نوافذ الإثنين | عشق العبودية والأيديولوجيا
ميخائيل سعد
تعود أقدم آثار العبودية إلى العصور القديمة، حيث وُجدت آثار لنظام العبودية في المجتمعات المصرية والسومرية والبابلية والهندية والصينية واليونانية والرومانية. كانت العبودية تعتبر نظاماً اجتماعياً واقتصادياً شائعًا في هذه الحضارات، حيث كان العبيد يُستخدمون في أعمال المزارع والبناء والخدمة الشخصية والعمل المنزلي.
على مر العصور، تطورت أشكال العبودية وتغيرت حسب الثقافات والمجتمعات. في بعض الأحيان، كانت العبودية تعتبر تبعية للفرد وأسرته، بينما في أحيان أخرى كانت نظاماً واسع النطاق يشمل آلاف العبيد.
على الرغم من تحقيق تقدم كبير في إلغاء العبودية، منذ ثورة سبارتاكوس في القرن الأول قبل الميلاد، فإن ظاهرة العبودية لا تزال موجودة في بعض المناطق وفي أشكال متعددة مثل العمالة القسرية والاستغلال الجنسي وغير ذلك. ولكن أخطر أنواعها في العصر الحديث هي تلك الناتجة عن هيمنة الأيديولوجيا على حياة البشرية، وسهولة انتشارها واختراقها للحدود، عبر وسائل التواصل الحديثة.
فما هي الأيديولوجيا وما هو دورها في جعل بعض الناس تعشق العبودية؟
”تعتبر الأيديولوجيا نظاماً من المعتقدات والقيم والمبادئ التي توجه تفكير وسلوك الأفراد وتؤثر على آرائهم وقراراتهم، وتأثيرها يتضمن:
1. تشكيل الهوية الفردية: تؤثر الأيديولوجيا في تشكيل هوية الشخص وتحدد ما الذي يعتقده ويتبناه. يمكن أن تؤثر في اتجاهاته السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية.
2 . توجيه السلوك والقرارات: تؤثر الأيديولوجيا في نمط التفكير واتخاذ القرارات. يمكن أن توجه الأفراد في اتجاهات معينة وتؤثر في اختياراتهم السلوكية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
3 . تشكيل المجتمعات والثقافات: تؤثر الأيديولوجيا في تشكيل المجتمعات والثقافات بشكل عام. يمكن أن تكون الأيديولوجيا السائدة في المجتمع هي التي تحكم القوانين والقيم والمعايير الاجتماعية.
4 . تأثير الصراعات والتغييرات الاجتماعية: يمكن أن تكون الأيديولوجيا سبباً للصراعات والتوترات الاجتماعية. قد تتنازع الأفكار والمعتقدات المتناقضة في المجتمع وتؤدي إلى صراعات سياسية ودينية وثقافية.
5 . توجيه التغييرات السياسية والاجتماعية: يمكن أن تكون الأيديولوجيا دافعاً للتغييرات السياسية والاجتماعية. قد تلهم الأفكار الثورية والمبادئ العادلة والمساواة وحقوق الإنسان تحركات اجتماعية للتغيير والتقدم.
يجب التأكيد على أن تأثير الأيديولوجيا يعتمد على السياق والتنوع الثقافي والتاريخي. يمكن أن يكون للأيديولوجيا تأثير إيجابي أو سلبي، اعتمادًا على القيم والمبادئ التي ترتكز عليها وكيفية تطبيقها على أرض الواقع.“
بإيجاز شديد، الأيديولوجيا تصنع العالم المعاصر، لذلك لن نستغرب أن نرى بشرا يدافعون عن عبوديتهم في الوقت الذي يعتقدون فيه أنهم في ذروة الحرية، وأنهم على استعداد للموت في سبيل الدفاع عن هذه ”القناعة“، وخير مثال على ذلك أن بعض السوريين ماتوا، ويموتون، في سبيل بقاء ”بشار الأسد“ في السلطة، أو بقاء ”السيد حسن نصر الله“ زعيما ”للمقاومة“، ولو على أشلاء البشر.
هذا في مجال السياسة، فتعالوا معي لأروي لكم أمثلة عما تفعله الأيديولوجيا في عقول بعض المؤدلجين.
قال لي صديق كان يعيش في ”مدينة كييف“ أيام الاتحاد السوفياتي، إن شريكه في الغرفة كان سوريا متحمساً جداً لكل ما صدر ويُقال عن الإنجازات العظيمة للدولة الشيوعية الأولى في العالم، ومن ذلك طريقة الدولة في توزيع ”الزبدة“ أسبوعيا على المواطنين، عبر محلات البقالة. وفي اليوم المحدد للبيع، ذهب هذا الشاب إلى البقالية وتناول قالب ”الزبدة“ ودفع ثمنه وعاد الى البيت وهو يمني النفس بتناول الزبدة مع المربيات والبيض، وعندما جلس الشريكان لتناول الطعام أكتشف الراوي أن ما اشتراه زميله ليس زبدة، وانما هو نوع من السمنة الصناعية، وعندما قال ذلك لزميله، رفض الرجل ادعاء زميله واتهمه بالعداء للشيوعية والدولة السوفياتية، وعندما أصر الراوي على موقفه من أنها سمنة، قال الآخر: ”خوي، هذه زبدة طيبة حتي لو كانت سمنة كما تقول“، يعني بالمختصر: ”عنزة ولو طارت“، كما تقول الطرفة العربية.
المثال الآخر عن تأثير الأيديوجيا خلفيته دينية، ففي تسعينيات القرن الماضي، في مونتريال، دخلتُ إلى مخزن لشاب لبناني يبيع مواد غذائية عربية ومنها لحمة ”حلال“، وهذا مفهوم، ولكن أن تجد حذاء جديدا معروضا للبيع ومكتوبا عليه كلمة ”حلال” فقد أثار دهشتي فسألت صاحب المحل: هل أصبحت هناك أحذية حلال وأخرى حرام يا محمود؟
قال: نعم، هي موضة العصر في مونتريال، حتى في الثياب هناك ما هو حلال وما هو حرام. هذا ما يريده الناس، ونحن نلبي طلباتهم. إنه السوق.
إنها الأيديولوجيا، التي فعلت ذلك، وهي التي جعلت أغلب حكام العالم، بما فيهم حكامنا، يغضون النظر عن أكبر مجزرة تحدث في العصر الحديث في غزة، كما غضوا النظر عن المجزرة السورية، تحت يافطة” حق إسرائيل في الدفاع عن النفس“، وحق الأسد في ”مواجهة الإرهاب“. إنها الأيديولوجيا، التي تجعلنا نعشق عبوديتنا وندافع عن قاتلنا، ونبرر الخيانة لمن نعتقده مخلصا لنا، إنها الأيديولوجيا التي تجعلنا عميان في عصر الأنوار، فهل نستطيع أن نستخدم عقولنا؟!