تكنولوجيا واقتصاد

تاريخ من الهيمنة: كيف تنهار العملات وكيف سيطر الدولار على الاقتصاد العالمي؟

ترجمة وإعداد: وسنان الأعسر

يطرح (باري آيكنجرين)، أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا، وكبير مستشاري السياسات الأسبق في صندوق النقد الدولي سؤالاً راهناً ومؤرقاً: “هل يتجه الدولار نحو خسارة هيمنته على المعاملات الاقتصادية والمالية العالمية؟”

وقبل أن يتابع تفسير السؤال يقول: “يبدو أن العديد من المعلقين يعتقدون ذلك”. موضحاً أن روسيا بالذات تأمل أن يكون هؤلاء المعلقون على حق في اعتقادهم، “نظراً لاستبعادها من النظام المصرفي في الولايات المتحدة وتعليق عضويتها في جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (سويفت)”. كما يذكرنا بأن الصين أيضاً تريد كسر هيمنة الدولار” من خلال تشجيع البلدان على إجراء المعاملات بالرنمينبي”. دون أن يغفل في السياق دعوة الرئيس البرازيلي (لويس إيناسيو لولا دا سيلفا) لمجموعة دول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقية) أن يعملوا على إيجاد عملة مشتركة كبديل للدولار.

فما هو تاريخ النقود في العالم؟ وكيف نشأ، وما هي العملة التي هيمنت على الاقتصاد العالي قبل ظهور الدولار، وكيف تنهار العملات العالمية؟!

(العربي القديم) يقدم استعراضاً شاملاً لهذا التاريخ الطويل استناداً إلى تحليل باري آيكنجرين في (Project Syndicate) وكريستيينالو في (Foreign Policy).

 الملح والشوكولا وأسنان الدلافين

يقال إن أبناء حضارة المايا القديمة كانوا يستعملون الشوكولا بدل المال، وكان التجار في جزر سليمان يفضّلون أسنان الدلافين. أما سكان جزر “ياب”، أو أصحاب البنية القوية على الأقل، فكانوا يميلون إلى استخدام الأحجار الضخمة؛ ناهيك عن الملح الذي كان له تأثير اقتصادي كبير وأحياناً كان سبباً لوقوع أزمات اقتصادية في بعض الحضارات. ثم جاء الجنيه البريطاني، وهو أقدم عملة عالمية لا تزال مستعملة حتى اليوم، ليرسّخ الاقتصاد العالمي قبل أن ينهار في بداية ومنتصف وأواخر القرن العشرين.

الإسترليني عملة القرن العشرين

يشكل تاريخ القرن العشرين فيما يتعلق بمكانة العملة العالمية، يُشكل إلى حد كبير تاريخاً للجنيه الإسترليني البريطاني، فقد كان العملة العالمية الرائدة في القرن السابق. ومن المعلوم أن بريطانيا خرجت من الحرب العالمية الأولى ضعيفة اقتصادياً ومالياً. فقد خسرت القوى العاملة الماهرة، وباعت أصولها لتمويل المجهود الحربي، والأهم أن بريطانيا تكبدت ديوناً بنحو 130% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يعادل ستة أضعاف مستويات ما قبل الحرب. وأثار هذا الأمر تساؤلات حول ما إذا كانت البلاد قادرة على الحفاظ على قيمة التزاماتها، أو بدلاً من ذلك، تضخيمها، كما فعلت ألمانيا وفرنسا وإيطاليا في نهاية المطاف.

ومع ذلك، على الرغم من ظهور الدولار كمنافس بحلول أوائل عشرينات القرن العشرين، فقد تم الحفاظ على المكانة الدولية للجنيه الإسترليني بنجاح. وقد اتخذ وزير الخزانة ونستون تشرشل قراراً بالتركيز على هذا الهدف، مع دعم واسع النطاق من الطبقة السياسية. وقد تراجعت الأسعار مرة أخرى نحو مستويات ما قبل الحرب، الأمر الذي سمح باستعادة أسعار الصرف السابقة مقابل الذهب والدولار. وتم النظر في اتخاذ خطوات صارمة، وتم اتخاذها في بعض الحالات، للحد من الإنفاق العام.

جاءت هذه السياسات على حساب القدرة التنافسية البريطانية، وبالتالي على حساب الإنتاج والعمالة. ولكن هذه التضحية كانت مقبولة لصالح إعادة ترسيخ دور الجنيه الإسترليني في الاقتصاد العالمي ــ وهو هدف اعتبره القادة الماليون يصب في مصلحتهم الخاصة، واعتبره الإمبرياليون ضرورياً للحفاظ على نفوذ بريطانيا الجيوسياسي. ونتيجة لذلك، بقي الدور الدولي الذي تلعبه العملة قائماً حتى خلال فترة الثلاثينات المُضطربة، حيث ظل محور منطقة الجنيه الإسترليني، وهي منطقة العملة التي تقودها بريطانيا.

خرجت المملكة المتحدة من الحرب العالمية الثانية أكثر مديونية. بالإضافة إلى ذلك، أصبح لديها الآن التزام رئيسي بتحقيق العمالة الكاملة، وهو ما يعني ضمناً سياسات مختلفة تماماً في التعامل مع الجنيه الإسترليني. وقد تم خفض قيمة العملة في عام 1949 في محاولة للتوفيق بين تحفيز الطلب والعمالة الكاملة مع التوازن الخارجي. وقد تم منع التصفية غير المنظمة لأرصدة الجنيه الإسترليني من قبل البنوك المركزية والحكومات الأخرى بالاستعانة بضوابط الصرف والتهديدات التجارية. تتعارض هذه التدابير مع مكانة العملة الدولية. وخلافاً لوجهة النظر التقليدية حول المنافسة المستمرة بين الجنيه الإسترليني والدولار، يُؤكد باحثون مثل مايليس أفارو أن التحول بعيداً عن الجنيه الإسترليني كان جارياً بالفعل في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

1956 وأزمة قناة السويس

تدخلت الجغرافيا السياسية في هذه المرحلة، عندما شاركت المملكة المتحدة في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 إثر قرار عبد الناصر تأميم قناة السويس وانهار الجنيه الإسترليني، رفضت إدارة الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور تقديم المساعدة حتى تقوم بريطانيا بسحب قواتها. وقد أدى ذلك إلى تراجع مكانة الجنيه الإسترليني العالمية إلى الأبد. ومع ذلك، أكدت هذه الأحداث الجيوسياسية صحة التراجع والانهيار الذي كان بالفعل أمراً واقعاً.

الدولار متوجاً كمعادل للذهب

في ستينيات القرن العشرين، هاجم الرئيس الفرنسي الأسبق «شارل ديغول» مكانة الدولار التي اكتسبها في ظل نظام «بريتون وودز» الذي وضع الدولار كمعادل للذهب حيث وافقت البلدان المشاركة على المحافظة على قيمة عملتها في نطاق هامش ضيق مقابل الدولار وسعر مماثل من الذهب عند الحاجة. وهكذا ربح الدولار مركز الصدارة كعملة مرجعية، ولهذا أشار ديغول إلى أن قبول الدول للدولار كمعادل للذهب مكّن واشنطن من أن تحصل على ما تريد من العالم بشكل مجاني. أمضى الكثير من الدول عقوداً في الشكوى من هيمنة الدولار والتي تسمح لواشنطن بحرية الاقتراض، بالإضافة إلى ما تشكله من مخاطر على النظام المالي العالمي.

تفوّق الدولار اليوم على جميع العملات الأخرى. واستطاع أكبر اقتصاد في العالم أن يطبع الدولارات حين يشاء. وهكذا بات الدولار العملة الاحتياطية الأكثر شيوعاً في العالم، والمسيطر على التجارة العالمية أيضاً.

في غضون ذلك، لا تزال تسعيرة النفط بالدولار، حتى لو انتظرت المملكة العربية السعودية والصين تغيّر هذا الوضع مراراً. يتم تسعير معظم السلع الأساسية وجميع المنتجات الأخرى بالدولار أيضاً.

مع ذلك، يتكلم الكثيرون في الوقت الراهن عن إلغاء الدولرة. خوفاً من العقوبات الأميركية، يبدو أن روسيا والصين بدأتا تكثيف جهودهما مجدداً لاستعمال عملة الرنمينبي في العمليات التجارية مع الشركاء، وتفكر دول “بريكس” في الوقت نفسه بعملة مشتركة جديدة كبديل آخر عن الدولار.

لقد تم إبعاد روسيا عن الدولار، والذي بدأ في أعقاب ضمها غير القانوني لشبه جزيرة القرم في عام 2014، مدفوعاً بالخوف من العقوبات الأميركية. ومنذ ذلك الحين، حذر عدد من المعلقين من أن الدول الأخرى، التي تشهد «تسليح» الولايات المتحدة للدولار، سوف تحذو حذو الكرملين.

الحلم الصيني

لا تعكس حملة تدويل الرنمينبي في الصين التوترات مع الولايات المتحدة فحسب، بل تعكس أيضاً الرغبة في إبراز القوة على الصعيد الدولي، مع انعكاس الدافع نحو الاكتفاء الذاتي الاقتصادي والمالي في جوانب أخرى من السياسة الصينية. ومن وجهة النظر هذه، من غير المرجح أن يظل تفوق الدولار الفريد قائماً في عالم يهيمن عليه اقتصادان كبيران متنافسان، ويستفيد أحدهما فقط من «الامتياز الباهظ» للدولار الأميركي.

أحلام مجموعة البريكس

وعلى نحو مماثل، تعكس حملة العملة الموحدة التي يقودها لولا وجهة نظر مفادها أنه لم يعد من الممكن إنكار القوة والنفوذ اللذين تتمتع بهما مجموعة البريكس، وأنهما يستحقان مقعداً على قمة الطاولة النقدية، سواء وافقت الولايات المتحدة أم لا.

هل تُبشر هذه التطورات الجيوسياسية العالمية إذن بنهاية هيمنة الدولار؟ التاريخ لا يوحي بذلك ــ على الأقل تاريخ القرن العشرين. من المؤكد أن هذا التاريخ يؤكد أن مكانة العملة الدولية يمكن فقدانها. ولكن حدوث ذلك يعتمد على تصرفات الدولة المُصدرة، وليس فقط على الظروف الجيوسياسية الخارجة عن سيطرتها.

الدولة المصدرة

يتمثل الدرس الأساسي إذاً في أن الجهة المُصدرة للعملة الدولية الحالية لديها القدرة على الدفاع عن هذا المركز أو إهماله. وبالتالي، فإن احتفاظ الدولار بدوره العالمي لن يعتمد ببساطة على علاقات الولايات المتحدة مع روسيا، أو الصين، أو مجموعة البريكس؛ بل إن الأمر سوف يتوقف بدلاً من ذلك على ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على السيطرة على ديونها المتصاعدة، وتجنب مواجهة أخرى غير مُنتجة بشأن سقف الديون، والنجاح في توحيد جهودها الاقتصادية والسياسية بشكل عام.

زر الذهاب إلى الأعلى