الرأي العام

نوافذ الإثنين: عن البرغل السوري والفاصولياء الإسطنبولية

تشمل ثقافة الطعام جوانب متعددة من الثقافة والتقاليد والمعتقدات المتعلقة بالأكل والشرب. كما أنها تعكس تاريخ وجغرافية المنطقة المشار إليها، وتأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية والدينية والبيئية على تفضيلات ونمط الأكل للشعب.

حديثنا لهذا اليوم سيكون عن البرغل السوري كمادة أساسية في المطبخ السوري، وعن الفاصولياء البيضاء كوجبة شعبية تركية، تجدها في جميع المطاعم، وقد عبّر أحدهم مازحا: إن الفاصولياء هي من ضمن ”الأمن القومي التركي“.

بعرين

هي قرية سورية مغرقة في القدم، يعود تأسيسها إلى العصر الهلنستي ولا تزال فيها بعض الآثار التي تعود إلى العصور القديمة، وآخرها آثار عثمانية، تابعة لمحافظة حماه، تقع على طريق حمص-مصياف، وتبعد 22 كم عن مصياف. بُنيت القرية على سفح جبل، وينبسط أمامها سهل شاسع، كان القمح من أهم ما يزرع فيه، لذلك اشتهرت القرية بصناعة البرغل المأخوذ من هذا القمح.

بقايا آثار في بعرين السورية

حزور

قرية جبلية سورية صغيرة وفقيرة، تبعد 15 كم عن مصياف جنوبا، ليس فيها أي سهل، أرضها الزراعية عبارة عن مدرجات صغيرة، ومحاصيلها الزراعية، في بداية القرن الماضي، كانت ضئيلة جدا، وخاصة القمح. تنتشر فيها أشجار التين والعنب وشجر التوت لتغذية دودة الحرير، وفي الستينيات من القرن الماضـي انتشر فيها شجر التفاح، قبل مواسم الهجرة إلى المدن. الواقعة-الطرفة المحملة بالأسى، التي سأكتبها حدثت في ثلاثينيات القرن الماضي، وقد رواها لي أبي، قال:

كان الذهاب من قرية ”حزور“ إلى ”حمص“ يتم سيرا على الأقدام، واذا كان المسافر ميسور الحال، يكون برفقته حمار مع ”خرجه“. قرر أحد الأيام أبو مخول الذهاب إلى حمص، المدينة التي يسمع أن فيها كل ما تشتهيه النفس من طعام ولباس، وخاصة صرامي لا ”تعقر“ القدمين، ولكن لا تشبه صرامي ”الائتلاف“ بأي حال.

غادر أبو مخول القرية مع الفجر على أمل العودة ليلا، ولكنه لم يعد إلاّ ظهر اليوم التالي، وقد بدت السعادة على تقاسيم وجهه. ولما كان السفر إلى حمص والعودة منها إلى القرية حدثا كبيرا، تجمع أهل القرية؛ رجالا ونساء وأطفال، لتهنئة المغامر الكبير بعودته سالما، والاستماع لما سيرويه لهم عن سفرته السندبادية وعن حمص. بادر الشباب بحمل حجر كبير يصلح كمقعد مرتفع، كي يجلس عليه أبو مخول، بينما افترش الأرض أمامه سكان القرية كي يسمعوا ما يقوله الرجل. بعد أن تنهد عدة مرات، وتنحنح، ووضع ”عقاله“ جيدا، كما يفعل الزعماء، قال: والله يا أخوان، العزّ لبعرين، ثم صمت.

انتظر الناس تتمة كلام أبي مخول، إلى أن صاح أحدهم: أي وبعدين، ليش العزّ لبعرين؟؟؟؟

تابع أبو مخول: تأخرت في مغادرة حمص فوصلت إلى بعرين ليلا، وكنت قد جعت وخفت من متابعة السير ليلا، فعصابات ”النهيب“، (وهي تشبه عصابات الشبيحة في أيامنا هذه،) منتشرة، وقد خفت أن تعترضي إحدى هذه العصابات وتستولي على الحمار، وهو كل  ثروتي، فقررت قرع أحد أبواب القرية، لظني أنه باب مضافة، ففتحوا لي الباب، وقدموا لي العشاء، وهنا كان العزّ، فقد رأيت كل أنواع البرغل؛ صحن فيه برغل ببصل، وصحن برغل بشنينة، وصح برغل مع حمص، وآخر ببندورة، وماذا أقول لكم يا أخواني، والله، بعمري كله لم أرَ كل أنواع هذا البرغل إلا في بعرين، لذلك قلت لكم: العزّ لبعرين!! ونسي الناس حمص وعجائبها أمام ذكر البرغل البعريني وأنواعه.

إسطنبول

في عام 2016 كنت في شارع الاستقلال الاسطنبولي مع صديقي زكريا، وكان أحد مراسلي الواشنطن بوست في المدينة. قال لي: هل تحب ”الفاصولية البيضا“؟

قلت له: أحب كل أنواع الفاصولياء.

قال: تعال نذهب إلى أقدم وأشهر مطعم في إسطنبول، متخصص في هذه الطبخة منذ 160عاما.

كان المطعم في أحد الأزقة المتفرعة من شارع الاستقلال، وقد رأينا صور الأجيال الأربعة التي استمرت في تقديم وجبة واحدة لا غير: فاصولياء بيضاء أو حمراء مع أرز ولحمة حمراء مفرومة منثورة على وجه الأرز. هذه هي الوجبة الوحيدة التي يقدمها هذا المطعم منذ أكثر من قرن ونصف.

وتقول إحدى الحكايات التركية إن أحد السلاطين العثمانيين، في القرن السابع عشر، قد وصله خبر الجوع الذي يعاني منه أفراد الجيش العثماني الذي يحارب الروس في القرم، فاستشار المقربين منه، فقال أحدهم: إن الفاصولياء غنية بالألياف وتجعل الذي يأكلها لا يشعر بالجوع لوقت طويل، وهي تحتوي على البروتين المفيد للجسم، فأمر السلطان بتعميم هذه الوجبة على الجنود، ومنذ ذلك الوقت تحولت إلى إحدى الوجبات الشعبية التركية، وحتى يومنا هذا.

شارع الاستقلال الشهير في إسطنبول

عندما انتهيت من التهام وجبتي في المطعم المشار إليه، قلت بصوت مرتفع: العزّ لاسطنبول، ففيها أكثر من200  نوع من الفاصولياء، ولا يعيبها أن أصولها أمريكية, وليست كالقمح الذي دجّنه الإنسان منذ 11 ألف عام في موقع غوبكلي تبه، قرب مدينة أورفا.

أخيرا، لا بدّ من القول إن ثقافة الطعام، عند بعض الشعوب، هي جزء من التجمعات الاجتماعية والاحتفالات والمناسبات الخاصة والضيافة، وهذا ما لم يفهمه بعض من اتهمني أنني أذهب إلى تركيا من أجل المناسف التي يدعوني عليها السوريون فقط. تشتهر بعض المدن أو البلدان بأطباق مميزة ومعروفة مثل الفلافل والحمص في بلاد الشام، والبيتزا في إيطاليا، أو السوشي في اليابان.

بشكل عام، ”ثقافة الطعام تعبر عن هوية الشعوب وتعزز التواصل الثقافي والتفاهم بين الثقافات المختلفة، وتعد جزءًا أساسيًا من التجربة البشرية والتنوع الثقافي.“

المطعم التاريخي في شارع إسطنبول

ماردين في ٨-١٠-٢٠٢٣

زر الذهاب إلى الأعلى