أرشيف المجلة الشهرية

أميل حبيبي يسخر من أنطون سعادة... ومحيي الدين اللاذقاني يقرأ مسيرة التخريب

عام 1947 كتب الروائي الفلسطيني الشهير أميل حبيبي مقالا يسخر فيه كم أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، ومن حزبه.. وقد أعادت مجلة (العربي القديم) نشره مع زاوية للكاتب والأديب السوري محيي الدين اللاذقاني يقرأ فيها مواقف سعادة وحبيبي معاً، وما جنته تلك الأحزاب على الحياة السياسية السورية

***

عـودة الزعيم

بقلم: إميل حبيبي   

يا ضيعة الآمال التي علقت على عودة “الزعيم” فما أن وطأت قدماه أرض الوطن اللبناني، حتى كسر عصاته في أولى غزواته… وأعلن بتعابير روحانية عقادية – النسبة إلى العقاد والتعقيد لا العقيدة – أن لبنان لا يزال سجين حدوده، ولكنه يخرج بين الفينة والأخرى إلى “قاووش” السجن يتشمس، وأن من الواجب أن يمد ظله حتى ينتشر من سيناء إلى جبال طوروس، وأن يذوب في “سوريا الكبرى” التي تألف الحزب السوري القومي الاجتماعي في سبيل تحقيقها.

ولكن التحية الفاشستية التي استقبل بها “الفوهرر الممسوخ” أعوانه، ولكن الجنرال سبيرز وأموال الجنرال سبيرز، ولكن بهلوانياته وغيبياته، كل  ذلك لم ينجه من المصير المحتوم: أن تعصف به “زوبعته” فيلتجئ إلى كنف جلالة الملك عبد الله… وإذا الشعب اللبناني الشقيق – من اليمين إلى اليسار على حد تعبير شاعر الحرية الكبير أبي سلمى – يطلب محاكمته بتهمة الخيانة العظمى، وتهمة ممالئة الاستعمار البريطاني، وتنفيذ وصاياه العشر.

هذا نصيب الفهارير من المماسيخ من كل جنس ولون، فليعتبر أولو الألباب الضاربون على كل باب.

تاريخ

للقارئ الكريم الذي لم يسمع “بالزعيم” ولا بخاتمة الزعيم أروي الحقائق التالية:

“الزعيم” هو أنطون خليل سعادة (فوهرر) الحزب السوري القومي في لبنان، وهو حزب تألف في سنة 1934 بأموال الفاشست الطليان، متبعا التعاليم الفاشستية النازية من مثل رفع اليد بالتحية، واتخاذ الصليب المعقوف (ويسمونه الزوبعة) شعاراً، وتأليه الزعيم ديدباناً. ولما حدثت الأحداث في دولتي المشرق، وذهب الحكم الفيشي عنهما، فرّ “الزعيم” إلى الأرجنتين، وتقول جريدة (العمل) جريدة الكتائب اللبنانية، أن الزعيم سجن في الأرجنتين ثلاث مرات لثبوت تهمة الاختلاس عليه. ولما كان سبيرز (إياه) مفوضا بريطانياً في سوريا ولبنان، سعى لدى الحكومة اللبنانية حتى أعادت الترخيص لبقايا الحزب السوري القومي بعد أن وعد هؤلاء بالتخلي عن أهداف (سوريا الكبرى) التي أصبح يؤيدها الاستعمار البريطاني… ومنذ ذلك الوقت أصبح الحزب السوري القومي عميلا للاستعمار اللبناني في لبنان بعد أن كان عميلا للفاشست الطليان، وكان يؤيدون (سوريا الكبرى) بأسلوب مطاط يحمل معنيين يفسروهما كما يشاؤون، ثم سمحت الحكومة اللبنانية مؤخرا بعودة أنطون خليل سعادة إلى لبنان، فعاد “الزعيم” وألقى خطابا أيد فيه (سوريا الكبرى) على المكشوف، ولكن الرأي العام اللبناني هذه المرة لم يسكت عن تعديات أعوان الاستعمار البريطاني، فثارت ثائرته بصحافته وهيئاته وأحزابه الوطنية مجتمعة، حتى اضطرت الحكومة اللبنانية باستصدار أمر بإيقاف جناب “الزعيم” ففر جنابه من وجه العدالة، وتقول الأنباء إنه التجأ إلى كنف جلالة الملك عبد الله.

هذا هو الحزب السوري القومي الاجتماعي… إلخ وهذا هو زعيمه.

أحمر جداً

ولكن الحكاية لم تنته بعد!

من مضي ثلاثة أشهر تقريبا، عقد هذا الحزب اجتماعاً كبيراً له في ضهور شوير من لبنان، واكتشفنا هنا في فلسطين حقيقة جديدة، ذلك أن المدعو السيد يوسف صائغ ذهب إلى هذا الاجتماع، وألقى كلمة باسم فرع الحزب السوري القومي في فلسطين.

والحكاية لم تنته بعد…

إذا بالسيد يوسف صائغ هذا يعين في مجلس بيت المال العربي، وفي هيئته  العليا أيضا، وإذا به فوق ذلك كله يعين موظفي بيت المال ويوزعهم على أنحاء فلسطين.

والحكاية لم تنته بعد…

ففي يوم من الأيام، وليس اليوم ببعيد، يكون السيد يوسف صائغ في حيفا لترتيب شؤون بين المال، ويبحث مع أحد رجال الأعمال في هذه المدينة عن شاب يلم بالحسابات ليدير مكتب بيت المال في حيفا، فيعرض عليه رجل الأعمال اسم أحد الشباب من أعضاء عصبة التحرر الوطني بحيفا، ولم يكن قد استشاره في هذا العرض، فيرفض السيد يوسف صائغ اسم هذا الشاب بإباء وشمم قائلا  بلغة إنكليزية فصحى: HE IS TOO RED FOR US   أي أنه: “أحمر جداً بالنسبة لنا” أي أن السيد يوسف صائغ عميد حزب الجنرال سبيرز في فلسطين، والداعية الفلسطيني لتقسيم فلسطين وتنفيذ مشروع سوريا الكبرى… إن السيد يوسف صائغ يرفض توظيف أحد الشباب الوطنيين في بيت المال، لماذا؟ لأن هذا الشاب من المناضلين الجريئين ضد مشاريع الاستعمار البريطاني في بلادنا، وضد أعوانه وأذنابه، وفي سبيل حرية فلسطين واستقلالها.

هذا ما حدث بالتمام والكمال، أحيله إلى أمانة بيت المال لتتدبر أمرها فيه، بعد أن أعلنت أنها هيئة وطنية عامة، وأحيله إليها أيضا، لأنزهها عن أن توظف عميلا لاستعمار البريطاني في مكاتبها.

والحكاية لم تنته بعد…

الصحف اللبنانية جميعها – من اليمين إلى اليسار أيضا – تطلب اليوم طرد المدعو فائز صائغ، وهو شقيق السيد يوسف صائغ من الأرض اللبنانية، لأنه لم يتورع عن مهاجمة استقلال لبنان، وتأييد المشاريع الاستعمارية البريطانية، إذ هو من قادة الحزب السوري القومي وأحد المطالبين بتنفيذ مشروع سوريا الكبرى، والحكومة اللبنانية تبحث في أمر هذا الدخيل على لبنان، وفي مسألة إرجاعه إلى فلسطين. بيد الأمانة العامة لبيت المال أن تُنهي هذه الحكاية في أسرع وقت، حتى يظل بيت المال هيئة عربية وطنية، تهدف إلى مساعدة الحركة الوطنية في نضالها من أجل الحرية والاستقلال، وضد المشاريع البريطانية والصهيونية من مثل مشروع التقسيم وسوريا الكبرى. نرجو أن تنتهي هذه الحكاية.

مجلة (الغد) الفلسطينية – العدد (39) 21/3/1947

ما لم يتنبأ به أميل حبيبي

بقلم: د. محيي الدين اللاذقانـي

قبل عام من نكبة فلسطين، وعامين من إعدام أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي كتب أميل حبيبي مقالا في مجلة (الغد) الفلسطينية يسخر فيه سخرية مرة من سعادة ويسميه “الفوهرر الممسوخ” قياسا على هتلر نظرا لأن حزبه تبنى التحية النازية، والصليب المعقوف.

وفي مقالته التي تتراقص بين السخرية، والسجع وهي من بواكير الكاتب الذي كان شابا حينها يزعم حبيبي إن ذلك الحزب تأسس بدعم من الفاشيين الطليان، ثم تسلمه منهم البريطانيون الذين ضغطوا لإعادة ترخيصه في لبنان، دون أن ينسى الإشارة إلى سجن الزعيم في الأرجنتين بتهمة اختلاس أموال.

ولم يكن سعادة قد أُعدم أثناء نشر ذلك المقال، لكنه كان ينتظر قدره في سجن لبناني بعد أن حاول الهرب للأردن، فأعاده الملك عبدالله، وظل في سجنه “يتشمس” كما قال حبيبي إلى أن تم إعدامه في لبنان أثناء حكم حسني الزعيم الذي تخلى عنه أيضا بعد أن تظاهر بدعمه.

ومعظم هذه المعلومات تهم السوريين لأن هذا الحزب مع البعث الحزب الفاشي الثاني الذي تأسس بعده تقاسما السياسة في التاريخ السوري المعاصر، وخرباها في أكثر من مرحلة، وكان للصراع بينهما آثاره الكارثية التي عصفت بالدولة السورية في أكثر من مفترق لاسيما بعد اغتيال عدنان المالكي في الثاني والعشرين من ابريل عام ألف وتسعمائة وخمسة وخمسين على يد رقيب في الجيش ينتمي للحزب السوري القومي الاجتماعي.

ويستطيع من يراجع وثائق المحاكمة التي أعقبت اغتيال المالكي، وكان يرأسها عبد الحميد السراج أول من أدخل طريقة التذويب بالأسيد إلى السجون السورية، أقول يستطيع أي مؤرخ حصيف أن يراجع، ويتتبع “مصعد السياسة السورية” الذي ظل يصعد بضباط، ويهبط بآخرين على مدار عدة حقب منذ انقلاب حسني الزعيم وإعدام أنطون سعادة إلى أن استقر المصعد أوائل السبعينات في الطابق الذي سُمي “الحركة التصحيحية ” التي كانت في جوهرها “حركة تخريبية” وضعت الديناميت في بنية المجتمع السوري لتنسفه.

 وللمؤرخين أن يزعموا من الآن إن هذين الحزبين – بالتعاون مع آخرين- هما السبب في تخريب الحياة السياسية في سوريا، وهذا مالم يتنبأ به أميل حبيبي لكن الأدلة على ذلك كثيرة، ومتسلسلة وموثقة، وربما زعم بعضهم مستقبلا إن حزبي ميشيل عفلق، وأنطون سعادة قد خربا سوريا عمليا، وليس نظريا فقط من خلال تأجيج الصراعات داخل الجيش، والانقلابات والتصفيات المتتالية التي وضعت البلد في نهاية الأمر بيد عائلتين من الحزبين توحدتا في عائلة واحدة حكمت سوريا سبعين عاما ونيف.

 والعائلتان هما أسرة مخلوف السورية القومية الاجتماعية، وأسرة الأسد البعثية، وهكذا، ومن توحد “جحشنة” الأسديين البعثيين مع”خبث” المخلوفيين وُلد النغل الذي أكمل بعد والده المقبور بالقرداحة تدمير سوريا.

_____________________________________________

 من مقالات العدد السابع من مجلة (العربي القديم) كانون الثاني/ يناير 2024

زر الذهاب إلى الأعلى