الرأي العام

نوافذ الإثنين | الخوف من الامتحان والاستبداد

ميخائيل سعد

يعيش جاري، الطالب الجامعي، ابن الأربعين عاما، حالة من القلق المضني بسبب الامتحانات الجامعية. فمع بداية امتحاناته، طرأ على سلوكه شيء جديد؛ فقد استعمرت تكشيرة وجهه الجميل، واستمرت في احتلاله منذ اليوم الأول، وأصبحت حركته قلقة، سريعة، فيها نوع من النرفزة. تغيرت قابليته على الطعام، وهو المعروف بعشقه للطعام، وازداد معدل استهلاكه اليومي للدخان القهوة، وتقلصت ساعات نومه، والتصق بكرسيه ساعات طويلة، ينحت الكلمات نحتا، وهو الكاتب المعروف برشاقة الاسلوب، والخيال المبدع الذي لا يخضع لأي قالب فني. لقد تحول إلى نحّات قاسي المزاج، كل ذلك بسبب امتحانات جامعية لا تغني ولا تسمن من جوع معرفي.

قال: منذ طفولتي أخاف الامتحانات.

لماذا يخاف جاري الكاتب الأربعيني المتميز من الامتحان؟

عادت بي الذاكرة ثلاثين عاما إلى الوراء. كنت لاجئا سياسيا حديث العهد بالإقامة في كندا، بعد أن قُبل طلب لجوئي، فقد كنت قبل شهرين من وصولي إلى كندا سجينا في فرع فلسطين، دون سبب. ففي سورية الأسد، كل مواطن مدان منذ ولادته، وبالتالي هو سجين محتمل لأي سبب، أو دون سبب. المهم أنني تقدمت لامتحان نيل شهادة السواقة. جلس بجانبي الفاحص يراقبني، وبيده قلم وورقة يسجل فيها ملاحظاته، قلت له بعد انطلاقي بالسيارة: يا سيدي أنا أخاف من الامتحانات، أرجو أن تأخذ هذا بعين الاعتبار. لم يتكلم الرجل، وهز رأسه بمعنى أنه سمع، وتابعت القيادة. بعد نصف ساعة عدنا إلى ساحة الإدارة، وتوقفت في المكان المخصص. أعاد النظر في ورقته، جمع وطرح، وقال: مبروك، لقد نلت علامة النجاح، وتستحق ذلك عن جدارة، ولم ألاحظ أنك تخاف، ومقارنة مع شخص آخر، كان كولونيلا في الجيش اللبناني، فقد كنت أقل خوفا منه أثناء الامتحان. وتابع الرجل قائلا: إن هدف الامتحان، عندنا (قصده في كندا)، هو المحافظة على حياة المواطن سواء كان وراء مقود السيارة أو سائرا في الشارع، وليس منح المواطن شهادة ”حسن سلوك“. إن الخوف من الامتحان سببه العيش في نظام سياسي-اجتماعي استبدادي، وكما فهمت من أوراقك أنك قادم من سورية، وهذا بحد ذاته سبب خوفك، لقد كنت عند الديكتاتور الجنرال حافظ الأسد.

هذا الكلام يفسر جزئيا سبب خوف جاري وغيره من السوريين من الامتحانات، إنه الاستبداد؛ فأي نوع من الاستبداد هذا، الذي يجعل الانسان يرتعش من مجرد كلمة ”امتحان“؟

الاستبداد

الاستبداد هو نظام حكم يتميز بتركيز السلطة في يد شخص واحد أو مجموعة صغيرة من الأشخاص دون وجود أي تفاعل حقيقي مع المجتمع، وخاصة عندما يكون نظام الاستبداد كنظام آل الأسد، الذي يطلب من المجتمع السوري، بقضه وقضيضه، الخضوع الكامل، والتسبيح بحمد ”الإله الأسدي“ ، ”وعطاياه الأبوية“، وبالتالي يغدو أي تنظير عن أسباب الخوف من الامتحانات، مهما كان نوعها، حالة عبثية لا معني لها. فما معنى الكلام عن الخوف من الامتحانات، عندما يكون الحصول على رغيف الخبز هو منحة وإكرامية من سيادة الجنرال. هل نتكلم عن التضييق على الحريات الأكاديمية؟ أم عن التعليم الموجه لتمجيد القائد؟ أو عند التلاعب السياسي في الامتحانات المدرسية، من مستوى الروضة حتى شهادة الدكتوراه؟  وعن أي نزاهة سنتكلم، في الامتحانات، والنظام يدفع أساتذة الجامعات دفعا كي يبيعوا أسئلة الامتحانات للطلاب. أو عن منح العلامات الكاملة لفتى أو فتاة قفزت بالمظلة؟

إن أنظمة استبدادية، كنظام آل الأسد لا يفهم معنى الاستثمار في التعليم إلا لتمجيد القائد والخضوع له، وبالتالي، فمن الطبيعي أن يخاف الطالب السوري من الامتحانات، وخاصة عندما يكون هذا الامتحان يقرر مصير حياته المستقبلية.

ولكي نخرج من المناخ ”الأسدي“، الذي لم يدمر التعليم فقط، وإنما دمر سورية كلها، دعونا نقرأ رأي خبراء عن التعليم في الدول الاستبدادية بشكل عام.

فقد ”أجرت دراسة بعنوان “التعليم في الدول الاستبدادية: تحليل مقارن للأداء التعليمي في الدول الديمقراطية والاستبدادية” من قبل باحثين في جامعة هارفارد، حيث تم تحليل بيانات التعليم من عدة دول لتقييم الفروق في جودة التعليم بين الأنظمة الاستبدادية والديمقراطية. أظهرت الدراسة أن الدول الاستبدادية تعاني عادةً من تحديات كبيرة في التعليم مثل نقص الموارد والبنية التحتية وقلة الحريات الأكاديمية.

كما قام باحثون آخرون بدراسة تأثير الاستبداد على الامتحانات المدرسية في إثيوبيا، حيث تم تحليل بيانات الطلاب والمدارس لتقييم أثر الاستبداد على أداء الطلاب في الامتحانات الوطنية. أظهرت الدراسة أن الأنظمة الاستبدادية قد تؤثر سلبًا على جودة التعليم وتزيد من الفجوات بين الطلاب في الحصول على فرص متساوية في النجاح في الامتحانات.

الحرية الأكاديمية

بالإضافة إلى ذلك، هناك دراسات تناولت تأثير الاستبداد على الحرية الأكاديمية وتدخل الحكومة في المناهج الدراسية وعملية التقييم. هذه الدراسات تسلط الضوء على كيفية استخدام الأنظمة الاستبدادية للتلاعب بالتعليم والامتحانات لتحقيق أهدافها السياسية“.

أخيرا، وللزيادة في تفسير خوف جاري من الامتحانات لا بدّ من التذكير بأنه قد يكون للفشل في الامتحانات، في نظام استبدادي كنظام الأسدين، عواقب سلبية جسيمة. يمكن أن يتعرض الطلاب لعقوبات قاسية أو تهديدات بفقدان الفرص الأكاديمية أو المهنية، ويسبب هذا الوضع الضغط النفسي والقلق والخوف من الامتحانات، هذا، ولم نتكلم عن الاستبداد المجتمعي والأسري، وغير ذلك من أنواع الاستبداد.

ماردين في ١٥-١-٢٠٢٤

زر الذهاب إلى الأعلى