تفكيك بِنية الخوف بينَ الأيديولوجيا والواقع
إذا كانَ الخوف هوَ، في دلالتِهِ الأوَّليَّة، ردَّة فعل انفعاليَّة نفسيَّة وفطريَّة تتَّسِمُ بالاضطراب والخشية بفعل التَّعرُّض لخطر ما، أو الاقتراب من مصدر خطر ما، فإنَّ هذهِ الآليَّة الطَّبيعيَّة التي تنطوي في أحيانٍ كثيرةٍ على حالات توقُّع حدوث مكروهٍ ما بناءً على قرائن معلومة، أو بناءً على أمارات مظنونة، قد تصبحُ آليَّة نفسيَّة مَبالَغ بها بوصفِها تتحوَّلُ إلى جُملة قيودٍ كابِحَة للفعل، ومُعطِّلة للإقدام وشجاعتِهِ، وقاتلة للمُبادَرات الخلَّاقة الجديدة.
بهذا المَعنى، قد يُمكِنُ الحديث، من حيثُ المبدأ، عن قيمة تعريفيَّة مُهيمِنة نستطيعُ عبرَها وضع تمييز (نسبيّ حذر نوعاً ما)، بينَ الخوف الواقعيّ بما هوَ عامل بناء، والخوف المُتوهَّم بما هوَ عامل هدم؛ فأيُّ خوفٍ يمنَعُ (الأنا) من التَّعيُّن في (ذات) لها حُضورُها الكيانيّ المُنتِج فرديَّاً أو جمعيَّاً أو كليهما في آنٍ معاً، هوَ خوفٌ مُعطِّلٌ للحياة والإنجاز والإنسانيَّة الحُرَّة الأصيلة.
ولعلَّ هذهِ المُحاوَلة التَّعريفيَّة الأوَّليَّة من قِبَلي تفتَحُ باباً عريضاً للبَحث المعياريّ فلسفيَّاً ووُجوديَّاً وأخلاقيَّاً، كمَا أعتقدُ، للتَّمييز النِّسبيّ خارجَ التَّأطير أو التَّنميط الأُحاديّ السَّطحيّ، وبمنأىً/ أو بإعادة النَّظَر في الاختزاليَّة المُتعالية المُتعارَف عليها والسَّائدة إلى حدٍّ كبير، فينتفي/ أو يتمُّ تعليقُ الحُكم التَّعميميّ القائل مثلاً، إنَّ المُنتمي إلى حقل التَّديُّن هوَ شخصٌ جامدٌ أو غير حيويّ بسبب خوفِهِ من قُيود الاعتقاد (أو بالعكس)، أو إنَّ المُنتمي إلى حقل الفكر أو الأيديولوجيا الوضعيَّة هوَ شخصٌ مُنفتِحٌ حيويٌّ بسبب انتفاء قيود الخوف (أو بالعكس)، ذلكَ انَّ تلكَ الأحكام تُبنَى على مُسَبَّقات نظريَّة تُصادِرُ بالقوَّة وُجودَ الفاعل بالفعل عبرَ تأطيرِ هُوِيَّة هذا الفاعل بسِمات وضُروب وصفيَّة قَبْلِيَّة اعتقاديَّة، بدَلاً من أنْ تُبنَى تلكَ الأحكام على أساس مُعايَرَة فعل الفاعل وصلتِهِ بالحدَث أو بالموقف أو بالمَقولة، واختبار جميع تلكَ الطَّبَقات، على أنْ نُؤكِّدَ أنَّ مثلَ هذا التَّوجُّه لا يُلغي ضرورةَ النَّقدِ ومِحوريتِهِ، لأيِّ شيءٍ كانَ، ولكُلِّ شيءٍ مَوجودٍ ومُعطَىً، غيرَ أنَّهُ يُحاولُ أنْ يُعيدَ ترتيبَ كيفياتِهِ.
فلسفَةُ قلبِ الأحكامِ انطلاقاً من ماهيَّةِ الخوف غيرِ الثَّقافويَّة:
(أولويَّةُ فعلِ الأنا/ الذّات الواقعيّ/ الوقائعيّ على مُسَبَّقاتِ ما قبلَ الفعلِ)
إنَّ السُّؤال المِحوريّ بخُصوص ماهيَّة الخوف لا يتعلَّقُ بجوهر الثَّقافة، كأنْ يُقالَ مثلاً على نحْوٍ إقصائيٍّ تعميميٍّ، أو على نحْوٍ استئصاليٍّ دُونيٍّ: إنَّ سبب تخلُّف العرب أو المُسلمين الآن هوَ الأيديولوجيا الدِّينيَّة الغيبيَّة المُشبَعة بالخوف المُعطِّل للعقل والوعي والوُجود والإبداع، فهذا حُكم (ثقافويّ) يستمدُّ دلالتَهُ من موقف تفاصُليّ مُسبَّق، ومن وصائيَّة فوقيَّة أو من رغبويَّة مُتعالية عن حركيَّة الواقع، ويردُّ (الأنا/ الذّات) إلى صندوق (النَّظَريَّة/ الأيديولوجيا) الثَّابت والمُغلَق ككُتلة صمَّاء، بدلاً من أنْ يردَّ (الأيديولوجيا) إلى حركيَّة (الذّات) القادِرَة على الفعل والإزاحة والتَّجديد.
فالواقعُ هوَ مُنطلَقُ الثَّقافة والنَّظَريَّات، وأفعالُ الإنسان هيَ المُحرِّكُ الرَّئيس الذي يطوي طبَقات بِنيويَّة تكوينيَّة، بمَعنى أنَّنا لا يُمكِنُ أنْ ننفيَ الأبعاد الجدَليَّة في حُضورَ مُسَبَّقاتِ التَّربية والثَّقافة والأدلجة، وتأثيرات الرَّأسمال الرَّمزيّ المَوروث والمُكتسَب المُؤسِّس للمِخيال الفرديّ والجمعيّ، فالنَّفي الحدِّيّ الشُّموليّ هوَ أمرٌ غير منطقيّ، لكنَّ تكوينَ الأحكامِ ينبغي أنْ ينطلِقَ من الفعل والحدَث الوقائعيّ بوصفِهِما المِحور المُهيمِن الذي يتمُّ انطلاقاً منهُ بناء أُفُق الفَهم والتَّفسير وتفكيك بِنية الأفعال والأحداث والمواقف.
وهكذا، أقولُ: قد تكونُ أيديولوجيا ما مُعطِّلة للإبداع والإنتاج والعمران في حقبةٍ ما، على عكس حقبة أُخرى كانت فيها عامِلاً (رُبَّما مِخياليَّاً أو يوتوبيَّاً) دافعاً للتَّخليق في جميع المَجالات، وبهذا التَّمحيص تتساوى درجات مقياس الخوف بينَ الخوف البنَّاء والخوف الهدَّام في جميع الأيديولوجيَّات البشريَّة، وتغدو المعياريَّة مُستمدَّةً من مَدَى حيويَّة حركيَّة الجدَل في/ وبينَ تلكَ الأيديولوجيَّات، والمُستوى الواقعيّ/ الوقائعيّ بما هوَ مُستوى الفعل والسُّلوك والمُمارَسة وحُضور/ أو تعيُّن (الأنا) بوصفِهِ ذاتاً فرديَّة أو جمعيَّة في العالَم.
بهذا المَعنى نستطيعُ أنْ نضعَ معياريَّة جديدة لقياس درجات الخوف، واختبار الأحداث والأفعال بوصفِها مصدر الحُكم، وهذا لا يُلغي أهمِّيَّةَ، أو الحاجةَ إلى الرَّبط بالفكر والاعتقاد ومُجمَل المُسَبَّقات التَّكوينيَّة…إلخ، لكنْ، وكمَا ذكرتُ سابقاً، بعدَ مُقايَسة ما يحدث في الواقع، وكيفيَّات انبساط وقائعِ ذلكَ الواقع، مُنطلَقاً ودلالاتٍ.
وأظنُّ أنَّهُ، وعبرَ هذهِ الآليَّة الإجرائيَّة، نستطيعُ مثلاً، أنْ نفهَمَ كيفَ يعجزُ طبيبٌ أو مُهندسٌ أو أكاديميٌّ عن الانفكاكِ من ثقافة الخوف الشَّفويَّة والاعتقاديَّة في مُجتمعِهِ، وتحويل عملِهِ من حقل (العمَل التِّقنيّ النفعيّ البَحت) إلى حقل (العمَل/ الفعل التَّخليقيّ والإبداعيّ)، في حين يتمكَّنُ عاملٌ بسيط، أو فلَّاح أُمِّي تشرَّبَ ثقافة الخوف الشَّفويَّة والاعتقاديَّة نفسِها في المُجتمع نفسِهِ من وأد تلكَ الثَّقافة بإغناء العمَل وإشباعهِ بمكنونات الفعل وليبيدو الفاعليَّة والتَّخليق والابتكار، وهوَ ما يُعيدُنا إلى فكرة ضرورة تعليق ضُروبِ الصِّفات المُسَبَّقة قدر المُستطاع، ومُمكنات بناء الأحكام على حركيَّة الموجود البشريّ في العالَم، وأحداثهِ الوقائعيَّة، بوصفِ ذلكَ هوَ المُنطلَق في المُعايرَة والتَّفسير والتَّأويل وبناء (داتا) الأحكام، لا العكس.
مقياس درجات اختلاف الخوف:
(آليَّة إجرائيَّة/ جدَليَّة نسبيَّة)
لعلَّ هذا الاتِّجاه الذي أتحدَّثُ عنهُ بمَا هوَ مُنطوٍ على آليَّةٍ فكريَّةٍ وعمَلانيَّةٍ للحُكمِ البنَّاء ولقياس درجات الخوف، يتأسَّسُ منهجيَّاً على تمييزين خاصَّيْن بالقيَم المُهيمِنة:
1_ اختلاف الخوف البنَّاء عنِ الخوف الهدَّام (بينَ الخوفِ بوصفِهِ عاملَ بناءٍ، والخوفِ بوصفِهِ عاملَ هدمٍ).
2_ اختلاف الفعل الوقائعيّ عن مُسبَّقات الأحكام الأيديولوجيَّة وقَبْليَّات الصِّفات، وضُروبِها.
بهذا، نكونُ أمامَ حوارٍ جدَليّ عمَلانيّ واختباريّ، يستمدُّ مصدرَ وُقودِهِ المعياريّ لتشكيل حُكم نسبيّ على درجات الخوف (والنِّسبيَّة ضرورة لا غنى عنها في كُلّ هذا الاشتغال نظَريَّاً وعمَلانيَّاً) من انبساطِ الذّات فعلاً وانغراساً في حدَثٍ ما، أو في مَوقفٍ ما، أو في مَقولَةٍ ما (أي: في نصٍّ ما من نُصوص الوُجود)، بوصفِ انبساطِها هذا انفتاحاً _في_ فَجْوَةِ اختلافٍ جديدٍ عند كُلّ مرَّة.
قياس درجات اختلاف الخوف _في_ نمطيْن من الأحداث/ الأفعال:
(كيفيَّات حُضور الخوف بينَ المُستوييْن السِّياسيّ والإبداعيّ)
رُبَّما، يكونُ من المُفيد أنْ أدعمَ توجُّهي السَّابق دعماً أكبر، كمَا أظنُّ، بالحديث عن مُستوييْن لقياس درجات اختلاف الخوف:
الأوَّل يتعلَّقُ بالمُستوى السِّياسيّ؛ إذ كيفَ نُفسِّرُ اختلاف مواقف أشخاصٍ ينتمونَ إلى الحقل الأيديولوجيّ نفسِهِ (دينيّ أو وضعيّ أو حتَّى طبقيّ أو علميّ)، وتعدُّد طرق وطرائق تعاملِهِم وسُلوكهِم وأفعالهِم إزاء حدَث سياسيّ ما كثورات الرَّبيع العربيّ مثلاً؟ لماذا انتصرَ بعضُهُم على الخوف المُعطِّل الهدَّام، ولا أقولُ أخفقَ آخرون، بقدر ما احتموا، نوعاً ما، بذلكَ الخوف، أو سوَّغوا وسوَّقوا كثيراً من مواقفِهِم وأفعالِهِم عبرَهُ؟ ثُمَّ، كيفَ نُفسِّرُ التقاء مواقف/ أو أفعال أُناس ينتمون إلى خلفيَّاتٍ ومَرجعيَّاتٍ أيديولوجيَّة مُختلفة (ومُتناقضة جذريَّاً أحياناً) إمَّا في تثوير الخوف وتحطيم جدرانِهِ السِّياسيَّة، أو في تأبيدِهِ، والاختباء في جُحورِهِ المُظلِمَة؟ ألا يدفعُنا ذلكَ، إذن، إلى العودة مُباشرَةً إلى حركيَّة الواقع ودور الذّات الوقائعيّ ليكونا مصدر الفهم والتَّفسير والتَّأويل قبلَ الاعتماد على المُسَبَّقات المعياريَّة التي تُصادِرُ الأحكامَ وتزيِّفُها بقَبْليَّات الأدلجة وأسوارِ الصِّفات؟
المُستوى الثَّاني الذي نستطيعُ عبرَهُ نقد المعياريَّات الاعتياديَّة والتَّعميميَّة السَّائدة في توظيف الخوف للحُكم على النَّاس، هوَ: المُستوى الإبداعيّ.. ففي هذا المُستوى نتساءل ببساطة: لماذا تتفاوتُ المُنجزاتُ الإبداعيَّة (بوصفِها تُمثِّلُ الفعل الوقائعيّ والحدَث الحاضِر) لأفرادٍ يمتلكونَ المواهب نفسِها (تقريباً، وعلى نحْوٍ افتراضيّ نسبيّ طبعاً)، ودرسوا في المدارس والأكاديميَّات نفسِها، وتوفَّرتْ لهُم الظُّروف نفسِها (بوصفِ هذهِ الشُّروط تُمثِّلُ مصدراً تقليديَّاً معياريَّاً لبناء الأحكام انطلاقاً من اختزاليَّة المُسَبَّقات وضُروبِ الصِّفات الأُحاديَّة)؟
إنَّهُ (الاختلاف) في توظيف الخوف فعليَّاً يا سادة..!!
بعضُ المُبدعينَ (من شعراء أو كُتَّاب أو مسرحيِّين أو تشكيليِّينَ أو…إلخ) يُذعنونَ للمُسَبَّقاتِ، ويستسلمونَ للحساباتِ الضَّيِّقةِ، ويُفكِّرونَ في المكاسبِ، أو يخشونَ الصِّدامَ مع سُلطاتِ السَّائد السِّياسيّ أو الاجتماعيّ أو حتَّى مع سُلطاتِ السَّائدِ الفنِّيّ التَّنميطيّ والتَّقليديّ والمَقبول من النُّخبة المُسيطرة على المشهد الثَّقافيّ أو من جُمهور المُتلقين. أمثال هؤلاء، وهُم الأكثريَّة عبرَ التَّاريخ، ينتصِرُ عليهِم الخوفُ الهدَّامُ المُعطِّلُ والمُقيِّدُ آتياً إليهِم بلبوسِ مُسَبَّقات الرَّاهن الآني، ومُعطياتِهِ.
أمَّا المُبدعونَ الكبار عبرَ التَّاريخ، فهُم من انتموا إلى إبداعاتِهِم إلى حُدود التَّماهي، ونسيان كُلّ شيء تقريباً خارج مُعطى المُطلَق الفنِّيّ.. هؤلاء لعبوا مع الخوف كفاعلٍ تاريخيّ، فغرَّروا بهِ، وحرفوهُ عن طبيعتِهِ، وجعلوا منهُ وُجوداً كيانيَّاً وكينونيَّاً للفعل ولجماليَّاتِ المُغامَرَة ومَخضِ الغِياب ومُحاوَرةِ الغامض والمَجهول والاحتفاء بالفرادة والخُصوصيَّة والاختلاف والتَّغيير.
من سِنِّ الخوف إلى سِنِّ القلَق:
(إبداعيَّة الخوف الوقائعيّ)
انطلاقاً ممَّا سبَق، أرى الآتي:
في الإبداع بكُلِّ مَعانيهِ ودلالاتِهِ، ينتفي الخوفُ الهدَّامُ والمُقيِّدُ المُعطِّلُ، ويحضرُ الخوفُ البنَّاءُ والخلَّاقُ، لكنْ بدلالةٍ أعمَق وأكثر جِدَّة وأصالة: في هذا المَوضِع تحديداً؛ يلِدُ الخوفُ شكلَهُ ومَضمونَهُ الأصيل والجديد والمُغايِر، حينَما يبلغُ سِنَّ: القلَق..
عندما يتخلَّقُ القلَقُ في النَّفسِ، يتخلَّقُ الإبداعُ في الفعل..
فالقلَقُ وُجوديَّاً إحضارٌ لأصالةِ الكينونة بمَا هيَ شجاعةُ الانتماءِ في كُلِّ انفتاحٍ لفَجْوَةِ الاختلاف إلى جَماليَّاتِ المُمكِن والمُحتمَل والمَجهول. فالخائف شخصٌ يمتلكُ يقينيَّات مُريحة دائِماً، وأجوبة مُنجَزَة قَبْليَّاً لتفسير الواقع/ ووقائعِهِ، والحُكم مُسَبَّقاً على الأشخاص والجماعات والأُمم والأيديولوجيَّات وحتَّى على لاعبي كُرَة القدم مثلاً (بغضّ النَّظَر عن انتمائِهِ القوميّ أو الطَّبَقيّ أو العقائديّ أو الأيديولوجيّ)، وهوَ بهذا يخصي الفعل والفاعليَّة بمجرفةِ الخوف المُزمن.
في حين أنَّ الإنسان القلِق، لا يُذعِنُ لجوابٍ مُنجَزٍ، ولا لأحكامِ مُسَبَّقاتٍ أيديولوجيَّةٍ، ولا لمُصادراتٍ معياريَّةٍ تنهَضُ على قَبْليَّاتِ الصِّفاتِ. إنَّهُ يهجسُ بالفرادة والحُرِّيَّة والاختلاف، وينهمُّ بالمُغامَرَة والاكتشاف والكشف والإدهاش والدَّهشة والشَّغف.
هوَ من يبثَّ الرُّوح في خوفِهِ القديم الزَّائف (سواء أكانَ مَوروثاً أو مُكتسباً)، ويتمرَّدُ على سياساتِ السُّلطاتِ المُختلِفَةِ (التِّلقائيَّةِ أو المُمنهجَةِ) في اشتغالِها الدَّؤوبِ على التَّحكُّمِ والسَّيطرةِ والتَّنميطِ بتعميمِ ثقافةِ الخوفِ المُقيِّدِ، مُحوِّلاً ذلكَ الخوفَ إلى حجر صوَّان يدأبَ على حكِّهِ بحجارة الواقع وصُخور الفعل، ذلكَ أنَّ الفعل الأصيل والفريد والتَّغييريّ، ليسَ عمَلاً سهلاً، ولهُ ثمنهُ الباهظ جدَّاً، والعمَلُ بلا ماهيَّتِهِ كفعلٍ هوَ عمَلٌ نفعيّ مُتكوِّرٌ على خوفِهِ، لا مُفجِّر للخوف ليكونَ قلَقاً كيانيَّاً كُلِّيَّاً يتجذَّرُ عبرهُ المرءُ في الشَّجاعَةِ والجَمالِ والحُرِّيَّةِ.
الاختلاف بينَ خوفِ التَّملُّك وخوفِ الكينونة:
(الحُضور والغِياب بينَ الزَّائِف والأصيل)
في هذا المَنحى: ثمَّةَ فرقٌ مِحوريٌّ بينَ خوفِ التَّملُّكِ وخوفِ الكينونة؛ فأنْ يمتلكَني/ أو يتملَّكَني خوفي، يختلفُ عيانيَّاً وكُلِّيَّاً عن أكونُ خوفي..
أنْ أكونَ خوفي يعني أنْ أُشعِلَ فيهِ نيرانَ القلَقِ والتَّساؤلِ والثَّورةِ، وأنْ أقتُلَ الغُربَةَ والاغترابَ بالمُغامَرَةِ والشَّجاعَةِ وأفعالِ النَّقدِ والتَّجاوُزِ، في حين يعني أنْ يمتلكَني/ يتملَّكَني خوفي أنَّني مسلوبُ الإرادَةِ والحُرِّيَّةِ والمُبادَراتِ، وأنايَ عاجِزَةٌ عنِ التَّعيُّنِ انبساطاً في فَجْوَةِ كينونَةٍ أصيلَةٍ خارِجَ سجنِ الغُربَةِ والاغتراب.
ولهذا، أيضاً، دلالةٌ تمييزيَّةٌ تنطوي على الفرقِ بينَ العقل النَّقديّ المُتحرِّك والعقل النَّقليّ السَّاكن، من جانبٍ أوَّل، وبينَ الرُّوح المَهزومة القانِطة والمُروَّضة والمُؤتلِفَة/ المُنسجِمَة، والرُّوح المُتمرِّدة الرَّافضة والمُخلخِلَة/ المُختلِفَة، من جانبٍ ثانٍ.
رأى هايدغر أنَّ وُجود (الدَّازاين Dasein: المَوجود البشريّ في العالَم/ الوُجود _ هُناك) هوَ وُجود استباقيّ_ للموت، ومن هذهِ الاستباقيَّة يستمدُّ الكائنُ إمَّا زيفَ حُضورِهِ/ غيابِهِ في الوُجود، أو أصالةَ ذلكَ الحُضور/ الغِياب.
من جانبي أقولُ: المَوجود وُجوداً أصيلاً في العالَم هوَ المَوجود _في_ الفعل الاستباقيّ المُحوِّل لكُلّ خوف إلى قلَق عبرَ ذلكَ الفعل، والمَوجود وُجوداً زائفاً في العالَم هوَ المَوجود _في_ مُسَبَّقات الفعل الاستباقيّ (المَوجود فيما قبلَ الاستباقيَّةِ بوصفِها فعلاً)، والمُستنقِعُ/ المُثرثِرُ في مُصادَرات معياريَّة أيديولوجيَّة وأحكام قيمة قَبْليَّة وصفات أُحاديَّة تعميميَّة واختزاليَّة تتعامَلُ معَ الأفراد والجماعات بوصفِها كُتَلاً صمَّاء مُتعالية وثابتة ومُغلَقة: هذا المَوجودُ ليسَ مَوجوداً _ للموت، بقدر ما هوَ مَوجودٌ _ للخوف.
الوُجود البنَّاء _ للموت فعلٌ وقائعيٌّ ونقدٌ وتغييرٌ وفرادةٌ واختلافٌ يُحرِّرُ الخوفَ كطائرٍ خلَّاق ينضحُ من مَعين القلَق ليبني عالَماً جديداً ومُجاوِزاً لكُلِّ بالٍ وقديم ومُتكلِّس.
الخوف ليسَ مذمَّة؛ إنَّما هوَ حاسَّة وحدس وفعل ينبسطُ خارِجَ منطق الثُّنائيَّات الحدِّيَّة التَّقابُليَّة: التَّفاؤل والتَّشاؤم، مثلاً..
… أو يكونُ الخوفُ الوقائعيُّ البنَّاءُ لا الخوفُ المُتوهَّمُ المُعطِّلُ (إذا أسَّستُ على لُغةِ (دولوز): “الواقعيُّ هوَ الافتراضيُّ”)؛ هوَ افتراضيَّةٌ استباقيَّةٌ أصيلَةٌ عبرَ فعلِ الارتماءِ نحْوَ المُستقبَلِ، وذلكَ عطفاً على استباقيَّةِ الوُجود _ للموت الهايدغريَّة..
الخوف، إذن: هو مَنبعُ المُبادَرَةِ، وأسّ العمَل/ الحركة والفعل والابتكار، لا العمَل/ السُّكون والجُمود والتَّقليد..
هوَ شجاعةُ الجَمالِ في مُقابِل قباحةِ السُّلطاتِ، وجُبْنِها..
الخوف حُرِّيَّة حينَما نستطيعُ بمَا نحنُ عليهِ اليوم في سوريَّة والعالَم العربيّ، من تحويلِهِ إلى إرادةِ قلَقٍ خلَّاقٍ وبنَّاءٍ وتغييريٍّ، فما من شُعوبٍ نهضتْ عبرَ التَّاريخ إلّا بعدَ طولِ مَخاضٍ وآلامٍ وتضحياتٍ، وحالَما تعلَّمتْ تلكَ الشُّعوبُ، إدارةَ الخوف إدارةً _نحْوَ_ الحضارة.
________________________
* مازن أكثم سليمان: شاعر وناقد ومُفكِّر سوريّ، حائز دكتوراه في الدِّراسات الأدبيَّة من جامعة دمشق 2015. بدأ بنشر الشِّعر والدِّراسات النَّقديَّة منذ العام 1999. أطلَقَ سلسلة بَيانات (شِعريَّة/ نقديَّة) في الأعوام 2015 و2018 و2020، هيَ على التَّوالي: (الإعلان التَّخارُجيُّ) و(الجدَل النِّسْيَاقيّ المُضاعَف _ الانتصاليّة/ البينشِعريَّة) و(شِعريَّة المُكاتَبَة _ الشّاعرُ السّائِحُ المُستأجِرُ)، كمَا واكَبَ إطلاقَ الشَّاعر (حسَّان عزَّت) لبَيانِهِ الشِّعريّ المُعنوَن بـِ (بَيان الغضَب الشِّعريّ) الذي نشرَهُ في صفحات ومَواقِعَ إلكترونيَّة عدَّة منذُ 21 آذار/ مارس 2022، وهْوَ الذي اختارَ لهُ عنوانَهُ الرَّئيس، فضلاً عن مُساهمَتِهِ في نقاط عدَّة أُخرى في البَيان. نشَرَ عشرات القصائد والنُّصوص والمَقالات والدِّراسات النَّقديَّة والفكريَّة ومُقدِّمات الكُتُب والحوارات في الجرائد والمجلّات والمَواقِع الإلكترونيَّة بانتظامٍ منذ العام 2014، ولهُ أكثَر من مَخطوط أدبيّ (شِعر ونُصوص)، وأكثَر من كتاب نقديّ وفكريّ قيْد النَّشر. حازَ جائزة الطَّيِّب صالح العالميَّة للإبداع الكتابيّ _ مَجال الدِّراسات النَّقديَّة (المركز الثَّاني) _ دورة 2018/ 2019.
مُؤلَّفاتُهُ:
1_ قبلَ غزالة النَّوم _ شِعر _ دار الفاضل _ دمشق/ سوريَّة _ 29 آذار/ مارس 2006.
2_ حركيَّة الشّاغِلات الكيانيَّة _ مُهيمِنات شِعريَّة في زمن الثَّورة والحرب في سوريّة (2011 _ 2018) _ دراسات نقديَّة _ دار موزاييك للدِّراسات والنَّشر _ إسطنبول/ تركيا _ 29 آب/ أغسطس 2019.
3_ انزياح أساليب الوجود في الكتابة الإبداعيَّة بينَ مُطابَقات العولمة واختلافاتِها _ دراسة نقديَّة _ الشَّركة السُّودانيَّة للهاتف السَّيَّار (زين) _ الخرطوم/ السُّودان _ 2019.
4_ بعدَئذٍ قد تنجو المُصافَحات _ شِعر _ دار موزاييك للدِّراسات والنَّشر _ إسطنبول/ تركيا _ 21 آذار/ مارس 2021.
5_ مَأخوذاً بجَمالٍ ثانٍ _ شِعر _ دار خطوط وظلال للنَّشر والتَّوزيع _ عمَّان/ الأردن _ 24 كانون الثَّاني/ يناير 2023.