صحفية أمريكية تكتب شهادتها المروّعة: يوم دون مخدّر في حلب!
كلير مورجانا جيليس *
ترجمة د. علي حافظ
تواصل صحيفة “العربي القديم” تقديم شهادات أجنبية مختلفة، لأشخاص عاشوا، أو تواجدوا في سورية، أثناء ثورتها العظيمة، ضد الظلم والطغيان الأسدي، استطاعت عكس الوضع على أرض الواقع، بكل وضوح ومصداقية، ودون رتوش ومونتاج. في هذه المرة ننقل لكم ما رأته بأم عينيها الصحفية الأمريكية المستقلة كلير (مورجانا جيليس) التي سافرت إلى مدينة حلب، بعد تحريرها مباشرة من قبل فصائل الجيش الحر، لتكون شاهدة عيان على القصف الأسدي العشوائي، والخراب الذي أحدثه، والكوارث التي خلّفها في كل مكان، حيث وصفت يوماً كاملاً في حياة مستشفى ميداني أجرى جُلّ عملياته الجراحية، دون مخدر في تلك المنطقة. ويعدّ ما كتبته حينذاك شهادة نادرة، عن تلك الأيام العصيبة التي عاشتها المدينة التاريخية، والعاصمة الاقتصادية لسورية.
نشر هذا المقال في مجلة “أوغونيوك” الروسية، العدد 41، بتاريخ 15/10/2012، ص 26. لكن الصفحة تم تهكيرها، ولم تعد تفتح!
ثلاثة أشهر من القصف المتواصل
شوارع حي سيف الدولة الحضري في حلب شبه مهجورة تقريباً، والهواء مملوء بغبار ناتج عن أنقاض تحوّلت إليها المباني المحلية، لنحو ثلاثة أشهر من القصف المتواصل بالدبابات، والغارات الجوية. تفوح الرائحة الكريهة من أكوام القمامة المتراكمة على الطرقات، وتموء قطط الشوارع بصوت عالٍ، باحثة عن فضلات الطعام في مكبات القمامة. تصطف طوابير طويلة، للحصول على الخبز كلّ صباح، حيث يقف فيها عدد من السكان الذين لم يغادروا منازلهم بعد.
أضواء الشوارع لا تعمل، وفي الليل يأتي الضوء الوحيد من القمر. تختبئ مجموعات من الجيش السوري الحر في الأبنية الباقية مسلحة ببنادق كلاشينكوف، وعبوات حارقة محلية الصنع. تندفع شاحنة صغيرة محملة بمدفع رشاش ثقيل في الخلف، عبر الشوارع الخالية من حين لآخر، لكن معظم الثوار يتنقلون في أنحاء المدينة بالسيارات، دون أي دروع أو أسلحة. يتفوق جيش الأسد على المتمردين، من حيث العدد، ومن حيث الأسلحة بالطبع: لا تهدأ انفجارات الألغام، وقذائف الدبابات طوال الليل. يمتلك المتمردون عدداً قليلاً من “الدوشكا” (مدافع رشاشة ثقيلة مركبة على بيكابات – ملاحظة المجلة)، لكنهم يعتمدون في الغالب على بنادق كلاشينكوف، وقاذفات قنابل يدوية.
أرضية ملطخة بالدماء وملاءات زرقاء
تصل السيارات واحدة تلو الأخرى إلى مستشفى “دار الشفاء”، وهو أحد المستشفيات القليلة العاملة في أحياء المتمردين (يبدو أنه الأكبر – ملاحظة المجلة)، مصدرة أصوات زمامير جنونية. دمرت قذائف الجيش النظامي جزءاً من طوابقه العلوية التي أُغلقت الآن. وكان قسم الطوارئ، الذي تبلغ مساحته 30 متراً مربعاً على الأكثر، كلّ واحد منه ملطّخ بالدماء، عبارة عن غرفة فيها مكتب استقبال.
تستمر السيارات والبيكابات والشاحنات، في الوصول إليه، ونقل الجرحى بوتيرة سريعة ومسعورة، لدرجة أن بعض الضحايا الذين يعانون من إصابات أقلّ خطورة يتمّ نقلهم على الفور إلى مستشفيات أخرى.
استقبل المستشفى يوم الخميس (4 أكتوبر/تشرين الأول – ملاحظة المجلة) ما لا يقل عن 50 جريحاً: جميعهم تقريباً من المدنيين، بينهم حوالي 15 طفلاً. توفّي عشرة، ممّن جُلبوا في غضون ساعات. كانت هناك لحظة قام فيها الطاقم الطبي، بعلاج سبعة جرحى على الأرض، لأنه لم يعد هناك أي أسرّة، أو نقالات جراحية متحركة، أو حتى نقّالات عادية… فتاة صغيرة مصابة بجرح في العنق، رجل أطلق عليه عيار ناري متفجّر، وآخر لديه ثقب رصاصة في كتفه الأيسر، ويتنفس بصعوبة وتسارع. هناك طفل صغير لم يرتدِ سروالاً، ربما بلغ عمره 12 عاماً بين الجرحى، أخذ يتكوّر على نفسه ويرتجف، ويبكي بهدوء، ألقوا نوعاً من القماش على ساقيه، لكن الأطباء والممرضات لم يكن لديهم الوقت، لفعل أي شيء آخر، وبصرف النظر عنهم، لا يوجد من يهدّئه، ولم تكن جروحه شديدة، لدرجة أنهم عالجوها على الفور.
أشار رجل عجوز بحّ صوته من الصراخ بيأس وكرر: “لقد ضربوا المدرسة، ضربوا المدرسة من الطائرة!”. تُعدّ المدرسة أحد الملاجئ المؤقتة التي وجد فيها سكان البلدة المتبقون في هذا الحي مأوى، على أمل أن يكون وجودهم هناك أكثر أماناً من المنزل، لكن أملهم ذهب أدراج الرياح. صاح الرجل بغضب: “بشار حمار! وحش…!”.
تم إحضار رجل في منتصف العمر إلى المستشفى، فارق الحياة، وتُرك بالقرب من الرصيف. ألقى أحدهم ملاءة زرقاء على الجثة، لكن الدم بقي يتسرّب من جمجمته المكسورة باتجاه الطريق. بعد قليل وصل ابنه، اقترب من الجسد، وهو يشكي ويبكي بشكل غير متماسك، ثم انقضّ على الحائط بقبضتيه، وكأنه يريد أن ينفث حزنه عليه، وبصعوبة جرّوه من يديه الملطختين بالدماء. بعد نصف ساعة وصل بقية أفراد العائلة، في شاحنة مليئة بالصبية الذين يذرفون الدموع، وأخذوا الجثة لدفنها!
قامت مجموعة من مقاتلي الجيش السوري الحر، بإحضار جرحاهم إلى المستشفى، ولم يغادروا، إلا بعد تأكدهم من أن الأطباء قد باشروا في علاجهم، ثم تركوهم وقفزوا إلى شاحنة ذات إطارات نصف منفوخة، محملة بعشرات المتمردين الآخرين، وعادوا إلى خط المواجهة. في ذلك الخميس كان الخط يبعد 500 متر فقط من الطريق المؤدي إلى المستشفى.
“الأطفال يعانون بشكل خاص”
زكريا رجل ذو وجه لطيف ومتعب، مكتوب على قميصه عبارة “اللاعب الأفضل”، ويبدو أن ذلك ليس من قبيل الصدفة، فهو مثل المحاسب يُحصي الجرحى والقتلى بدم بارد، يقلّب صفحات سجله الملطخ بالدماء، للتحقق من قائمة الوافدين الجدد إلى المستشفى، ويحتفظ بأوراق وبطاقات جميع المصابين، من أجل عائلاتهم. درس زكريا الاقتصاد في الجامعة، وبدأ العمل في المستشفى قبل شهرين، في خضم معركة حلب التي لا تزال واحدة، من أكثر المعارك دموية في تاريخ الحرب السورية المستمرة!
ومن المثير للدهشة أنه حتى وسط هذه المذبحة القاسية، هناك لحظات سلام ومرح. وقف طالب الطب عبد الكريم البالغ من العمر 27 عاماً جانب الصيدلية على مسافة من زكريا، وابتسم معتذراً، ثم التفت إليّ، ليضايق رفاقه: “يريد أن يتزوج، هل يمكنك مساعدته؟” لينفجر المستهزئون بالضحك.
يحاول عبد الكريم أن يشرح قصته، يتحدث الألمانية بطلاقة، حيث أوشك على إكمال دراسته في كلية الطب بجامعة توبنغن (إحدى أقدم الجامعات الألمانية في ولاية بادن فورتمبيرغ، والتي تشتهر بشكل خاص بكلية الطب، وإسهاماتها في اللاهوت المسيحي الليبرالي – ملاحظة المجلة). قضى هذا الطالب إجازة شهرين يعمل في مستشفى “دار الشفاء”. عائلته في أمان، تعيش في قرية بالقرب من حلب، حيث لا يوجد قتال.
يقول موضحاً: “أهلي يعارضون وجودي هنا، وما زلنا نتجادل حول هذا الموضوع”، ثم يؤكد بأن معظم الأدوية التي تصل إلى المستشفى يتم تهريبها إما من تركيا، أو من مناطق سيطرة النظام، ويضيف: “أصعب شيء بالنسبة للمدنيين هو أنهم لا يملكون طعاماً، ولا عملاً ولا مالاً، ويعاني الأطفال بشكل خاص!”.
عند أبواب المستشفى، كان هناك صبي آخر اسمه محمد يبلغ من العمر 12 عاماً، ويقود دراجته على شكل دوائر، ويضحك بمكر. يحاول الطبيب البيطري محمد، الذي ساعد أطباء “دار الشفاء”، منذ بدء القتال في حلب إقناعه بالتوقف، لإزالة الشظية من أنفه. يرفض الصبي في البداية، لكنه يفرح بعد ذلك، لأن العملية كانت بسيطة وناجحة.
يكتب بفخر اسمه، واسم والده باللغة العربية على قصاصة من الورق، وينسخ بعناية الأحرف اللاتينية من أقرب شاحنة: TOYOTA. ولكن بمجرد أن تنفجر سيارة في مكان قريب، يختفي هدوء الصبي، يقفز في حالة رعب، ويدير رأسه بلا وعي، محاولاً تحديد مصدر الخطر. يربت الطبيب البيطري على رأسه مؤكداً له أنها مجرد سيارة، وأنه لم يصب أحد بأذى، ولم يصب هو بأذى، لكن محمد لا يزال يحتاج لبضع دقائق حتى يتعافى، ويعود إلى رشده. أخيراً، يركب الصبي دراجته، ويقودها حول أكوام الحجارة والحطام وحيداً، في فضاء الشارع القريب.
* كلير مورجانا جيليس صحفية أمريكية مستقلة متخصصة في شؤون الشرق الأوسط. حصلت على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة هارفارد عام 2010، وبعد ذلك كتبت بانتظام تقارير عن الأحداث الجارية في مناطق السلطة الفلسطينية، ومصر وليبيا وسوريا نشرت على صفحات “أتلانتيك”، و”فورين بوليسي”، و”ديلي بيست”، و”يو إس إيه توداي”، وغيرها من وسائل الإعلام الأمريكية البارزة.