من إدلب إلى غزَّة.... على خُطا إبراهيم عليه السَّلام
بقلم: مهنَّا بلال الرَّشيد
العنف والحضارة صِنوان لا ينفصلان، ويمكنك أن تتخيَّل عنفًا موازيًا أغفلته كُتب التَّاريخ كلَّما نظرتَ إلى منجزٍ حضاريّ قديم أو حديث، ولا شكَّ أنَّ هذا العنف يتوازى طردًا مع ضخامة ذلك المنجز الكبير، ولك أن تتصوَّر آلاف العُمَّال الَّذين شيَّدوا برج بابل، وبنوا زقَّورات العراق، ومثلهم ألوفًا آخرين بنوا الأهرامات، ولم تحصل غالبيَّة العمَّال العظمى إلَّا على طعامها وشرابها وملبسها جرَّاء عمل يومٍ طويل في نقل الأتربة والحجارة وعمليَّات البناء والتَّشييد، ولم يذكر التَّاريخ أسماء العمَّال، بل ركَّز على أسماء الملوك الَّذين أمروا ببناء تلك الأوابد، واحتفظ بأسماء بعض المهندسين الَّذين أشرفوا على عمليَّات البناء، وحين هبَّ إبراهيم-عليه السَّلام-في وجه النَّمرود وظلمه في بابل بين (1900-1800 ق.م)، أراد النَّمرود أن يحرق إبراهيم عليه السَّلام؛ ليتخلَّص منه ومن دعوته، ثمَّ نجَّى الله إبراهيم عليه السَّلام، ونشأت الحنفيَّة الإبراهيميَّة ومن بعدها اليهوديَّة ردًّا على الظُّلم الموازي في الحضارتين: (البابليَّة والفرعونيَّة)، ثمَّ ظهرت المسيحيَّة؛ لتخلِّص النَّاس من عبوديَّة طويلة صاغها الفرس والرُّوم حين كانوا يتنافسون على المجال الحيويِّ الكبير في الشَّرق الأوسط، وزادت وثنيَّات بلاد الشَّام والجزيرة العربيَّة من عبوديَّة الإنسان؛ حتَّى ظهر الإسلام، وحرَّر النَّاس من هذه العبوديَّة؛ ومن هنا يبدو لنا دور البعد الرُّوحيِّ والدِّيانات السَّماويَّة في تحرير البشر بعد كلِّ مرحلة خطيرة من مراحل الظُّلم والاضطِّهاد في الحضارات القديمة، ويبدو أنَّ درجة الظُّلم والاضطِّهاد قد بلغت حدًّا لا يُطاق في ظلِّ حضارة العولمة والثَّورة الرَّقميَّة الرَّاهنة، ويبدو هذا الظُّلم جليًّا في الجرائم، الَّتي يرتكبها المجرم بشَّار الأسد وحلفاؤه (روسيا وإيران وحزب الله) ضدَّ المدنيِّين الأبرياء في إدلب، كما يعاني المدنيُّون المسالمون في غزَّة من جرائم نتنياهو وظلم حلفائه، وإن عانت إدلب وغزَّة من هذا الظُّلم الكبير في زمن الثَّورة الرَّقميَّة، فقد عانت هاتان المدينتان الجميلتان من ظلم مشابه زمن إبراهيم عليه السَّلام.
العرب الأموريُّون في إدلب أو إيبلا والعرب البدو في غِلاف غزَّة قدرٌ متشابه منذ سالف الأزمان:
تعارض طموح إبراهيم -عليه السَّلام- بالخلاص والاستقلال والحرِّيَّة مع نوازع النَّمرود في استعباد البشر، ولم يكن أمام إبراهيم -عليه السَّلام- إلَّا الهرب؛ فرسم طريق هجرته بعناية فائقة، وسار في بلاد أجداده الأموريِّين، وصعد عبر الفرات من جنوب العراق في (أور وبابل) إلى الميادين ثمَّ إلى دير الزُّور والرَّقَّة وأورفا في تركيا، ثمَّ نزل في مدينة حلب؛ ولذلك راح يربط بعض المؤرِّخين بين هذا النُّزول ولقب مدينة حلب، أو اسمها الشَّائع: (حَلب الشَّبها)؛ أي حلبَ إبراهيم -عليه السَّلام- البقرة البيضاء أو الشَّهباء، ثمَّ نزل إبراهيم عليه السَّلام إلى مدينة مَسكنة جنوب حلب، وعَبَرَ في أراضي أجداده الأموريِّين في إدلب (EBLA)، بعد أن غزا سرجون الأكديُّ مملكتهم، وأحرق حفيده نارام سين قصر ملكهم في (إيبلا-إدلب)، وتابع نزوله على طريق رحلة الشِّتاء والصِّيف التِّجاريِّ الشَّهير نحو حماة فحمص فدمشق، ثمَّ نزل عند بدو الأموريِّين في غلاف غزَّة؛ فازدهرت مدينة خليل الرَّحمن في فلسطين، وتابع طريقه إلى مصر الفرعونيَّة؛ فتزوَّج منها، ثمَّ استقرَّ بوادٍ قاحلٍ غير ذي زرعٍ من وديان مكَّة المكرَّمة؛ ليحمي دعوته من نفوذ مملكتي: (بابل ومصر الفرعونيَّة)؛ أقوى حضارتين متنافستين على المجال الحيويِّ في الجزيرة العربيَّة وبلاد الشَّام، ورفع مع ابنه إسماعيل قواعد بيت الله الحرام في مكَّة المكرَّمة.
غزَّة وإدلب على تُخوم النَّمرود والفراعنة:
حاول الفراعنة أن يُخضعوا البدو في غزَّة وغلافها بالقوَّة؛ فاكتشفوا أنَّهم أشبه بمن يصارع طواحين الهواء؛ فاضطرُّوا إلى توقيع التَّفاهمات ومعاهدات الصُّلح معهم مقابل السَّماح لرُسل الفراعنة أن تمرَّ بسلام من غزَّة وغلافها نحو بلاد الشَّام والجزيرة العربيَّة وبابل وآشور وما وراءها وفقًا للجداريَّات الفرعونيَّة، الَّتي تصوِّر البدو المحمَّلين بالهدايا والقادمين على جِمالهم؛ ليتبادلوا الهدايا مع فراعنة مصر، وهكذا لم يُفلح الفراعنة في كسر شوكة بدو غزَّة وغلافها، ولم يكن هناك حلٌّ غير الصُّلح وتبادل الهدايا.
أمَّا أقرباؤهم من العرب الأموريِّين في إدلب (EBLA) فقد غزاهم سرجون الأكديُّ، وأحرق حفيده نارام سين مكتبة قصرهم الملكيِّ في إيبلا؛ ولأنَّه اختار العنف العسكريَّ بدل الصُّلح الَّذي جنح إليه الفراعنة في غزَّة وغلافها، سقطت الدَّولة البابليَّة الأولى بعد بُرهة تاريخيَّة، وخلَّد التَّاريخ ما يقرب من (20000) عشرين ألف رقيم من رُقم إيبلا، كشف باولو ماتييه وجيوفاني بيتياناتو وألفونسو أركي أسرارها وأسرار لغتها السَّاميَّة الشِّماليَّة الغربيَّة المستقلَّة عن أكديَّة العراق المكتوبة بالحرف المسماريِّ، وتبيَّن أنَّ ملوك بابل لم يتفهَّموا هذا الاستقلال الدِّينيِّ واللُّغويِّ لمدينة جميلة مثل إدلب (EBLA)؛ فغزوا هذه الحضارة العريقة، وأحرقوا مكتبتها؛ لكنَّها نهضت من تحت الرُّكام بعد أكثر من (4000) أربعة آلاف سنة من إحراقها، وقد هاجر تجَّار مملكة إيبلا (EBLA) إلى حلب (ALEPPO)؛ فازدهر طريق الحرير بتجارتهم، والآن يناور المجرم بشَّار الأسد مع الصِّينيِّين لإحياء هذا الطَّريق، ولو تأمَّلت عزيزي القارئ في كلمتي (ALEPPO) و(EBLA) لوجدتهما كلمة واحدة، ويرجع الاختلاف إلى طريقة القراءة من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين فقط مع مراعاة ظاهرة الإعلال في اللُّغات السَّاميَّة.
من لغة إيبلا وأبجديَّة أوجاريت إلى ستيف جوبز وشركة APPLE:
رحل كُتَّاب قصر إيبلا إلى أوجاريت أو رأس شمرا في اللَّاذقيَّة، وطوَّروا هناك لغة آبائهم وأجدادهم الإيبلاويِّين؛ فقدَّموا للبشريَّة أعظم اختراع عالميٍّ حتَّى وقتنا الرَّاهن؛ إنَّه اختراع الأبجديَّة، أو التَّرميز لأصوات الحروف ومخارجها بحروف أبجديَّة بدل التَّرميز للكلمات التَّامَّة بحروف مسماريَّة؛ أيّ أنَّ الإيبلاويِّين-بحسب جيوفاني بيتيناتو-اختزلوا كلمات الكتابة الأكديَّة بالحرف المسماريّ، وبسَّطوها من (2000) ألفي كلمة مهمَّة إلى (500) كلمة مهمَّة؛ هي قلب اللُّغة عند الباحث الرُّوسيِّ (أ.كندراتوف)، ولم يستطيعوا أن يبسِّطوها أكثر من ذلك؛ لأنَّ الحدَّ الأدنى من التَّواصل بأيِّ لغة يحتاج إلى ما لا يقلُّ عن (500) مفردة؛ ولأنَّ الحاجة أمَّ الاختراع استطاع الأبناء والأحفاد في أوجاريت أن يرمزوا لمخارج الأصوات بحروف أبجديَّة؛ وهي (30) مخرجًا تقريبًا؛ ولذلك صارت حروف أبجديَّات العالم كلِّها حوالي (30) حرفًا، وبذلك اخترعوا الأبجديَّة، واخترعوا أوَّل نظام تشفير رقميٍّ أو أبجديٍّ معاصر، اقتبسته لغات العالم كلُّها، ثمَّ طوَّره (ستيف جوبز) (1955-2011) العالم الأمريكيُّ من أصول (سوريَّة-حمصيَّة) إلى نظام تشفير رقميٍّ في هواتف شركة (APPLE) وحواسيبها الرَّقميَّة، وهنا تبدو لي بعض المفارقات اللُّغويَّة المقصودة في هذه الاختراعات؛ فجيوفاني بيتيناتو يطلق على لوح الطِّين الإيبلاويِّ اسم (Tablet) وشركة آبل تُطلق الاسم ذاته على أجهزتها اللَّوحيَّة، وأشهر محرِّك للبحث في شبكة الإنترنت (لأصحابها الكنعانيِّين أو الإسرائيليِّين) باسم (Google) يشبه قول أهل (إيبلا) في لُغتهم المحكيَّة: جَوْجَلَ: أي جمع التِّبن والقمح المتناثر بين الأشواك في موسم الحصاد، وهذا المعنى يشبه تمامًا ما يريده مؤسِّسو شركة (Google) من محرِّكهم البحثيِّ، الَّذي يقدِّم لمستخدميه خدمة جمع المعلومات من حقولها المعرفيَّة بنفس طريقة جمع الحبوب من حقولها الزِّراعيَّة بين الدُّروب والأشواك، وإن أثبت تحليل الحمض النَّوويِّ المعاصر أنَّ الفينيقيِّين والكنعانيِّين في غزَّة والخليل وفلسطين من العرب واليهود معًا أحفادٌ حقيقيِّون لأموريِّي إيبلا فإنَّ ساسة هذا الزَّمن ومُجرميه المعاصرين، مازالوا يبخسون حقوق هذين الشَّعبين العظيمين في (إدلب- إيبلا) و(غزَّة) معًا بعد أن أنصفهم الفراعنة، وحاربهم كلٌّ من سرجون الأكديُّ وحفيده نارام سين وحسن الصَّبَّاح الحشَّاش وأحفاده حافظ ورفعت وبشَّار الأسد في حلب وإدلب وحماة، وإن أشار جيوفاني بيتيناتو إلى الظُّلم والأيديولوجيا الكامنة وراء تغييب رُقم إيبلا وأساطيرها وحضارتها العريقة، فإنَّ ظلم نتنياهو وأحفاد الحشَّاشين ضدَّ أهلنا في غزَّة وإدلب قد بلغ حدًّا لا يُطاق، وقد بلغ السَّيل الزُّبى، ورغم ذلك كلِّه ما زلنا نتمسَّك بالحياة في إدلب وغزَّة، ما زلنا نؤمن بالسَّلام، نؤمن بنخوة ستنهض مثلما نهضت العنقاء من رماد النَّار، مثلما نهضت حضارة إيبلا ورقمها من قلب النَّار بعد أكثر من (4000) أربعة آلاف سنة من إحراقها، وستطيح هذه النَّار بتحالف نتنياهو مع المجرمين من أحفاد الحشَّاشين (بشَّار الأسد ونصر الله)؛ ليقود شعوب هذه المنطقة ساسة معتدلون، سينشرون السَّلام الَّذي ننشده جميعًا، وسيوقِّعون معاهداته، وسنتبادل الهدايا مثلما تبادل أهل غزَّة وغلافها الهدايا مع الفراعنة قبل آلاف السِّنين!
_________________________________________
من مقالات العدد الخامس من صحيفة (العربي القديم) تشرين الثاني/ نوفمبر 2023