أرشيف المجلة الشهرية

قرأت في العدد الماضي: إستراتيجية المعنى في "العربي القديم"

همام البني

ماذا يعني أن يصدُر عن نخبة من الكتاب والإعلاميين السوريين المشتتين في أصقاع ست قارات وعشرات المدن حول العالم، عدد شامل من مجلة ثقافية، عن مجزرة حصلت منذ أكثر من أربعين سنة في بلد تتنافس للسيطرة عليه اليوم ٦ جيوش أجنبية، وعشرات، إذا لم نقل مئات الميليشيات، ويملك هذا الوطن، بطوله وعرضه، حاضراً معاصراً مليئاً بالمجازر؟

يبدو المشهد سريالياً، فوق واقعي، صراع صريح بين عبثية كامو وغائية شوبنهاور، لماذا يكتب كل هؤلاء،  ولمن؟ هل هناك حقاً، في الواقع السوري ما يمكن أن يقال، ويُكتب عنه بعد الآن؟

كثير من الأسئلة القلقة واجهها مشروع “العربي القديم” الذي أطلقه، الناقد والكاتب محمد منصور، بسؤال طرحه على مجموعة من المثقفين السوريين متعددي الاتجاهات والانتماءات، تجمعهم فكرة الوطن، سؤال له وقع خاص داخل كل سوري، عن مقال كُتب من مئة عام تقريباً، عنوانه: “لماذا يفشل السوريون في العمل الجماعي؟”.

عدد بعد آخر، وعلى شكل تحقيقات، مقالات رأي، وأبحاث تاريخية، كتبها نخبة من أهم الروائيين، النقاد، الكتاب، الإعلاميين، والفنانين السوريين، كعمل تطوعي، وبجهد يشبه “أسطورة سيزيف” وصخرته الشهيرة، من صاحب المشروع الذي كان يمكن أن يكتفي، بما كتبه سابقاً، عن “مجزرة حماة” في عمله التلفزيوني والصحافي الطويل؟

 أتى الجواب في عدد المجلة الأخير “حماة مدينة الأُباة” مكتملاً، لسؤال البدايات الذي انطلق منه مشروع “العربي القديم”: ينجح السوريون جماعياً، عندما تكمن الإرادة ويستحق المعنى.

قضية المعنى، والإنسان في مواجهة العبثية في عالمنا أزلية، وفي عالم عربي عاد يحبو في نكوصه الجديد، بعد محاولة الوقوف على قدميه، في عقد مضى، هو عمل اضطراري، ذو أولوية، للسوريين، الاضطراري مضاعف، وبلادهم تتصدر عبث المنطقة.

في التاريخ أمثلة عن شعوب قلبت هزائمها إلى أوضاع أكثر منطقية، وأفراد نقلوا مجتمعاتهم من الدمار إلى عتبة العقل، بإيجاد “المعنى”، أن تكون إنساناً فإن هذا يعني أن تكون مطالباً بمعنىً تنجزه، وبقيم تحققها، في كل يوم، وفي كل ساعة تأتي الفرصة لاتخاذ قرار، وهو القرار الذي يحدد ما إذا كنت تنوي أن تخضع، أو لا تخضع لتلك القوى التي تهدد بأن تسلبك من ذاتك، ومن حريتك الداخلية؛ وهو القرار الذي يحدد ما إذا كنت تنوي أن تصبح، أو لا تصبح لعبة في يد الظروف متخلياً عن الحرية والكرامة.

هنري كيسنجر في كتابه الأخير (القيادة)، وهو الدور الذي يجب أن يرتقي له المثقف، في غياب السياسي والعسكري الوطني، يقول: يتمركز فكر القادة وسلوكهم عند تقاطع محورين؛ المحور الأول ما بين الماضي والمستقبل، والمحور الثاني ما بين القيم الراسخة وتطلّعات مَن يقودهم. والتحدّي الأوّل هو التحليل، والذي يبدأ بتقييم واقعي للمجتمع؛ بناءً على تاريخه وأعرافه وقدراته، ومن ثمّ يجب أن يوازن القائد بين ما يعرف، والمستمدّ بالضرورة من الماضي، وما يتخيّل عن المستقبل، وهو تخميني وغير مؤكّد بطبيعته. إن هذا الإدراك الحدسي للاتجاه هو الذي يمكّن القادة من تحديد أهداف ووضع إستراتيجية، وكلاهما مَهمّتان جوهريتان، لا أبالغ، إذا ما قلت: إن فكرة “العربي القديم” تجسد المَهمتين: تحليل الماضي، وتخيل المستقبل. أما الأهداف السورية، فتبدو واضحة، ولا إستراتيجية لتحقيقها، أمام مشروع “الحيدريون، الزينبيون، الكبتاغونيون، المليشيات العابرة للحدود، وكل مشاريع التخديم والعمالة”. هناك “المهندسون، المثقفون، رجال الأعمال الوطنيون، ومشاريع البناء السوري”، حيث الجذور الممتدة بينهم، يجب أن تُسقى وتَقوى؛ لتتحول إلى إستراتيجية سورية بمقاربات تتبنى خطاب الحوار والمعنى، لا على النظريات الكبرى فقط، بل على تفاصيل الحياة اليومية.

في “القيادة”، يحلّل كيسنجر حياة قادة استثنائيين، من خلال إستراتيجيات فن الحكم التي جسّدوها. بعد الحرب العالميّة الثانية، أعاد كونراد أديناور ألمانيا المهزومة، والمفلسة أخلاقياً إلى مجتمع الأمم، من خلال ما أسماه كيسنجر “إستراتيجيّة التواضع” التي تتمثل في تقوية العلاقات مع الغرب، وإعطاء الأولوية للتعاون والمصالح، بشأن إعادة توحيد الدولة المنقسمة. “إستراتيجية التواضع” هذه تحديداً، يجب أن يتبناها كل سوري، كوسيلة للتواصل مع الآخر، وإذ تخلى الألمان عن إرث هتلر الثقيل، علينا التخلي عن كل ما ورثناه من عهود التفكك السوري.

في فرنسا، وضع شارل ديغول بلاده، إلى جانب الحلفاء المنتصرين، وجدّد عظمتها التاريخيّة من خلال “إستراتيجيّة الإرادة”، حيث طوّر أسلوباً تحويلياً في القيادة، يتميز باستحضار الرؤى المتجاوزة للواقع، وإقناع الآخرين بقبولها، وكان يرى أن السياسة ليست فن الممكن، بل فن الإرادة، الإرادة التي يجب أن يعتمد عليها المجتمع السوري؛ لتجسيد الوحدة الوطنية المتهالكة.

“إستراتيجيّة التوازن” لخّصت سياسة الرئيس الأكثر مثاراً للجدل في التاريخ الأميركي، ريتشارد نيكسون الذي انطلق من مبدأ أن المصالح القومية كثيراً ما تكون متضاربة، ولا تنطبق عليها دائماً نتيجة “الكل رابح”، فالتوازن في إدارة الخلافات هي السياسة الأكثر وعياً في تشكيل المجتمعات، وما أكثر خلافاتنا!

يقدم “العربي القديم” اليوم منظوراً تاريخياً للمجتمع السوري، في محيطه العربي، مستنداً إلى معارف وعمل آني. يرى كامو أن أسطورة سيزيف الذي تحدّى إله الموت في الأساطير الإغريقية، لا تكمن في عبثية الحياة، بقدر ما تصور تحديه، كفاحه المستمر، وشجاعته في الوقوف بوجهها ومواجهتها.

بين شهادة الروائي السوري فواز حداد “أن تكتب رواية عن مجزرة حماة”، والدراسة المفصلة للمؤرخ سعد فنصة “حماة رؤية تاريخية وإنسانية”، مروراً ب”مسيحيو حماة ومسلموها” المقال الذي كتبه الأب لويس شيخو في عام ١٩٠٢ مبرزاً الوجه الحقيقي لمدينة وصفوها زوراً بالتحجر والانغلاق، جاء بينهم، عشرات المقالات والمساهمات الخلّاقة لأدباء وكتاب سوريين، بينهم شبان من أبناء حماة، لأول مرة كتبوا عن معنى الانتماء لمدينتهم، وإحساسهم تجاهها على صفحات هذا العدد الاستثنائي الخاص الصادر عن مدينتهم، وجسدوا باجتماعهم “إستراتيجية المعنى”، واستمروا بإعطاء القيمة لكل ما صنعه السوريون في مشوار تحررهم الطويل.

“العربي القديم”، مع كل مشروع وحدوي يشبهه، يجمع المتناقض، ينقد بحكمة، ويختلف بأخلاق، هو استمرار لدحرجة صخرتنا السورية معاً دون كلل أو ملل.

 من مقالات العدد التاسع من مجلة (العربي القديم) الصادر عن شهر آذار/ مارس 2024

زر الذهاب إلى الأعلى