التضخّم الاقتصادي ودوره في فرض التغيير السياسي: دروس من التاريخ
هارولد جيمس – ترجمة: مهيار الحفار
هارولد جيمس… أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون الأمريكية، ومتخصص في التاريخ الاقتصادي والعولمة، ومؤلف مشارك لكتاب: (اليورو ومعركة الأفكار) ومؤلف (كتاب إنشاء وتدمير القيمة: دورة العولمة) يحكي لنا في هذا المقال، تاريخ التضخم الاقتصادي في دول عدة، وكيف لعب دورا في إحداث تغييرات سياسية في أنظمة الحكم. (العربي القديم)
التأثير على الأنظمة الاستبدادية
يعمل ارتفاع التضخّم على مستوى العالم في الآونة الأخيرة على فرض التغيير السياسي، على نحو يذكّرنا بمدى فاعلية هذه المشكلة الاقتصادية القديمة في الإطاحة بالحكومات. في الأنظمة الديمقراطية تتوقّف نتائج الانتخابات غالباً على تطوّرات الأسعار. لكنّ التأثير على الأنظمة الاستبدادية لا يقل وضوحاً، لأن التضخّم يتسبّب في تآكل الميثاق الاجتماعي الضمني الذي تقيم عليه هذه الأنظمة سلطتها.
في الأرجنتين، نستطيع أن نفهم انتخاب الرأسمالي الفوضوي الراديكالي المُدَّعي خافيير مايلي رئيساً للبلاد على أنه نتيجة مباشرة لعجز النظام البيروني الحاكم عن التعامل مع التضخّم، الذي بلغ معدّله السنوي 143%. كان أكثر وعود مايلي الانتخابية أهمية استعادة استقرار الأسعار من خلال إلغاء البنك المركزي والاستعاضة عن البيزو الأرجنتيني بالدولار الأميركي. من الواضح أن إنهاء الاستقلال النقدي تجربة جريئة ومحفوفة بالمخاطر ومن شأنها أن تحدّ بشدّة من قدرة الحكومة على التصرّف. لكن هذا هو المقصود على وجه التحديد. فمنذ حاولت الحكومة السابقة بذل قصارى جهدها، وفشلت بوضوح، يشعر الناخبون الآن وكأن أي شيء سيكون أفضل من مزيد من سوء الإدارة.
استقرار روسي مدهش!
للوهلة الأولى، تبدو روسيا مستقرة بدرجة مدهشة بالمقارنة. فقد ارتفع معدل التضخم السنوي هناك مؤخراً من 6% إلى 7%، في حين لامس التضخّم حتى في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو خانة العشرات لفترة وجيزة العام الماضي. لكن الولايات المتحدة، ومنطقة اليورو، والمملكة المتحدة نجحت جميعها في خفض معدل التضخّم إلى ما دون 5%، في حين تتحرك روسيا في الاتجاه المعاكس. علاوة على ذلك، ارتفع التضخّم الروسي أيضاً في عام 2022، في أعقاب الغزو الشامل لأوكرانيا ــ تماماً كما حدث في عام 2014 بعد الاستيلاء الأولي على الأراضي في شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا. ثم اعتباراً من نيسان 2022، انخفض معدل التضخّم لمدة عام كامل، وبدا الأمر وكأنه قد يستقرّ عند مستوى لائق بنسبة 2.5%. ولكن تبيّن أن هذا الاستقرار كان محض أوهام. فقد عاد التضخّم هذا الصيف، في أعقاب الانقلاب الفاشل الذي قاده يفجيني بريجوزين زعيم مجموعة فاغنر، وهو الآن يمثل الخطر المباشر الأعظم الذي يهدد نظام زمن الحرب الذي يفرضه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. الواقع أن حكومة موسكو صريحة بشأن مصدر الارتياع هذا، وحتى بوتين، الذي يتجنّب في عموم الأمر الاعتراف بنقاط الضعف، عَلَّقَ مؤخراً على التضخّم والتهديد الذي يفرضه على الأسر الروسية. وقد رفع البنك المركزي الروسي، كما ينبغي له، سعر الفائدة إلى 15% أي ما يقرب من ثلاثة أمثال سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية في الولايات المتحدة.
بوتين يعلم
كما يعلم بوتين تمام العِلم، فإن السخط بشأن الأسعار غالباً ما يكون أول علامة تدلّ على خسارة أي نظام استبدادي للدعم الاجتماعي. ورغم أن المواطنين العاديين لا يمكنهم الشكوى علناً من الحكومة (خشية الاعتقال أو العقاب بقسوة)، فإنهم يستطيعون التذمّر بشأن الأسعار، وخاصة عندما يكون التضخّم نتيجة مباشرة لزيادة الإنفاق الحكومي على الحرب. ولا تنشأ المشكلة بسبب ارتفاع النفقات العسكرية فحسب، بل وأيضاً لأن الكرملين حاول شراء الدعم الشعبي. فالجنود، على سبيل المثال، يتقاضون الآن ما يزيد على ضعفي ونصف الراتب المتوسط، وتُعَوَّض أسرهم بسخاء ــ حيث تتلقى الأسرة خمسة ملايين روبل (57 ألف دولار أميركي) ــ إذا قُتِل أحد أفرادها على الجبهة.
تَظهَر دلالات التضخّم الناتج عن ذلك في كل مكان. وبسبب نزوح ما يقدّر بنحو 800 ألف إلى 900 ألف شاب جماعياً بسبب خوفهم من تجنيدهم وتعبئتهم للحرب إجبارياً، تحوّلت سوق العمل في روسيا نحو الأسوأ. فالمهارات غير متوفّرة، وقد اضطرّ أرباب العمل إلى عرض أجور أعلى كثيراً لاجتذاب العمال. قد ينجح هذا لفترة قصيرة؛ ولكن سرعان ما سيلاحظ الناس أن رواتبهم الأضخم لا تزال غير كافية لشراء احتياجاتهم.
دروس من التاريخ
يقدّم لنا التاريخ دروساً قوية في هذا الصدد. كان التضخّم الديناميكية المركزية التي أفلست الميثاق الاجتماعي الذي أبرمه الاستبداد القيصري مع الشعب الروسي في العقد الثاني من القرن العشرين. فأثناء الحرب العالمية الأولى، لجأت الإمبراطورية الروسية العاجزة عن ضبط ميزانيتها إلى مطبعة النقود. ولأن روسيا كانت من كبرى الدول المصدّرة للحبوب في السنوات السابقة للحرب، فقد كان بوسع الفلاحين الروس في مستهل الأمر بيع فائض محاصيلهم من الحبوب إلى مكاتب المشتريات العسكرية، والتي كانت على استعداد لدفع أسعار أعلى. ولكن بحلول أواخر عام 1916، كان التضخّم في تسارع، ولاحظ الفلاحون أن الروبل الورقي لم يعد يشتري لهم الكثير. وبدلاً من الاستمرار في بيع حبوبهم، أصبحوا يطعمون بها مواشيهم.
من أيام القيصر إلى وصول البلاشفة
من الأهمية بمكان أن نعلم أن النقود الورقية في ذلك الوقت كانت تستحضر بشكل مباشر صور السلالة القيصرية ــ وجه بطرس الأكبر على الورقة النقدية من فئة 500 روبل ووجه كاثرين العظمى على الورقة النقدية من فئة 100 روبل. وعلى نحو مفاجئ، لم تعد هذه الشخصيات التاريخية العظيمة تبدو عظيمة. وأصبحت الأوراق النقدية التي تحمل وجوههم عديمة القيمة، وامتنع الفلاحون عن قبولها كأجر. ومع انهيار المعروض من الحبوب، تسبّب نقص الطعام الناجم عن ذلك في إشعال الاضطرابات في المناطق الحضرية والتي تُوِّجَت بالثورة المزدوجة في عام 1917. توقّف الجنود عن القتال لأنهم لم يعد بوسعهم شراء أي شيء بأجورهم. وعلى هذا فقد فضّلوا العودة إلى قراهم، حيث قد يتمكّنون على الأقل من إيجاد ما يطعمون به أنفسهم.
بمجرّد وصول البلاشفة الأوائل إلى السلطة، كان لزاماً عليهم أن يفعلوا أي شيء لاستعادة استقرار الأسعار، لذا توصّلوا إلى فكرة الإشارة الصريحة إلى الذهب في اسم العملة الجديدة: chervonets (العملات الذهبية). حتى أنهم سكوا بعض العملات الذهبية؛ إذ يتّسم التاريخ النقدي الروسي بدرجة غير عادية من الاستمرارية. فالورقة النقدية الحالية من فئة 500 روبل، والمصمّمة في عام 1997، تحمل مرة أخرى صورة بطرس الأكبر (هذه المرة كتمثال في ميناء أرخانجيلسك). وقد تنتهي بها الحال إلى السمعة السيئة ذاتها.
نظام في طريقه الرحيل
ينقلب الناس على الحكومات التي تنكث بوعودها، ويشكّل المال إحدى أقدم هذه المواثيق. لقد أصبحت المكائد النقدية الروسية الآن من أكثر العلامات الملموسة وضوحاً، للدلالة على عجز النظام عن تحقيق ما وعد به. إنه نظام في طريقه إلى الرحيل في نهاية المطاف، لأنه قطع أواصر الثقة مع الشعب. (بروجكت سنديكيت، النبأ المعلوماتية)