أرشيف المجلة الشهرية

اللاذقية وفواز الأسد: نكبة مدينة

عبد السلام حاج بكري – العربي القديم  

صرتُ مع شقيقي الأكبر اثنين من أسرتي في المرحلة الإعدادية في العام 1981 مع شقيقين لنا في الثانوية، كانت مدرستنا في جبل الأكراد بريف اللاذقية، تبعد مسافة نصف ساعة، فيما كان شقيقاي يسيران ساعة ونصف؛ ليصلا إلى الثانوية في كنسبا، وكانت الوحيدة في الناحية، يسيران في غابات كثيفة، يتخللها وادٍ شديد الخطورة شتاء، يعانيان البرد والأمطار والثلوج، والحرّ صيفاً؛ لذلك استأجر والدنا منزلاً في اللاذقية لمتابعة الدراسة هناك، استدان الكثير؛ ليوفر علينا الإرهاق.

    كان طبيعيّاً أن يختار والدنا السكنى في حيّ الصليبة المعروف بكراهية قاطنيه لحكم الأسد الأب، وهو المعارض القديم لحكم البعث، ومن ثم حكم البعث، وحافظ الأسد. كان والدي ناشطاً في حزب اشتراكي محظور، وعانى الملاحقة الأمنية، منذ عام1963 ، نام ليالي كثيرة في الكهوف، وعند الأصدقاء والأقارب، وعندما تتراجع حدّة ملاحقته، يتابع نشاطه الحزبي، واختار حيّ الصليبة للسكن المؤقت؛ لاعتقاده بأنه سيكون أكثر أماناً له.

   بعد أيام من وصولنا للمدينة، وفي طريق عودتي من المدرسة شاهدت حشداً يسوده هرج وصراخ، دفعني الفضول لاستطلاع الأمر، ومما عرفته من المتجمهرين أن شبّاناً من الحيّ ضربوا فواز الأسد، ومرافقته لتحرّشه بفتاة، كانت تعبر الشارع عند مرورهم فيه، راح رجل يصرخ: اهربوا قبل أن يعود الشبّيحة والأمن. تفرّق الجمع، وعدت للمنزل، وأنا أتساءل، ما معنى كلمة الشبيحة التي سمعتها للتوّ؟

   سيطر فواز ميدانياً على المدينة، وتحكّم بكل مفاصلها الاقتصادية، عبر فرض الأتاوات بقوة السلاح، وهو لم يتجاوز العشرين من عمره، وخلق اقتصاداً موازياً قائماً على التهريب، تزامن مع بدء تفاعل الأزمة الاقتصادية على النظام، عقب توقف الدعم المالي الخليجي؛ لاتخاذ النظام موقفاً مؤيداً لثورة الخميني، وبعد ذلك الحصار الاقتصادي الغربي الذي جاء نتيجة لانكشاف دور الأسد في أكثر من عملية إرهابية في أوروبا، وبذلك رسخ مفهوم التشبيح في ذاكرة السوريين.

   بهذا أكمل فواز ما بدأه والده جميل الأسد شقيق الرئيس بالاستيلاء على المعابر الحدودية مع تركيا ومرفأ اللاذقية، واستكملت حلقة الهيمنة على النشاطات الاقتصادية، بتولي قريبهم كمال الأسد رئاسة غرفة التجارة في اللاذقية، فآل لهم كل نشاط اقتصادي شرعي أو غير قانوني.

   لكن الأسوأ من التحكم بلقمة البشر، كان العبث بحياتهم وأمنهم، فقد جمع فواز حوله عشرات الشباب من غير المتعلمين، والعاطلين عن العمل من أرياف جبلة والقرداحة، وأقام إمبراطورية تشبيح تقتل وتختطف، وتقطع الطرقات وتسرق، وإضافة لعمليات تهريب الدخان، والمواد الكهربائية والمنزلية من لبنان، فقد أدخل بالطريقة ذاتها الأدوية مجهولة المصدر، ومنتهية الصلاحية أحياناً، ووزعها في كل سورية برعاية النظام وقواته الأمنية.

 نشاطات إجرامية لا حصر لها

  نوّع نشاطاته الإجرامية، فدخل مجال تهريب السلاح والمخدرات التي افتتح لها مخازن في القرداحة، وحي الشيخ ضاهر في اللاذقية، تبيع علانيّة، واتجه لتجارة الفحم لارتفاع أرباحها،  فراح رجاله يشعلون الحرائق في غابات الساحل، لا سيما جبلي الأكراد والتركمان، ليتولى لاحقاً تحويل حطب أشجارها إلى فحم سيطر على سوقه منفرداً.

   ولم يتوقف ولعه بالسيطرة عند كل هذا، فأضاف إليه التحكم بكرة القدم في المدينة، وهي آخر متنفس لأبنائها، بعدما استملك أخوته، وأبناء عمه رفعت شواطئ المدينة، وحرموا سكانها مجانية ماء البحر، فعيّن نفسه رئيساً فخرياً لنادي تشرين، وأدخل إليه شباناً بصفة لاعبين من أرياف القرداحة وجبلة، لا يعرفون من كرة القدم سوى اللبط، وتحت التهديد فرض على حكام مباريات النادي محاباته لتحقيق الفوز.

   دخوله على خط كرة القدم لم يكن عبثياً، بل مخططاً له، نتج عنه انقسام واضح بين سكان المدينة والريف طائفياً، فبعدما كان تشرين مع حطين ناديَين متنافسَين بشرف، ويمثلان أبناء المدينة، حوّل تشرين إلى نادٍ تشبيحي، يفوز على حطين بقوة سلاح فواز الأسد الذي استخدمه، داخل الملعب تهديداً ووعيداً عام 1988 ، وأعقب ذلك اشتباكات استمرت أياماً بين أنصار الناديَين، لكن الحساسية بينهما استمرت حتى اليوم.

   تكاثر الشبيحة من آل الأسد، فظهر هائل، وهارون، وهلال، وشبان آخرون، دشّن كل منهم مشروعه التشبيحي، للعمل إلى جانب معلمهم الأكبر بالهيمنة والتسلط، وكل الأعمال اللاشرعية، ومع مرور الوقت نشبت خلافات بين هذه المجموعات، على توزّع الحصص والجغرافيا التهريبية، وصلت حدّ الاشتباك المباشر بالسلاح، مما دفع باسل حافظ الأسد للتدخل أكثر من مرة، لضبط إيقاع الإجرام؛ كي لا يسقط أحد من القائمين عليه بنيران صديقة.

    ولأسباب اقتصادية عديدة، ومنها شرعنة التشبيح والتهريب أصدر حافظ الأسد قانون الاستثمار رقم 10 في العام 1991، افتُتحت بموجبه المناطق الحرة في عديد من المدن السورية، سيطر عليها، وتحكم بتجارتها آل الأسد، ومنهم بعض هؤلاء الشبيحة مع بعض أقاربهم من آل مخلوف.

    كان فواز الذي لا يحمل سوى شهادة إعدادية فقط، قد أعلن حصوله على شهادة الحقوق، وبدأ بممارسة المحاماة في مدينة اللاذقية، وافتتح مكتباً فخماً في أهم أحيائها، ولاحقاً دوّن قبل اسمه حرف الدّال ليغدو الدكتور.

   لم يوقف عمل مجموعاته التشبيحية، لكنه توقف عن مرافقتها، واقتصر على الإشراف عليها. كسب الدكتور كل الدعاوى التي توكّل بها، رغم أنه لم يدخل قاعات المحاكم مطلقاً، اقتصرت قضاياه على الجرائم المثبتة التي تودي بمرتكبيها إلى المؤبد أو الإعدام، أو الجرائم الاقتصادية بأرقام كبيرة. كان الرجل يكتفي بالاتصال بالقاضي صاحب العلاقة، فيحسم براءة موكله، دون جلسة محاكمة، أو استماع لمحامي الضحيّة وشهوده، ولم يكن لأحد أن يتجرّأ على الاعتراض؛ لأن مصيره سيكون التغييب، أو الشّحط في شوارع المدينة، وقد شاهد سكانها رجاله يفعلونها بفلاح من قرية في منطقة الحفّة، رفض أن يعترف بأنه أحرق الغابة المجاورة لأرضه، كما طلب منه الدكتور، وأصرّ على أنه شاهد بعينيه شبيحته يشعلونها.

   يمكن كتابة الكثير عن تشبيح فواز الأسد، وممارساته الفظيعة مع أبناء اللاذقية، لكن سأتوقف هنا؛ لأورد بعضاً من سيرته العطرة، مما شاهدته بنفسي أو وثقت منه.

  في كرة القدم “كنت شاهداً”

كان نادي تشرين خاسراً بهدف أمام منافسه التقليدي في المدينة حطين، في مباراة ذهاب الدوري عام 1986، وشارفت المباراة على نهايتها، ولم يستطع تشرين إدراك التعادل، ومن هجمة له، رفع حكم الراية رايته معلناً عن تسلل، فصرخ به فواز، وكان قد نزل إلى الملعب، ووقف بجانب الحَكم: “نزّلها ولاك”، فأنزلها في الحال؛ ليدرك رائد جورية التعادل لتشرين، رغم أن لاعبي حطين كانوا قد توقفوا عن الجري، وكالعادة أعقب المباراة اشتباكات بين جماهير الناديَين، اعتدى فيها عناصر حفظ النظام على مُشجّعي حطين.

   في أداء الواجب

    في العام 1990 توسّل إليه تاجر جملة المساعدة في استعادة دَين له، مقداره 250 ألف ليرة من رجل اشترى بضاعة لم يدفع ثمنها، فطلب منه العودة بعد أسبوع، وفي اليوم المحدد حضر التاجر سائلاً عن ماله، فاستقبله فواز بقهقهة صاخبة، “واقرود.. لكن شو.. جبتن”. شكره التاجر، وقال له خذ خمسين ألفاً منها مكافأة لك، فأجابه فواز “والإمامو علي ما حزرت، هنت اللي بدك تدفع خمسين، كلفتنا العملية 300 ألف”. دفعها الرجل شاكراً للدكتور مساعدته.

في القانون

  اتصل بقاضٍ، حَكَمَ على متّهم من إحدى مجموعات التشبيح بالإعدام؛ لقتله عنصرَين من الأمن، أوقفاه لتفتيش سيارته، وطلب منه إعادة المحاكمة، وتبرئة المتّهم، رفض القاضي، وهو من قرية بريف إدلب طلبه، وفي اليوم التالي تماماً، تم نقله إلى القامشلي، وأعيدت المحاكمة، وغرّد المجرم طليقاً.

في الأخلاق

  هذا أول ما شهدته على أعمال فواز، وكان عند وصولي إلى اللاذقية عام 1981.

  كان يعبر حيّ الصليبة بسيارته السوداء، مع صديقه الشبيح المشهور قحطان رجب، ترافقه سيارة أخرى فيها خمسة شبيحة مسلحون، عندما شاهد فتاة أعجبته، فتوقف طالباً منها أن تركب معه في السيارة، وعندما رفضت حاول مع قحطان جرّها للسيارة، وهنا نال من الضرب ما لم يعرفه سابقاً أو لاحقاً من شبّان كانوا في المكان، ولم يتمكن من المغادرة إلا عندما أطلق مرافقته نيران بنادقهم، ومن هنا جاء حقده على سكان حيّ الصليبة، ولم يتجرأ بعدها على تكرار هذا العمل فيه مرة أخرى.

___________________________________

من مقالات العدد الثاني عشر من (العربي القديم) الخاص باللاذقية – حزيران/ يونيو 2024

لقراءة العدد كاملاً اضغط هنا.

زر الذهاب إلى الأعلى