أرشيف المجلة الشهرية

غادة السمان: مصطفى طلاس جدّد فن السيرة... وخضر الآغا يعقب: تفوقت على كبار مدّاحي السلاطين!

في عام 1997 كتبت الأديبة المعروفة غادة السمان في زاويتها الأسبوعية في مجلة (الحوادث) اللبنانية، مقالا مدائحياً مثيراً للاستغراب حول مذكرات مصطفى طلاس التي أهداها إليها، بعنوان: “مصطفى طلاس: تجديد فن السيرة” العربي القديم أعادت نشر نص غادة السمان في زاوية (لعبة الأيام)  مشفوعاً بتعليق نقدي للكاتب والناقد خضر الآغا بعنوان: “غادة السمان تتمكيج أمام مرآة طلاس”

***

مصطفى طلاس تجديد فن السيرة

بقلم: غادة الســـمان

-1-

* شعرت أنني سيد هذا الكوكب الأرضي مادام قلب لمياء يخفق بحبي. كنت أتصور نفسي نجماً من النجوم يسير حالما عبر إحدى المجرات منطلقا إلى اللانهاية…  كان في جسدها “كشلح” زنبق، وفي نفسها كباقة بنفسج، وفي جميعها لعتاق قوس قزح… وتمر فأتبعها كالظل شارداً عنها ومنشغلاً فيها، كالطفل تماماً لا يفارق، ولكن ولا أخف.

* استقبلتني بقميص نومها الأحمر الناري. ورغم أنني من برج الثور وإن اللون الأحمر يطير صوابي، إلا أنني تماسكت ولم أفعل شيئا سوى أن ضغطت على يدها ساعة الوداع… “وما كل من يهوى يعف إلاذا خلا”.

* عندما استدرت لتنعطف صاعدة، تابعتها بنظراتي التي لاتخطئ، فوجدت الله سبحانه وتعالى قد أكمل صنغته في استدارة الأرداف، لكأنما خلقها مباشرة بعد سفر التكوين… أما الشعر الغجري فيأخذك مرغماً إلى عوالم أخرى لا يحلم بها أنس ولا جان”.

-2-

تلك السطور التي تتوهج شعراً، لم يكتبها روائي محترف، أو شاعر متفرغ لأبجديته، بل سطّرها وزير دفاع عربي هو العماد أول مصطفى طلاس في مذكراته “مرآة حياتي” التي تكرم بإهدائي إياها، وقد اخترتها لكم في معرض القول بأن المذكرات على درجة عالية من الجمال الأدبي والحس الشعري. ستتساءلون: ما الصلة بين “وزارة الدفاع” و”وزارة الشعر”؟

الصلة حميمية وقديمة، والعماد أبو فراس طلاس يحيى في مذكراته تراثاً عربياً عريقاً، هو اقتران الحماسة والقتال بالشعر عندنا منذ قديم تاريخنا. وهذه الصلة بين وزارة الحربية ووزارة الأبجدية غالية على قلب العماد منذ بداياته، والذين اطلعوا مثلي على كتابه “شاعر وقصيدة – مختارات شعرية 1980” سيلحظون أن مصطفى طلاس اختار لغلاف كتابه الاستشهاد ببيتين للشاعرة عنترة العبسي بالذات يقول فيهما:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني

وبيض الهند تقطر من دمي

فوددتُ تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبّسم

وهكذا فاقتران القتال بالشعر (وبالثغور الجميلة) هو من بعض تراثنا. ويشعر أبو فراس بالتصاق روزحي بأبي فراس الحمداني، يرجع إلى زمن الفتوة، ويروي في مذكراته أنه كان في العاشرة ونيّف حين رافق والده في مهرجان ضد الانتداب قائلاً عن نفسه: ” وكان شعر الفتى العبسي الصغير يقف كلما أطلق الخطيب سهما فيه كلمة عن بني عبس، أو سل سيفاً فيه عنترة، وشعرتُ فعلا بأن أمجاد أبي الفوارس هي أمانة في أعناق أهلنا في الرستن، أو أن أكتافنا هي المسؤولة عن نقل المفاخر كي نجسدها في الحاضر.

-3-

حظيت هذه المذكرات بالكثير من الاهتمام النقدي السياسي على حساب قيمتها الأدبية. وأنا حين أتحدث عن المذكرات بمنظار أدبي وإنساني، لا أحاول أن أغمطها قيمتها السياسية التاريخية، لكنني أترك ذلك لأهل السياسة، ولرضاهم بما جاء فيها، وخلافهم مع العماد ومناقشتهم له. ومن طرفي أحب التنويه بلغتها الأدبية الشعرية الراقية المنسجمة مع عشق أبي فراس الرستني للغة العربية، وهو القائل: “الذين لا تعتز قلوبهم وأعطافهم أمام سحر البيان وروعة الجمال وإبداع العقل فليعذروني” وذلك في معرض تقديمه لكتابه “شاعر وقصيدة” حين تمنى أن يكون قد منح القارئ قطرة صافية من بحر لغتنا العصماء ونفحة شذية من نفحات شعرها المبين”.

وبالرغم من الجمال الإبداعي البياني لـ “مرآة حياتي” تظل مزيتها الولى -بنظري- في تجديدها لفن كتابة المذكرات السياسية العربية، حيث يدمر طلاس “طابو” تزوير الحقيقة البشرية بجرأة  عفوية شهية. إذن القيمة الفنية لمذكرات طلاس تكمن أولا في حقل تطوير كتابة المذكرات العربية عامة والسياسية خاصة، بصدقه وشجاعته وابتعدهعن الزيف والمواعظ، فسيرته أقرب إلى نص أدبي مشوق حقاً، منها إلى أمثولة ومحاضرة مضجرة.

وهكذا تمتاز هذه المذكرات بالصدق الفني والجمال اللغوي والإشارات التراثية والطرائف، والحكايا الشعبية والأساطير المحلية والنوادر، وتزخر باللمسات الإنسانية وتتوهج بروح الدعابة وخفة الظل والظرف، والاستشهادات الشعرية إلى جانب “شيطنة” شاعر بريء كطفل يتحدث بعفوية حتى عن نساء الفناء الخلفي للقلب.

على النقيض من كاتب المذكرات السياسية العربية المعتاد، الذي يرتدي غالباً مجموعة لابأس بها من الأقنعة، وفي مقدمتها قناع الرجل الذي لا يخدش كريستال قلبه مرور هدب جارح لعين جميلة، كما لو أن الاعتراف بهذا الجزء الجميل الحميم من الحياة يسيء إلى المكانة السياسية لصاحبه.

والحق يقال أنني لست وحدي من أضحى يضيق بالرياء الاجتماعي، بل إن الناس كلهم في زماننا تعبوا من الزيف الذي يكلل هامة معظم المذكرات السياسية المحنطة، التي ترى عبرها المؤلف مومياء ملفوفة بخرق “الأصول” التقليدية، بدلا من إنسان حي يعمل ويكافح ويناضل، وله قلب يرتعش أيضاً (ياللهول)!

وقد نشرت صحيفة (الشرق الأوسط) مؤخراً مذكرات كاتب عربي كبير، فبعث أحد القراء برسالة يبدي فيها إعجابه بالمذكرات، واستياءه المدهوش لأن هذا الأديب لم يذكر أنثى في مذكراته – كما لو كانت رجساً من عمل الشيطان – وهذا الاعتراض العفوي هو لسان حال ملايين العرب الذي يعيشون على مشارف القرن الواحد والعشرين، ويعرفون  أن الأطفال لا ينبتون داخل “الملفوفة” ولكن ما حيلتنا مع زمان صار فيه السياسيون يكتبون بجرأة تفوق جرأة الأدباء، والدليل  في الدكتور غازي القصيبي وروايته (العصفورية) والعماد مصطفى طلاس ومذكراته وسواهما. 

-4-

بكثيرمن الرهافة تحدث العماد طلاس عن نساء عمره، فنجده حفيداً وفياً للشعراء العربالذين كانوا يشببون بحسناوات القبيلة، لكن أبو فراس الرستني أعف لساناً وأكثر ستراً للمثالب. وهكذا فإنه لم يجرد نفسه في مذكراته من إنسانيته، لكنه أيضاً لم يسئ إلى أحد، وقام بصدقه وجرأته بنقلة أدبية نوعية في فن كتابة المذكرات عامة، والسياسي “الملتزم” منها بالذات، فثمة نظرة عربية (نضالية) هزلية شائعة، تتوهم أن كشف حكاية حب لطل ما إساءة له، وأنه لا مكان في القلب الثوري للحب. والإساءة الحقيقية هي في هذه النظرة بالذات لأنها تسيء في نظري إلى فكرة النضال و”تسطحها” فالمناضل إنسان يفيض حباً نحو الكون المثالي والجمالي، ولم يزرع له أحد قلباً من الحجر، والصورة اللا إنسانية التي تقدمها لنا الأديبات “الوطنجيات” لشخصية المناضل جعتله بعيدا عن المصداقية، وخارج مرمى الود والتعاطف، ومضجراً لا ينطق إلا بالمحاضرات الطنانة، والرطانات الطبلية والكليشيهات المعلّبة، كأنها تمثال برونزي عليك تقديسه، في وثنية أدبية بغيضة وجاهلية جبانة.

والعماد يتحدى بصدقه لعبة الأقنعة، ويربح رهان “أنسنة المناضل” وفي كتابه صورة حية محببة لجانب إنساني يغيب عادة عن كتب المذكرات السياسية المتبجحة والمتجهمة مثل جلسة “إخدان الخاطر”! والفترة التي تغطيها المذكرات (1948- 1968) في جزئيها، على طول وعرض 1642 صفحة من القطع الكبير، زاخرة بالعيون والقامات والحسناوات… ربما لضرورة الشعر أيضاً. فالقارئ يشعر معظم الوقت أن حباً كبيراً وهاجساً واحداً يحتل  حياة المؤلف، تجسده رفيقة عمره لمياء الجابري التي تبدو معه على غلاف الكتاب في صورة تتوهج فيها جمالا وسحراً وبراءة. فجمال الصورة لدى النساء يجذب الشاعر في أبي فراس الرستني، لكن ما كان يهزه في العمق هو الجمال المقترن بجمال الروح وجمال الفكر، كما لدى زوجته لمياء التي يلقبها بـ”ربة الوجه الصبوح والعيون التي تذيب القلوب”.

وقلائل اليوم يعرفون أن لمياء الجابري هي من أوائل الكتاب العرب الذين التفتوا إلى أهمية أدب المقاومة في الأرض المحتلة عامة، وشعر محمود درويش خاصة. ولعلها أول من اهتم بأصدار كتاب يذكرنا بذلك، ويخص درويش بالرعاية حين لم نكن بعد قد سمعنا به. وسبقت بذلك سواها كما سبقت الشعراء في تلخيص ماهية الحب في عبارة سطرتها للعماد أيام خطبتهما على الوجه الثاني لصورتهاوتقول فيها: أنا لمياء… أنا كل شيء أو لا شيء.

وبعد، مذكرات العماد طلاس نص أدبي جميل يبين كيفية كتابة 1642 صفحة في جزئين يسأل القارئ بعد مطالعتمها: متى يصدر الجزء الثالث؟

مجلة (الحوادث) العدد (2012) 20/2/1997  

غادة السمّان تتمكيج أمام مرآة مصطفى طلاس

بقلم: خضر الآغا – العربي القديم

قد تكون الكاتبة السورية الشهيرة غادة السمان تفوقت، بالفعل، على كبار مدّاحي السلاطين في تاريخ العرب، حين ربطت بين ظاهرة الشاعر-الفارس العربي، مثل عنترة بن شداد وأبي فراس الحمْداني من جانب، والعماد أول مصطفى طلاس (وزير الدفاع السوري 1972 – 2004) من جانب آخر! فقد اعتبرت في مقالها المنشور في مجلة الحوادث عام 1997، أن الصلة بين “وزارة الدفاع”، و”وزارة الشِعر” حميمة وقديمة، وأن “أبا فراس طلاس يشعر بالتصاق روحي بأبي فراس الحمداني منذ زمن الفتوة” (كذا!)! ذلك أن “اقتران القتال بالشعر هو من بعض تراثنا”، كما قالت.

نحن نعرف أن عنترة كان فارساً عظيماً، والتاريخ يشهد على صولاته وجولاته في ميادين القتال، وأنه في غمرة ذلك، قال شِعراً لم نزل نتذكره، ونقرؤه، ونُعجب به، وكذلك الأمر، بما يتعلق بأبي فراس الحمداني الذي سُجن، وهو يقاتل، وقال في سجنه شِعراً، لا يمكن للذاكرة العربية أن تنساه! فأن يرتبط الأدب بالفروسية معهما ومع أمثالهما، فذلك من بداهات الأمور، أمّا أن يرتبط ذلك بمصطفى طلاس؟ نحن كسوريين وكغير سوريين أيضاً، نعرف كما نعرف أسماءنا، أنه لم يستلّ سيفاً، ولم يُشهر مسدساً قط، إلا في وجه خصوم حافظ الأسد وخصوم الحركة التصحيحية، وخصوم النظام السوري، فقد قال في إحدى مقابلاته: إنه “حافظ على نظام الأسد طوال أربعين عاماً”، واعترف أنهم “وصلوا إلى السلطة بالبندقية، ومن يرد انتزاعها منهم، عليه أن يمتلك بندقية أكبر!”، فما الشيء الذي حدا بغادة السمان أن تربط بينه، وبين عنترة وأبي فراس الحمداني، وذلك النسق من الشعراء- الفرسان؟ لا يمكن تفسير ذلك، إلا بوصولها إلى حالة عليا من التزلف والتقرب من السلطة والنفاق! ذلك أن مذكرات “مرآة حياتي”، هي حرفياً مذكرات السلطة، ومذكرات حافظ الأسد في حفاظه عليها بالجبروت والقتل. هي مذكرات تزييف التاريخ والحاضر علنياً، وعلى عينك يا تاجر! وأظن أن السمّان تعرف ذلك جيداً، ذلك أن هذا النوع من المعرفة لا يحتاج إلى بحوث واستقصاءات، بل هو واضح في يوميات السوريين، منذ حكم البعث ومنذ انقلاب الحركة التصحيحية، إلا أن “طبع النفاق”، لدى السمّان أعلى من “طبع الحقيقة” بكثير.

الأنكى من ذلك كله، أنها تقول إن المزية الأولى لـ “مرآة حياتي”، هي “في تجديدها لفن كتابة المذكرات السياسية العربية، حيث يدمّر طلاس تابو تزوير الحقيقة البشرية بجرأة عفوية شهية”، و”بابتعاده عن الزيف”! وإنها “تمتاز بالصدق الفني والجمال اللغوي… وتزخر باللمسات الإنسانية…”! والحقيقة، إن مثل تلك الصفات، لا يمكن أن تُطلق حتى على الجاحظ، والتوحيدي، وآباء الكتابة العربية، إلا بمزيد من الأدلة والحذر، فأخلاقيات المعرفة، وقبل ذلك أخلاقيات الإنسان، تتعارض مع مثل هذا الكذب الصريح والتزلف اللامحدود.

تورد السمان جملة للعماد أول حول علاقته بالنساء، إذ يقول: “استقبلتني بقميص نومها الأحمر الناري، ورغم أنني من برج الثور، وأن اللون الأحمر يطيّر صوابي، إلا أنني تماسكت ولم أفعل سوى أن ضغطت على يدها ساعة الوداع”، وتعتبرها مثالاً على أخلاق الفارس، حيث “ما كلّ من يهوى يعفّ إذا خلا…”. وفي الحقيقة، فإنني أعتقد أن كل شخص في هذه الدنيا، سمع الحادثة ذاتها من أكثر من شخص، وقد سمعتها شخصياً من أكثر من ثلاثة شعراء، واثنين من معارف أبي أيام الشباب، حيث إن امرأة ساحرة الجمال أدخلت الواحد منهم إلى غرفة نومها بقميص نومها الأحمر الشفاف، ودعته إلى السرير، إلا أنه العفّة صرخت، فغادر ولم يفعل سوى أن “ضغط على يدها مودّعاً”!

___________________________________

من مقالات العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024

زر الذهاب إلى الأعلى