القائد والرئيس: في العهد الجديد سورية لا تسير!
جديد سورية في عهد حكمها الجديد لا يتجاوز حدود التغيير الشكلي غير الشيّق

أيمن الشوفي – العربي القديم
لم يجتذب أحمد الشرع إليه من الاهتمام الدولي والإقليمي حتى الآن، سوى الاهتمام القطري والتركي، رأينا ما أبدتاهُ هاتان الدولتان من حماسةٍ إزاءه، وعلى نحوٍ أقل بقليل جاءت حماسة السعودية، إذ لم يكن بمقدور الشرع تقليص مساحة الهجاء العربي والدولي لخلفيته الراديكالية، السلفيّة المتشددة سواء حين كان قائداً للإدارة السورية المؤقتة، أو حين انتخبته الفصائل المسلحة التي أطلقت عملية “ردع العدوان” رئيساً لسورية خلال المرحلة الانتقالية، ومساء الخميس 30 يناير/ كانون الثاني أطلَّ الشرع بصفته الجديدة كرئيس للبلاد على السوريين بخطاب النصر، والذي اقتصر على خمسِ دقائقَ تقريباً، اجتهدَ فيها على إرضاء الجميع، بمن فيهم أولئك الذين يتربصون حديثه السياسي، وينتظرونه أيضاً، فتحدث عن القيمة السياسية المرتفعة لدمشق الأمويين، مستعيراً الديباجات اللغويّة لخطابات الفتح الإسلاميّ، وتحدث عن الشراكة المجتمعيّة حين أنتجت طرد نظام الأسد والخلاص منه، دون أن يحيد في مجمل خطابه عن الذي ينتظر سماعه السوريون منه، مثل تحقيق السلم الأهلي، والعدالة الانتقالية، ووحدة الأراضي السورية، وتشكيل حكومة انتقالية شاملة، ولجنة تحضيرية يتمخّض عنها مجلس تشريعي مصغّر يَلزَم المرحلة الانتقالية الحالية، كما لا يزال مؤتمر الحوار الوطني ضمن الأجندة الخطابية للشرع، عاد وتحدّث عنه في كلمته المقتضبة تلك، وتحدث أيضاً عن الإعلان الدستوري، باعتباره أداة سياسية مفقودة حالياً في منظومة الحكم، وهذا طبيعي بعد إبطال العمل بدستور عام 2012، ومن دون الإعلان الدستوري الذي يوصّف صلاحيات الرئيس ويُكسبه الشخصية الاعتبارية القادرة على صنع القرار في سورية، سيظلّ الشرع رئيساً من دون صلاحيات دستورية، ولعل انتقال الشرع بين توصيفين، الأول كقائد لهيئة تحرير الشام المصنّفة منظمة إرهابية، والثاني كرئيس لسورية خلال المرحلة الانتقالية، ليس مجرّد انتقال توصيفي، ولا يجيء أيضاً كرغبة متنامية في السلطة، وربما عيب هذا الانتقال أنه جاء بشفاعة وترجيح الفصائل المسلحة، عاد الشرع وحلّها جميعها، ودمج مكوناتها بالجيش الوطني، والأكثر أهمية في هذا الانتقال، هو اكتساب الصفة الاعتبارية الجديدة للشرع، الذي لم يعد قائد فصيلٍ مسلح طرد النظام السياسي السابق، وحلّ محلّه وفق مبدأ ملء الفراغ، بل أصبح رئيس دولة، وجاءت زيارة تميم بن حمد الثاني أمير قطر كأول رئيس دولة يزور سورية رسمياً بعد سقوط نظام حكمها كرافدٍ هام جداً لتمكين شرعية الشرع، فهي زيارةٌ تمادت خارج البروتوكول الرسمي المعتاد، بعدما أهدى الشرع أميرَ قطر عباءةً دمشقيّة، وجلس معه خارج القصر الرئاسي، هناك على جبل قاسيون، تلك الجلسة التي تشبه الإطلال من شرفةٍ عالية، وفيها تتزاحم معاني الانتصار والاستحواذ على المكان.
وحتى الآن لم يغادر الشرع المثلث الإقليمي الذي قبل به حاكماً لسورية، بحيث تابعناه وهو يقصد السعودية في الثاني من فبراير/ شباط كأولِ وجهةٍ رسميّة له كرئيس دولة، بقي فيها يومين، ووجد فيها فرصةً مواتية لتأدية مناسك العمرة، لكن وعلى صعيد القطاف، لم تصلح نتائج تلك الزيارة لأن تكون ثماراً جاهزة يمكن أن يتناولها السوريون المتلهفون لأي جديد إقليمي أو دولي يدركهم قبل إفلاسهم الكليّ، وقبل استكمال ملحمة سقوطهم التراجيديّ المرير، إذ لم تسمح زيارة الشرع للسعودية بأكثر من تطمينات عامة عن الدعم السعودي المرتقب، ووقوف السعودية إلى جانب سورية المنهكة بالدمار والاستباحة والعجز.
ثم رأينا الشرع كيف يطير مستعجلاً من السعودية إلى تركيا، وكأنه يُسرع إلى تأدية مناسك عمرةٍ جديدة مختلفة، ملبّياً فيها دعوة أردوغان، ومن هناك كان بإمكانه أنْ يتدبر حكايةً تحمل دلالات المُنجز السياسي الباهر، لأجل استمالة الرأي العام صوبَ مناقب العهد الجديد في حكم سورية، فتحدث الشرع من أنقرة عن “شراكة استراتيجية” مع تركيا، وكلُّ ما تريده تركيا من سورية، يبدو في إطاره العام مماثلاً للذي كانت إيران تريده من سورية حين كانت تحت وصاية الأسد عليها، أي الاستحواذ على القرار السيادي، والهيمنة، لأن الشراكة الاستراتيجية تتطلب نديّةً لا تَحْضُر في العلاقة القائمة ما بين تركيا وسورية، الأمر الذي يعيد إنتاج الوصاية على البلاد، واستبدال الوصاية الإيرانيّة بهواها الشيعيّ، بوصاية تركيّة ذات محددات مذهبية مختلفة، أي بهوىً سنيّ هذه المرة، يجد له صدىً إقليمي في قطر، والسعودية، وسورية لا تزال عالقة حيث هي، وكأنها لا تبارحُ تلك الرداءة المريرة الملتصقة بها، إذ تمكثُ مظاهر الحياة فيها حيث كانت عليه خلال حكم بشار الأسد للبلاد، أمّا جديدها في عهد حكمها الجديد، فلا يتجاوز حدود التغيير الشكلي غير الشيّق، حيث صار بالإمكان تداول الدولار والليرة التركية و الليرة السورية أيضاً ضمن التعاملات التجارية، وتحوّل باعة أوراق اليانصيب، وباعة العلكة في الشوارع إلى صرّافين، كما أصبحت سورية سوقاً واسعاً لتصريف البسكويت التركي، والسجائر، والمعلبات، وصارت سرمدا في إدلب قبلةً يقصدها التجّار وأشباه التجار لابتياع البضائع التركية غير المجمركة، وإعادة بثّها داخل السوق المحلية على تردد العهد الجديد بهواه التركي الفاضح، أما ما يعني تركيا في هذه الآونة يحيدُ عن النهوض بسورية المصروعة، ويحيدُ عن المساهمة بإعادة مجرى الحياة الطبيعي للسوريين، وإنما يصبُّ بإنهاء المظاهر المسلحة للأكراد في شمال شرق البلاد، وتجريد قوات سورية الديموقراطية (قسد) وحزب العمال الكردستاني (بي كي كي) من نفوذهما العسكري.
يعلم السوريون أن مصائرهم متروكة لعراك المصالح الدولية فوق الجغرافيا التي يقطنونها، ولأهواء ترامب الميكافيليّة، وللهواجس التلموذيّة لليمين الإسرائيلي المتشدد، وربما لطموحات بعض دول القارة العجوز، وللمشروع السياسي السنيّ في المنطقة أيضاً، لن يُتْرَكوا لتقرير مصيرهم بأنفسهم، سيظلون خاضعين إلى تلك الإقامة الجبرية التعيسة، يسقط نظامٌ سياسي استبدادي أمام أعينهم، ويجري استبداله بآخر، وهم متفرجون، ينتظر معظمهم أن تُفرِجَ الحكومة المؤقتة عن رواتبهم الشهرية، وآخرون يخشون فصلهم تعسّفياً من وظائفهم، يراقبون تحسّن سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، من دون أن تهبط الأسعار بذات القيمة، حتى إن الحوالات الخارجية التي كانت تعينهم أيام النظام البائد فقدت قوّتها، وذلك بانخفاض سعر صرف الدولار، وبقاء أسعار السلع والخدمات الأساسية مرتفعة. سقط بشار الأسد، وفرّ من البلاد، ولا يزال الناس يتداولون العملة الورقية التي تحمل صورته، وأخرى تحمل صورة أبيه، والشعور الغالبُ هنا على المزاج العام هو أنْ تطول الفترة الانتقالية أكثر من اللازم، وربما تصير الفترة الانتقالية هي الدائمة بقوة سلطة الأمر الواقع التي تتمسّك بتجربة (المُحرر) أي إدلب حين كانت تحكمها هيئة تحرير الشام، وهي تجربةٌ نجدها عزيزةً على تصريحات أعضاء الحكومة المؤقتة، وداخل مقابلة الشرع نفسه التي أجراها أخيراً معه تلفزيون سوريا.
ومع هذه المشقّة البالغة ينتظر أهل البلاد أن تسير بلادهم، وهي لا تسير، تقف مكانها منذ الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024 حين أصبحت سورية من دون بشار الأسد.