اقتصاد الحصار: كيف فاقمت استعادة الأسد السيطرة على الغوطة، أزماته الاقتصادية؟
خاص – العربي القديم
لم يكن لأشدّ مؤيدي النّظام السوري تشاؤماً أن يتخيّل يوماً أنّ استعادة السيطرة على الغوطة الشرقية ستقلب أحلامه إلى كوابيس دائمة، في أن تستعيد الليرة السورية بعضاً، مما خسرته أمام الدولار، حين سجلت آنذاك أدنى مستوياتها، منذ انطلاقة الثورة السورية بواقع 500 ليرة لكل دولار,
دجاحة الحصار التي تبيض ذهبا!
فالغوطة التي خرجت عن سطوة الأسد أواخر 2012 ثمّ ما لبثت أن تحوّلت إلى منطقة محاصرة، عقب الهجوم الكيميائي في 21 آب 2013 والذي تسبب بأشنع مجازر في التاريخ الحديث، لم تكن مجرّد جبهة قتال تدور على تخومها المعارك، بينما تُقصف مدنها وبلداتها بكلّ أنواع السلاح، بل كانت “دجاجة تبيض ذهباً” المستفيد الأول فيها نظام الأسد.
فالحصار الذي فرضه الأسد، على أكثر من مليون إنسان في تلك البقعة الجغرافية الصغيرة كان سبباً في تحفيز المنظمات الإنسانية، الدولية والأهلية، لبذل مزيد من الأموال التي من شأنها تخفيف وطأة الحصار والجوع، لكن ما نفع تلك الأموال، إذا كانت الموارد مقطوعة؟
حينها استغل نظام الأسد تلك المعادلة أحسن استغلال، بل “أحقر استغلال” بالمعايير الوطنية الأخلاقية، وأوعز لحواجزه بأن تسمح لعدد محدود من التجار، أمثال “محيي الدين المنفوش”، بإدخال بعض المواد الأساسية، لكن وفق شروط تبدأ مع دخول الأموال إلى الغوطة، فيقتطع ما وصل في بعض الأحيان إلى أكثر من 20 بالمئة من قيمة الأموال التي تأتي بالدولار، ثم يفرض سعراً أدنى بنحو 15 بالمئة من السعر الحقيقي لسعر الدولار، أمام الليرة السورية، فيكون بذلك قد اقتطع ما يقارب 35 بالمئة من رأس المال.
الخطوة التالية كانت رفع أسعار المواد الأساسية من طحين، وسكر، وأرز، وزيت، ومحروقات، ومستلزمات طبية، وغيرها إلى أرقام فلكية تزيد في معظم الأحيان عشرة أضعاف، وفي بعضها تزيد عشرين ضعفاً عن السعر الحقيقي.
وكمثال… ففي عام 2104 وصل سعر الدولار إلى نحو 180 ليرة سورية، وكان سعر كيلو السكر في دمشق 200 ليرة سورية، كان يباع في الغوطة بين 3500 و4000 ليرة، وحين كان ليتر البنزين في دمشق بـ 50 ليرة كان في الغوطة ب2500 ليرة، وبينما كانت ربطة الخبز في دمشق ب25 ليرة كان في الغوطة ب700 ليرة.
غسان نوح: نظام الأسد كان استفاد من عائدات الحصار!
في تصريح خاص لـ “لعربي القديم” قال السيد غسان نوح، عضو المجلس المحلي في مدينة زملكا: إنّ سياسة الحصار التي انتهجها نظام الأسد، على مدار سنوات كان لها تأثير سلبي كبير، على قدرة المجالس المحلية، في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، علماً أنّ تلك المجالس ليس لها ارتباطات عسكرية، بل كانت مجالس مدنية أسست بغرض تنظيم حياة الناس، في غياب مؤسسات الدولة.
وأوضح نوح أنّ انخفاض القدرة الشرائية للأموال الواردة من الخارج، بسبب تلك السياسة تسبّب أيضاً بمشاكل مع بعض الجهات المانحة التي لم تكن على دراية تامة بآلية دخول الأموال، وأسعار الصرف، وحجم التفاوت بين قيمة المواد الأساسية، وسعرها داخل الغوطة، فالجهة التي كانت تموّل مشروعاً تظن أنّه قادر على تغطية احتياجات 500 أسرة لمدة شهر تتفاجأ، من أنّ الكتلة المالية المخصصة للمشروع لم تكفِ إلّا نحو 100 أسرة، وبالحد الأدنى من الاحتياجات.
لم يكن لدينا خيار آخر!
وأضاف نوح: “لم يكن لدينا خيار آخر، فالمجالس المحلية كانت مسؤولة عن تأمين مقومات الصمود لمئات الآلاف من السكان، رغم معرفتها بأنّ نظام الأسد المستفيد الأكبر من تلك المساعدات المقدّمة من الخارج”.
هذه السياسة الاقتصادية التي انتهجها نظام الأسد درّت عليه عشرات ملايين الدولارات في السنة الأولى من الحصار، لكنّ الاختراق الذي حققته فصائل الغوطة، بالتعاون مع فصائل برزة، والقابون المتاخمة، المنطقة التي كانت آنذاك في هدنة لوقف المعارك، وتمكنهم من فتح عدة أنفاق تجارية تحت الأرض أسهمت في تخفيف معاناة الأهالي في السنة التالية، قبل أن يتنبّه لها النظام، ويفرض حصاره على برزة والقابون أيضاً.
مطلع 2016 جدّد النظام حصاره بضراوة أكبر، بعد أن استطاع تحييد برزة والقابون، وتمكنه من السيطرة على معظم المساحات الزراعية بمحيط الغوطة، فأعاد المنفوش للواجهة وفرض إتاوات أكبر على كل سيارة تجارية تدخل الغوطة، ولم تسلم منه، حتى قوافل المساعدات الأممية التي كانت تدخل، بعد أن تفقد ثلاثة أرباع حمولتها، بإشراف الهلال الأحمر السوري، قبل أن تتوقف المعابر التجارية تماماً في كانون الثاني 2018 تمهيداً للحملة العسكرية الروسية الأشرس، والتي انتهت بتهجير سكان الغوطة إلى الشمال السوري، بين أواخر آذار، وبداية نيسان من العام ذاته.
لم تمضِ إلّا أشهر قليلة، حتى بدأت انعكاسات تلك السيطرة بالظهور على اقتصاد الأسد، فبدأت الليرة السورية سقوطاً حرّاً لم تفلح كلّ مساعي النظام، وداعميه في الحدّ منه، خصوصاً أنّ سياسة الحصار لم تكن مقتصرة على الغوطة وحسب، بل أيضاً في جنوب دمشق، ومضايا، والزبداني، ودرعا، وحمص، وهي المناطق التي كانت تدرّ قطعاً أجنبياً لم يكن لاقتصاد النظام أن يحلم به.