أرشيف المجلة الشهرية

من الريس إلى القاشوش: حماة أمّ المُبدعين والثوار

العربي القديم – يحيى الحاج نعسان

منذ نشأت كان لديّ إحساس بأنّي ابن مدينة عظيمة وعريقة، لكنها مظلومة جداً. كنت أكذّب نفسي، وأقول: إنّه أمر طبيعي، فلا أحد يرى أجمل، وأغلى، وأعظم من أمّه.. ولكن لا أدري لماذا؟ وباللاشعور كنت لا أحب كثيراً ما يطلقه أبناء المدن السورية الأخرى، وحتى أبناء حماة نفسها عليها، وهو لقب أمّ النواعير – رغم أني أعتبرها منجزاً عظيماً، مع وجود خطأ شائع عنها، وطريف سآتي على ذكره لاحقاً –  لكني دائماً ما كنت أعتقد أنها تستحقّ أكثر.

ظلّ ذلك الشعور هاجسي إلى أن وصلت للصف الثالث الثانوي، وذكر لنا أستاذنا تلك القصيدة، عندما كان يتحدث عن محور التحرّر من الاستبداد والاستعمار، إن لم تخنّي الذاكرة، ولم تكن مقررة في المنهاج، لكنها كانت أعظم، وأشهر بكثير من كل ما كُتب في ذلك المجال، وصُعقت حينها، ولعلّ أكثر القرّاء سيُصابون بالدهشة الآن، عندما يعرفون أن هذه القصيدة الخالدة للسوري، والمناضل، ولأحد أقدم، وأشهر صحفيي العالم العربي ابن مدينة حماة نجيب الريس المتوفّى عام 1952

يا ظلام السجن خيّم   إننا نهوى الظلاما

ليس بعد الليل إلا    فجر مجد يتسامى…

هذه القصيدة التي لحّنها، في ما بعد أشهر ملحن عربي، هو عبد الوهاب، وغنّتها العالمية فيروز، كتبها صحفي حموي يا سادة، قبل مئة عام، عندما اعتقله الفرنسيون؛ لأنه اختار الحرية، ورفض العبودية والاحتلال، وظلّ يناضل بقلمه حتى الجلاء.

منذ ذلك الحين بدأت أبحث أكثر، وأتعرّف أكثر على مدينتي العريقة، ولعلّي أُوفَق لاحقاً إن بقيت حياً، لوضع كتاب أو كتيبات، توضح للسوريين والعرب، وحتى أبناء حماة مدينةً ومحافظةً، عظم أمّهم الولّادة التي كانت النواعير واحدة من مئات العظماء، والإنجازات التي أنجبتهم ليس إلا.

حماة أمّ الأحرار والمبدعين

تضرب مدينة حماة جذورها عميقاً في التاريخ، كإحدى أقدم المدن في العالم، بعد دمشق وحلب، بعمر يقارب الـ8 آلاف عام تقريباً، وفق أقلّ التقديرات التي  أكدتها البعثة الأثرية الدنماركية عام 1983م ، حين عثروا على مكتشفات تعود إلى العصر البنوليني، وقد اشتُقّ اسم حماة من المواقع الطبيعية، من التلال المحيطة بها، ويقال: إن اسمها مأخوذ من اسم النبي (حام) المدفون فيها، كما يرى بعض الباحثين أن التسمية جاءت من اسم أول ملك آرامي حكمها.

لا، بل إن بعضهم يقول: إن اسم سورية في العهد القديم كان (حمت) نسبةً إلى أعظم بلد فيها، أي حماة، ووصفت بالعظمى، أي إن العهد القديم (التوراة) كان يسمّي سوريا كلّها باسم حماة، وفيه يعتقد أن هذه البلد أعظم مدنها.

وبالطبع هذا الكلام لا يعني أن حماة أكثر أهمية من دمشق وحلب،  بل لا يخفى على أحد، بأن دمشق أقدم عاصمة في التاريخ، وكذلك حلب من أقدم، وأعظم المدن، والحضارات في العالم، غير أنهما نالا حظّاً وافراً من الاهتمام، من قبل الكتّاب والباحثين، والمؤرخين والإعلام، على عكس مدينة حماة التي نادراً ما تُذكر، رغم أنها تدانيهما بالأهمية، من كلّ النواحي، وخاصة إهمالها خلال ال40، أو الخمسين عاماً الأخيرة، أي منذ استيلاء عائلة الأسد على الحكم في سوريا، والسبب لا يخفى على معظم السوريين بالتأكيد.

عبد القادر مليشو ومصطفى عاشور وسعيد الجابي

يذكر الباحث محمد خالد جزماتي: إن القائد المعروف فوزي القاوقجي الذي كان ضابطاً عثمانياً، وظلّ يقارع الفرنسيين، بعد احتلالهم سوريا، ولا ينسى بعض رجالات حماة الأشاوس، كالقائد “سعيد العاص”، و “عبد القادر مليشو”، و “مصطفى عاشور”، و “محمد الحبال”، و “عدية القويدر”، و “سطوف البشري”، و الحاج “محمد طهماز”.

ويذكر: إن مليشو، وعاشور وقفا وحدهما، في وجه حملة فرنسية كاملة، وظلّا يقاتلان حتى قُتلا، بعد أن استطاعا قتل الكثير من جنود الحملة، وأنقذا رفاقهم من موت محقّق، عندما حاصرهم الفرنسيون مع قائدهم القاوقجي.

تقول القصة: في إحدى الليالي مرّ القاوقجي، وقواته بغوطة دمشق في أراضي “عين ترما”، ففاجأتهم قوة فرنسية كبيرة، واستطاعت تطويقهم، فقام القاوقجي بطلب التطوع، للموت من قواته حسب الرغبة، للتعامل مع الفرنسيين وإشغالهم؛ لتأمين انسحاب باقي المجاهدين، وهذا ما حدث، حيث تطوّع المجاهدان مصطفى عاشور، وعبد القادر مليشو، وتسلّقا الرابية، وأطلقا نيران رشاشيهما، وقتلا كثيراً من أفراد وضباط الحملة الفرنسية، وبعد نفاد ذخيرتهما هاجمتهما سرّية الفرنسيين بخيولها، ودمرت مكانهما تدميراً كاملاً، واستُشهد البطلان صباح يوم 21 تشرين الثاني 1926”.

أمّا الشيخ المعروف سعيد الجابي الذي توفّي عام 1948، فقد كان من علماء حماة البارزين في الدين، وظلّ 30 عاماً ينافح عن الإسلام، وعقيدة التوحيد في سوريا، في مواجهة هجمات الخارج والداخل، وصدر له 5 مؤلفات، كان أبرزها كتاب «النقد والتزييف».

ولكن الشيخ لم يكن رجل دين فقط، بل كان الحمويون يضربون بشجاعته ورجولته المثل، حتى إنه وقف وحده في وجه الحاكم الفرنسي لحماة، ومنعه من ضمّ الجامع الكبير أشهر معالم حماة وآثارها، والموجود حتى الآن إلى الكنيسة المجاورة.

يروون إن الحاكم الفرنسي طلب، إذ ذاك من علماء حماة التنازل عن الجامع الكبير؛ ليضمّه إلى الكنيسة المجاورة في مدرسة الراهبات، فلم يجبِ العلماء، إلى أنْ قال أحدهم: إن لنا شيخاً اسمه محمد سعيد الجابي، وهو وحده قادر على الموافقة، وإعطاء الجواب، فاستدعى الحاكم الشيخ، وطلب منه الموافقة على ضمّ المسجد، فأجابه: «خذوه لكن بالثمن الذي أخذناه، لقد أخذناه بالسيف، وما تزال ضربات السيوف ظاهرة فيه، ودفعنا ثمنه بالدم»، فأرهبته جرأة الشيخ وصراحته، ثم عدل عن قراره.

حماة أمّ أجمل قصيدة في الجلاء

كلّنا يعرف أن الشاعر نزار قباني، والثائر الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، وحسن الخراط دمشقيون، وأن سلطان باشا الأطرش من السويداء، وإبراهيم هنانو إدلبي (كفر تخاريم التابعة آنذاك لحلب)، وسعد الله الجابري حلبي، وصالح العلي طرطوسي،..الخ، لكني أراهن أن جزءاً كبيراً من السوريين لم يكن يعرف، قبل اليوم: الجابي، أو الريس، أو عثمان الحوراني، أو  العلامة محمد الحامد، وأخاه بدر الدين الحامد، وأن كلّ هؤلاء الأعلام من مدينة حماة، أو ربما لأول مرة يسمع بأسمائهم أصلاً.

الكثير لا يعرفون قائل أهم الأبيات التي قيلت في جلاء المستعمر الفرنسي، حتى صارت قولاً مأثوراً على الشفاه هي لـ”بدر الدين الحامد” الحموي..

يا راقداً في روابي ميسلون أفق..  جلت فرنسا وما في الدار هضام

عيد الجلاء هو الدنيا وبهجتها .. لنا ابتهاج وللباغين إرغام

وحتى لا نُتهم بالتجنّي، ربما الوحيد الذي يعرفه السوريون، هو الأديب، والشاعر الكبير محمد الماغوط، لكنْ يعرفونه من مدينة سلمية، التي يعتقد كثير من أصدقائي أنها تابعة لحمص، وليس لحماة!

نعم، جميع السوريين يعرفون أن الشهيد إبراهيم القاشوش ملهب حماس السوريين، وصاحب أبرز الأهازيج الثورية هو حموي، ولكن نخشى أن تبقى أهازيجه، ويُنسى اسمه، وموطنه -خاصة وأن اليوتيوب ليس مصدراً مؤتمناً للتوثيق، فقد حذف آلاف الفيديوهات للثورة-  كما حال الحامد، والجابي، والريس، ووجيه البارودي شاعر حماة وطبيبها، الذي لم يتمّ تكريمه إلّا عندما بلغ من الكبر عتياً، حين قارب التسعين، وليس له سوى مقابلتين صغيرتين على استحياء، رغم كلّ مساهماته في الشعر، وأعماله الخيرية في الطب وغيره.

مَن بنى النواعير؟

عندما تسأل أيّ أحد: مَن بنى النواعير؟ يسارع إلى الإجابة الروتينية الموجودة، ربما في الكتب والمراجع، ألا وهي الروم البيزنطيون، ولكن الحقيقة أن مَن بنى النواعير هم الحمويون، وإلّا لماذا لم يبن الروم البيزنطيون الناعورة، في عاصمتهم القسطنطينية آنذاك؟!

من حيث بدأنا نختم

بالتأكيد لا تتسع هذه القطعة الصغيرة، لذكر كل أبناء مدينة حماة وبناتها العظام، من رجال ونساء، وآثار مادية وفكرية وتاريخية، فذلك يحتاج لكتب وندوات إعلامية.. الخ، ولكن كما بدأنا بالحديث عن الصحفي نجيب الريس، أرى أن من الوفاء أن أختم بالحديث عن زميلي الصحفي براء البوشي، أول صحفي سوري، وحموي يقدّم روحه؛ فداء لكرامته، وحريته، وحرية أبناء شعبه، في الثورة السورية التي انطلقت ربيع 2011، حين قرر بكل شجاعة أن يواجه نظاماً أوغل في دماء السوريين، ومن قبل في دماء أبناء مدينتنا، ليمحي اسم سوريا العظيمة، ويربطها باسم الأسد، ويثبت كما الريس أن الكلمة، ويضاف لها الصورة حالياً من أقوى الأسلحة في وجه الطغاة.

“أنا الملازم المجند براء يوسف البوشي مدرّب مادة التوجيه السياسي، أعلن انشقاقي عن جيش النظام.. قاتل الأطفال، ومرتكب أبشع المجازر”.

_____________________________________________

 من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024

زر الذهاب إلى الأعلى