

___________________________________

من مقالات العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024

زر الذهاب إلى الأعلى