دلالات وقضايا | التَّنُّور والعدالة الانتقاليَّة
ثقافة الدَّولة شيء وثقافة الهوبرة والاستعراض الشَّخصيِّ شيء آخر

د. مهنا بلال الرشيد- العربي القديم
قرأتُ بالأمس إعلانًا عن توفُّر التَّنانير للبيع في ريف معرَّة النُّعمان الشَّرقيِّ المنكوب بفعل تخريب عصابة الأسد المجرمة وأعوانها قبل خلعها أو سقوطها، والتَّنانير جمع كلمة تنُّور، وليس لها علاقة بالتَّنُّورة الطَّويلة أو التنَّورة القصيرة بوصفها واحدةً من أحدث منجزات عالم الأزياء والموضة، الَّتي غنَّى لها فارس كرم في أغنيته الشَّهيرة، أمَّا التَّنُّور فهو واحد من أبرز منجزات الثَّورة النُّيوليثيَّة أو ثورة اكتشاف القمح وزراعته أو تدجينه قبل حوالي 12 ألف سنة من وقتنا الحالي. وكان الإنسان قبل اكتشاف القمح بدويًّا متنقِّلًا يجمع ثمار الأشجار، ويلتقط قوته من نباتات البراريِّ، وصائدًا رحَّالة يطارد صيده من حيوانات البادية في مكان منها، ثمَّ ينتقل إلى مكان آخر؛ ليمارس فيه نشاطه الاستهلاكيَّ هذا؛ وبمعنى آخر كان الإنسان البدويِّ الصَّائد الجامع مستهلكًا، ولم يعرف الإنتاج الزِّراعيِّ ولا الإنتاج الحيوانيَّ، وتسبَّب باستهلاكه غير الرَّشيد وصيده الجائر بانقراض بعض الحيوانات وبعض النَّباتات أيضًا؛ حتَّى جاءت ثورة اكتشاف القمح النُّيوليثيَّة بين سهول ميزوبوتاميا (بلاد ما بين النَّهرين) أو حول سهول الجزيرة الفراتيَّة أو حول ضفاف نهر العاصي في سوريا أو بالقرب من روافده ومنابعه في سوريا ولبنان وفلسطين؛ فغيَّرت مجرى حياة البشر، وقادتهم نحو الحضارة، وهناك أدلَّة أثريَّة تشير إلى أكثر من ثورة نيوليثيَّة زراعيَّة واحدة؛ ممَّا يعني أنَّ عمليَّة جمع القمح البرِّيِّ من سهول الطَّبيعة، وإصلاح الأرض للزِّراعة، وبذار القمح فيها، والعناية به حتَّى لحظة الموسم انتقلت بسرعة بين سهول نهري دجلة والفرات وحول سهول نهر العاصي.
أمَّا اكتشاف النَّار وتدجينها أو التَّحكُّم بها للاستفادة من خدماتها كمصدر من مصادر النُّور والدِّفء والطَّاقة فقد كان-على الأرجح مصادفة-قبل 300 ألف سنة من وقتنا الرَّاهن، والجمع بين منجزات ثورة اكتشاف النَّار وثورة تدجين القمح وتطبيقات هاتين الثَّورتين جاء بعد الثَّورة الزِّراعيَّة النُّيوليثيَّة؛ ليقدِّم لنا التَّنُّور بوصفه منجزًا حضاريًّا مدمجًا أو مشتركًا بين منجزات هاتين الثَّورتين معًا، ويضعنا في قلب (نظريَّة الطَّهي) الَّتي تحدَّث عنها ريتشارد رانغهام في كتابه الجميل جدًّا: (قدحة نار…دور الطَّهي في تطوُّر الإنسان)؛ وهذا يعني أنَّ الطَّبخ والمطبخ والمطاعم الحديثة وعادات الشُّعوب الغذائيَّة وتقاليد الوجبات وأتيكيت الطَّعام كلَّها منجزات حضاريَّة تابعة لدمج منجزَي اكتشاف النَّار وتدجين القمح وتابعة لهما، وما دمتُ قد ذكرتُ كملة (الدَّمج) هذه؛ سأشير ههنا إلى التقاطي نظريَّة الدَّمج عن نعوم تشومسكي وحديثه عنها في شذرات متفرِّقة، ولم أجد مَن يتحدَّث عنها بين الباحثين العرب إطلاقًا؛ وكيلا يتشعَّب المقال كثيرًا نعود إلى عنوان مقالنا.
صناعة التَّنُّور شرقيَّ معرَّة النُّعمان وفي سهول نهر العاصي
يُصنع التَّنُّور في سهول العاصي وسهول بلاد ما بين النَّهرين (ميزوبوتاميا) بأكثر من طريقة، وأشهرها يكون بخلط التُّراب الزِّراعيِّ الأحمر مع دقيق الحجارة البازلتيَّة السَّوداء بالإضافة إلى نسبة محدَّدة من خيوط الكتَّان أو القنِّب، ثمَّ يُعجن هذا الخليط، ويُبني منه فخَّار التَّنُّور، ثمَّ تُبنى غرفة للتَّنُّور مع مستودع للحطب بجواره، ويُوضع التَّنُّور في غرفته، ويُشوى بنار حامية لساعات عدَّة حتَّى يتفخَّر، أو تنضج جدرانه، أو يتحوَّل إلى تجويف فخَّاريٍّ يصلح للخبر على جدرانه، أو الطَّهي بداخله، وتبدو جليَّة علاقة التَّنُّور بعصور الفخَّار؛ ومن هنا أقترح على طلَّاب التَّاريخ والآثار والأنثربولوجيا وعلم الاجتماع أن يدرسوا التَّنُّور في سهول ميزوبوتاميا وسهول حوض العاصي وفي العراق القديم من نواحٍ متعدِّدة؛ فهذا موضوع مثير جدًّا، ولم يُدرس أبدًا من هذه النَّواحي في الجامعات السُّوريَّة وفقًا لمعرفتي المحدودة.
صناعة الخبز على التَّنُّور
لعلَّ المهتمِّين بالسِّيسيولوجيا (التَّحليل الاجتماعيِّ للأشياء والظَّواهر) والسِّينوغرافيا (تحليل الصُّورة والمشاهد المرئيَّة) لاحظوا على سبيل المثال اهتمام المخرج السِّينمائيِّ السُّوريِّ عبد اللَّطيف عبد الحميد (1954-2024) بمشاهد الرَّحى في فيلم (رسائل شفهيَّة)؛ لأنَّها منجز حضاريٌّ له جذوره التَّاريخيَّة الضَّاربة إلى زمن ثورة تدجين القمح في سهول العاصي وبلاد ما بين النَّهرين؛ حيث يُجلب موسم القمح الذَّهبيِّ الأصفر من سهوله الزَّراعيَّة، ويُفرز القمح القاسي منه، ويُوصوَّل (أي يُسل بالماء)، ثمَّ يُجفَّف تحت أشعَّة الشَّمس، ويُكسَّر بالرَّحى أو حجارة الطَّواحين؛ ليصببح بُرغلًا خشنًا لتحضير أكلات البُرغل وغيرها، ويُفرز النَّاعم منه، ويُستخدم في صناعة الكبب بأنواعها الكثيرة؛ وهذا تفسير أنثروبولوجيٌّ لاشتهار المطبخ الحلبيِّ بصناعة الكبب؛ نظرًا لمركزيَّة هذه المدينة بين سهول ميزوبوتاميا وسهول حوض العاصي وموقعها على ملتقى الطُّرق التِّجارة القديمة، وليس هذا وحسب، بل تُستخرج قشور القمح أو (النِّخالة) من بين البرغل النَّاعم والبُرغل الخشن، وهي صحِّيَّة جدًّا لغناها بالألياف على العكس من طحين الخبز النَّاغم، الَّذي يرتبط بشكل ملحوظ بمضاعفات مرض السُّكَّريِّ من النَّوع الثَّاني؛ نظرًا لقلَّة أليافه وسرعة امتصاصه وسهولتها، وإسراف البشر في العصور الحديثة بتحويل هذا الدَّقيق إلى معجَّنات وحلويَّات مخلوطة بالدُّهون والزُّيوت غير المشبعة.
أمَّا القمح الطَّريُّ فهذا لا يصلح لطبخات البرغل أو صناعة الكُبب وإنَّما يصلح للخبز والمعجَّنات؛ فبعد تصويله (غسله بالماء وتجفيفه تحت أشعَّة الشَّمس)، يمدُّ الرِّجال والنِّساء تحت الرَّحى أو تحت عجلات الطَّواحين الحجريَّة (ثِفالاً) كبيرًا، والثِّفال: قطعة كبيرة من القماش تنثر عليها الرَّحى القمح المطحون قبل نخله وتبريده؛ ليصبح جاهزًا للعجين والخبز في التَّنانير وأفران المعجَّنات. وقد التقطت المخيِّلة التَّصويريَّة لدى الشَّاعر الجاهليِّ عمرو بن كلثوم التَّغلبيِّ (أمُّه ليلى بنت الزِّر سالم التَّغلبيِّ) كثيرًا من صور الرَّحى في الجزيرة الفراتيَّة وبلاد الثَّورة الزِّراعيَّة، وصاغها في معلَّقته الجاهليَّة قبيل الإسلام بأسلوب تصويريٍّ مدهش يعكس قوَّة قبيلة تغلب وسطوتها بين القبائل العربيَّة؛ ليلخِّص بشعره مقولة: (لولا الإسلام لأكلت تغلب النَّاس أو العرب)؛ فقد قال عمرو بن كلثوم:
متى ننقل إلى قوم رحانا يكونوا في اللِّقاء لها طحينا
يكون ثِفالها شرقيَّ نجد ولهوتها قُضاعة أجمعينا
أمَّا كعك التَّنُّور أو خبز الأفران المعروك فله سنده اللُّغويُّ في معلَّة زهير بن أبي سلمى (520-609 م)، الَّذي استفاد من صورة صراع حبَّات القمح أو عراكها غير المتكافئ خلال الطَّحن مع حجارة الطَّواحين أو بين حجارة الرَّحى، ووظَّف هذه الصُّورة في ذمِّه الحرب وتصوير نتائجها التَّدميريَّة التَّوأميَّة المضاعفة؛ لينتقل بعد ذلك إلى دعوته إلى السَّلام والعدالة حين قال في معلَّقته:
وما الحرب إلَّا ما علمتمْ وذقتمُ وما هو عنها بالحديث المرجَّم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة وتضرَ إذا ضرَّيتموها فتضرمِ
فتعرككم عرك الرَّحى بثفالها وتَلقَح كِشافًا ثمَّ تُتج فتُتئم
التَّنُّور والعدالة الانتقاليَّة
تشتهر الأرياف القريبة من خطِّ قطار الحجاز (حلب-الحجاز) باحتكاكها مع سكَّان بادية الشَّام أو إطلالتها المباشرة عليها شرقيَّ حمص وحماة وريف معرَّة النُّعمان الشَّرقيِّ، وكثير من أهلنا في هذه الأرياف يعيشون نمطًا حياتيًّا يدمج بين منجزات ثورة اكتشاف النَّار وثورة تدجين القمح مع عادات الإنسان البدويِّ الصَّائد الجامع وأصالته، وبالنِّسبة لطعامهم وعاداتهم وتقاليدهم فهي تعكس قيم البدواة وكَرَم الإنسان البدويِّ مع نقاء عيش البداوة وصفائه أيضًا؛ فلو زرتَ أحدهم سيذبح لك-في الغالب-خروفًا، ويطبخ معه البرغل أو الأرزَّ على نار الأثفية أو الأثافي الثَّلاث، وسيقدِّم لك بجوار اللَّحم خبزَ الصَّاج المشروح، وهو خبز لذيذ تحضيره أبسط من تحضير خبز التَّنُّور، وإن حللت ضيفًا على أحد أهلنا في بادية الشَّام أو حولها، ولم يكن لديه خبزٌ، ستجد المرأة البدويَّة الأطيلة قد نصب صاجًا معدنيًّا رقيقًا على ثلاث حجارة، وأشعلت النَّار تحتها بجوار النَّار الثَّانية، الَّتي تطبخ فوقها لحم الخروف، وستعجن القمح سريعًا، وتقطِّعه إلى كُرات أو أقراص من العجين، ثمَّ ستفرد قُرص العجين، وتمدُّه بين يديها، وستشويه فوق الصَّاج بسرعة، وستبرِّد الخبز تحت الهواء الطَّلق ريثما ينضج لحم الخروف.
أمَّا خبز التَّنُّور فغالبًا ما يحتاج تحضيره إلى ساعات أكثر وتخطيط أطول، وعندما تريد المرأة الرِّيفيَّة تحضير الخيز في صباح اليوم التَّالي، تنخل دقيق القمح في اللَّيل، وتعجنه بالماء والخميرة، وربَّما عجنته بمصل الجبن إذا أرادت خبزًا يحمل نكهة الكعك أو المعروك، وتنتظر ساعات عدَّة حتَّى اختمار العجين عند الصَّباح الباكر؛ فتقطع عجينها، وتنقله إلى غرفة التَّنُّور، وتوقد نارها بحطب الزَّيتون أو حطب العنب المخزَّن من مواسم (الشّحالة أو تقليم الكروم)، ثم تفرد عجينتها بالشَّوْبَك، وتلوف العجين، أو تمدُّ رقائقه برشاقة فريدة بين زنيدها دون أن تثقب العجين، وتضع رغيف العجين على (الكارة)، وتضرب كارتها على جدار التَّنُّور الملتهب؛ فيلتصق العجين بجدار التَّنُّور، وبعد ثوانٍ قليلة ينضج الرَّغيف؛ فتخرجه، وتضع مكانه رغيفًا آخر؛ وتستمرَّ كذلك حتَّى تُنهي خَبْزَتها، الَّتي تكفي أُسرتها أسبوعًا أو أقلَّ من ذلك، حتَّى يأتي موعد الخَبْزَة الثَّانية. أمَّا العدالة الانتقاليَّة؛ فسوف نحكي عن اثنين من معانيها في هذا المقال.
المعنى الأوَّل للعدالة الانتقاليَّة
تشير العدالة في معناها الرِّيفيِّ المستفاد من الحقل الدَّلاليِّ لثورات النَّار وتدجين القمح والطَّهي والتَّنُّور والخبز والطَّبخ إلى نظافة صاحبة المنزل وتقانتها؛ فيقال عندنا: (هذه امرأة معدَّلة)، وفي دمشق الشَّام يقولون عن الرَّجل الرَّزين: (ما حدا جاب معدَّلو بالعاطل)، ولكي تكون الفتاة الرِّيفيَّة معدَّلة في بيت زوجها في المستقبل لا بدَّ لها من أن تمرَّ في مرحلة العدالة الانتقاليَّة في بيت أبيها، وتحت إشراف أمِّها مباشرة؛ فتبدأ الأمُّ بتعليمها فنون الخبز على التَّنُّور وتحضير العجين والمعجَّنات وطبخ الطَّعام اللَّذيذ عندما تبلغ الخامسة عشرة من عمرها تقريبًا؛ وقد وجدتُ ما يشبه السَّند لذلك في نصِّ (مريم الصَّنَّاع) الَّذي نقله لنا الجاحظ في نصٍّ من نصوصه الفريدة في العصر العبَّاسيِّ، وتنتهي مرحلة العدالة الانتقاليَّة لدى الفتاة الرِّيفيِّة بإتقانها مهارات الخبز والعجين والخياطة وغيرها عند الانتقال من بيت أبيها إلى حياتها الزَّوجيَّة في بيتها الجديد عند زوجها. وقد تحتجُّ بعض النِّساء على غشِّ بعض التُّجَّار وخلطهم دقيق القمح بدقيق الشَّعير؛ للاستفادة-وبالغشِّ-من غلاء دقيق القمح مقارنة بدقيق الشَّعير الرَّخيص، والَّذي يُستخدم للعلف الحيوانيِّ في غالب الأحيان، ولكنَّ التُّجَّار يردُّون بأنَّ المشكلة ليست في القمح أو جودته وإنَّما المشكلة في (قلَّة العدالة الانتقاليَّة) لدى المرأة.
وبعد المناوشات حول جودة الخبز والدَّقيق يأتي مختصُّو التَّغذية وخبراؤها على التِّيك توك ومواقع التَّواصل الاجتماعيِّ؛ لينصحوا النَّاس بالتَّقليل من خبز القمح ومعجَّناته والعودة إلى نمط الحياة القديم بالإضافة إلى الاستفادة من قشر القمح أو نخالته الممزوجة مع دقيق الشَّعير نظرًا لغنى هذه الخلطة بالألياف، ويعزو هؤلاء المختصُّون كثيرًا من أمراض العصر الحديث إلى المعجَّنات غير الصِّحِّيَّة وخلطها بالزٌّيوت والدُّهون غير الصِّحِّيَّة مع تغيُّرات كبيرة في أنماط الحياة ونشاطات الإنسان وعاداته الغذائيَّة بسبب النَّتائج المدمجة للثَّورات والحروب المتلاحقة أيضًا. وخلال الثَّورة السُّوريَّة وبعد تدمير المجرم المخلوع بشَّار الأسد وأعوانه كثيرًا من المدارس ظهرت قيمة الفتاة المعدَّلة والمرأة المعدَّلة بطريقة توازي قيمة التَّعليم أو قيمة المرأة المتعلِّمة، وقد جمع كثير من النِّساء والفتيات بين مهارات المرأة المعدَّلة وخبرات المرأة المتعلِّمة أيضًا، وكم خيمة جميلة في مخيَّمات النُّزوح شمال سوريا أعجبتنا برغم بساطتها، وكم أنقذت النِّساء المعدَّلات خلال الحرب (مثل مريم الصَّنَّاع) أزواجهنَّ من ذلِّ السُّؤال! وكم خبزن لأطفالهن على أثافي الصَّاج أو داخل تجويفات التَّنانير الملتهبة!
ويكشف اللَّاجئون السُّوريُّون في أوروبَّا كلِّها-وليس في هولندا وحدها-عن اهتمام أوروبَّا بالعدالة الانتقاليَّة بكلِّ معانيها، وأوَّلها العدالة الانتقاليَّة بمعنى الخبرات الحياتيَّة المهمَّة للزَّوج والزَّوجة وللإنسان عمومًا؛ فيسألون كلَّ لاجئ أو لاجئة بعد الوصول إلى أوروبَّا وبعد الحصول على الكشوفات الطِّبِّيَّة والأوراق اللَّازمة عن (عدالة كلِّ واحد منهم)؛ أي عن مهارات الحياة وخباراتها ومجال العمل لدى كلِّ لاجئ، ثمَّ يسألون كلِّ واحد عن وجود أيِّ رغبة للعمل في مجال آخر، وإن أبدى اللَّاجئ أو اللَّاجئة مثل هذه الرَّغبة يفرزونه أو يفرزونها إلى دورات عمليَّة مأجورة لتلقِّي الخبرات العمليَّة عند المختصِّين ضمن المجال الَّذي اختاره اللَّاجئ، وتدفع الدَّورة أجر الدَّورة للمعلِّم والمتعلِّم معًا، وبعد الحصول على الخبرات الكافية تصبح اللَّاجئة معدَّلة، ويصبح اللَّاجئ معدَّلًأ خبيرًا، وينخرط في سوق العمل على أساس العدالة والخبرة والكفاءة، وليس على أساس الولاء لهذا الشَّخص أو ذاك من الحزب الحاكم، ولا على أساس حصوله على جنسيَّة هذه الدَّولة الصَّديقة، وكذلك ليس على أساس من انتمائه لجماعة عزمي بشارة المتشابهة في عدائها للسُّلطة الحاكمة مع اختلاف درجة الوضوح من شخص إلى آخر، وليس على الانتماء لبعض الكيانات المحدَّدة، الَّتي تسعى اختراق الحكومة السُّوريَّة ببعض موظَّفيها وزجِّهم بأيِّ طريقة وزرات الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة، ولمن لم يقرأ التَّاريخ أقول: إنَّ التَّوظيف على أساس التَّنظيم في جماعات أو الولاء لبعض الدُّول أو الانتماء لبعض الكيانات أو الجماعات أو التَّيَّارات وليس على أساس الخبرة والكفاءة والولاء للجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة نهج خطير جدًّا، يقرِّب نهاية كلِّ حزب حاكم مهما كانت قوَّته؛ لأنَّ مثل هذا التَّوظيف يحمل في داخله جينات الخيانة والسُّقوط، وقد أسقط أمثال هؤلاء الموظَّفين الدَّولة العثمانيَّة أو الإمبراطوريَّة العثمانيَّة من قبل؛ لأنَّ كلَّ واحد من أولئك الموظَّفين كان يحمل في داخله ولاء مختلفًا عن ولاء المخلصين في الدَّولة؛ فهذا ولاؤه للصُّهيونيَّة العالميَّة، وذاك ولاؤه للرَّشاوى وكسب الأموال؛ لتكديسها في مرحلة ما بعد المنصب أو الوظيفة، وذيَّاك ولاؤه للوصول إلى القصر الجمهوريِّ بصفته مستشارًا؛ ليصبح جاسوسًا على القصر ومن داخله، والآخر ولاؤه للحصول على لقب قاضي القضاة أو مدير المديريَّات أو غير ذلك من الألقاب الطَّنَّانة والرَّنانة دون جدوى.
ألتقط ههنا موقفين شبه متناقضين من داخل وزارة الثَّقافة السُّوريَّة، ويعكسان إلى حدٍّ بعيد حدَّة النِّقاش السَّوريِّ أو الاختلاف في الرَّأي داخل المجتمع السُّوريِّ كلِّه، فقد توفِّي زياد عاصي الرَّحبانيِّ منذ أيَّام قليلة، وقد عزَّى وزير الثَّقافة السُّوريُّ أمَّه فيروز بصفتها الفنِّيَّة وبصفتها امرأة ثكلى، والعزاء واجب، وكلمات العزاء يجب ألَّا تشوبها شائبة أخرى، وهي خطوة شجاعة، وقد رأيت السِّيَّدة ماجدة الرُّوميَّ وغيرها من سيِّدات الفنِّ يعزِّين فيروز بطريقة في كثير من المهابة برغم اختلاف الانتماء السِّياسيِّ وبرغم ظلال الحرب الأهليَّة اللُّبنانيَّة على لبنان وسوريا معًا، وللتَّوضيح أكثر تعدُّ السِّيِّدة ماجدة الرُّوميُّ من تيَّار الجمهوريَّة القويَّة أو من حزب القوَّات اللُّبنانيَّة برئاسة الحكيم سمير جعجع، وقد قاوم هذا الحزب وجود جيش حافظ الأسد في لبنان بينما تنتمي السَّيِّدة فيروز إلى المدرسة الرَّحبانيَّة، الَّتي استوعبها نظام حافظ الأسد بمكر شديد بعدما أدرك أهمِّيَّتها ودور الفنِّ والفنَّان في تعرية الجلَّاد المجرم خلال هيمنته على لبنان والجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة. بينما يجسِّد الموقف الثَّاني تيَّار بيع الوطنيَّات والبحث عن الشَّعبويَّة الثَّوريَّة داخل الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة بعد انتصار الثَّورة، وإن كانت هذه الشَّعبويَّة على حساب أمٍّ ثكلى، فقدت ولدها، الَّذي ناصر حافظ وبشَّار الأسد أو حُسِب على تيَّار المجرم الجلَّاد. ومع أنَّ الاختلاف بالرَّأي حقٌّ مشروع للجميع يبقى الانتصار على الشَّخص الميِّت شيئًا قبيحًا إلَّا إذا كان مجرمًا جهارًأ نهارًا، وقد كان الفرسان العرب يرفضون مواجهة مَن لم يكن قِرنًا أو ندًّا لهم بالقوَّة والحسب والنَّسب؛ فما بالك بمن يواجه شخصًا ميتًا؟! وبرغم اختلافي الشَّخصيِّ مع موقف زياد الرَّحبانيِّ المناصر للمجرم المخلوع بشَّار الأسد فقد تمنَّيت أمنية مستحيلة عندما رأيت بعض المنشورات الاستعراضيَّة، الَّتي يتشدَّق أصحابها بكلماتهم الممجوجة؛ ليدينوا زياد الرَّحبانيَّ؛ فقد تمنَّيتُ عودته للحياة؛ ليردَّ عليهم بأجمل ما كان يمتكله زياد؛ وهو جرأته وعفويَّته وسخريته ونقده السَّاخر واللَّاذع دون أيِّ حساب لأيِّ شيء آخر؛ وذلك لأنَّ مثالب استعراض المستعرضين أكثر من منافعه؛ هذا إن كان له منافع أساسًا!
وبالنَّظر إلى الانقسام داخل المجتمع السُّوريِّ وداخل لبنان أيضًا يبدو عزاء السَّيِّدة ماجدة الرُّوميِّ للسَّيِّدة فيروز موقفًا كبيرًا، يُحسب للسَّيِّدة ماجدة الرُّومي، ويعكس مبادئها وأخلاقها النَّبيلة أيضًا؛ ففي العزاء نتعالى على الجراح، وأفضل طريقة في طقوس لمن لا يعرف الصَّمت ولو لبرهة أن تكون جمل العزاء للعزاء ذاته، وليس لأيِّ شيء آخر، ولا يجوز مزج بعض عبارات العزاء باللَّوم أو العتاب أو استعراض الخلاف في السِّياسة أو المواقف، العزاء للعزاء فقط، وبعد ذلك يمكن العتاب أو غسل القلوب في جلسات مغلقة بعيدًا عن مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ وبعيدًا عن العُذَّال والإعلام أيضًا. نعم العزاء والتَّعالي أفضل شيء، والعتاب مع العزاء غير محبَّب في البلاغة واللَّباقة والثَّقافة، لكنَّ الأسوأ من هذا أن يُحوَّل الموت إلى حدث شعبويٍّ يزاود فيه هذا على ذاك، ويستعرض هذا مجدًا شخصيًّأ زائفًا، يلبس فيه قناع قضيَّة شعبه، الَّتي يوظِّفها للقول إنَّ أهمَّ شيء بالنِّسبة له بوصفه شاعرًا عبقريًّا أو مديرًا للثَّقافة في الكرة الأرضيَّة وسائر مجرَّة درب التَّبَّانة أيضًا، وأقول ههنا: أنا بوصفي فردًا سوريًّا لا يملك مهارات فريدة أو ألقابًا أو صفات رسميَّة، ولا يُجيد المتاجرة الشَّعبويَّة أعزِّي السَّيِّدة فيروز والمدرسة الرَّحبانيَّة وآل الفقيد وأصدقائه ومحبِّيه، وأضع نقطة، ولا أنتقل إلى بداية سطر جديد وحسب، وإنَّما أطوي صفحة عائلة الأسد وكلَّ ما يتعلَّق بها، وأنتقل إلى صفحة جديدة.
المعنى الثَّاني للعدالة الانتقاليَّة
يختلف معنى العدالة عن معنى المساواة في الحقل الدَّلاليِّ لحقوق الإنسان؛ لأنَّ المساواة تعني تقسيم أيِّ شيء بالتَّساوي بين مستحقِّيه من الأفراد والأُسر والأحياء والقرى والمدن والمحافظات بغضِّ النَّظر عن طبيعة كلِّ شخص أو عدد سكَّان كلِّ قرية أو حاجات كلِّ شخص أو قرية أو مدينة، أمَّا العدالة فتعني دراسة الحاجات ثمَّ التَّوزيع على أساسها. وقد قرأت أخبارًا عن تعبيد الطُّرق في محافظة إدلب وريفها الشَّماليِّ، وسمعت شكاوى أهلنا في ريف إدلب الجنوبيِّ المدمَّر وريف معرَّة النُّعمان الشَّرقيِّ المستلب، وقد طالب الأهالي هناك بمطالب محقَّة، وكان الرَّدُّ على بعضها دون المأمول، فلا يُقال لأهل القرية المدمَّرة: لا تحسدوا القرية الأخرى إذا جاءها دعم! فهؤلاء الأهالي ما زالوا يحتاجون إلى من يواسيهم بشهدائهم، ويحتاجون إلى من يعيد لهم جدران بيوتهم وسقوفها وأبوابها، لقد فرحوا لأنَّهم نقلوا الخيمة من المخيَّم، وبنوها فوق حطام بيتهم، ومن العدالة أن يُنفق على مرافق هذه القرى والمدن أوَّلًا، ومعظمهم لا يطلب بأكثر من المرافق الأساسيَّة لسيرورة الحياة؛ كالماء والكهرباء والمدرسة والمركز الصِّحيِّ؛ لذلك احموهم من الموت بسلل الغذاء! واحموهم من البرد بالدِّفء والكهرباء! واحموهم من المرض بالمراكز الصِّحيَّة! واحموهم من الجهل بالمدارس! وادمجوهم مع المجتمع السُّوريِّ من جديد! ثمَّ انظروا إليهم كيف سينهضون مثل العننقاء من تحت الرَّماد!
ولأنَّهم كلَّهم أبناء حضارة الثَّورة الزِّراعيَّة، فهم لا ينتظرون الرَّغيف، ولا يستجدونه من أحد؛ أعيدوا لهم أرضهم وبيوتهم ومصادر الطَّاقة؛ وانظروا إليهم كيف يزرعون القمح، وكيف يحصدونه! انظروا إلى نسائهم المعدَّلات والماجدات الأصيلات كيف يخبزن على التَّنانير! وانتظروا رجالهم الَّذين سينتجون لكم الزَّيت والزَّيتون! والمطلوب منكم فقط تأمين هذه الحاجات الأساسيَّة لأبسط مقوِّمات الحياة؛ ولتكن هناك خطَّة موضوعيَّة عادلة لإعادة الإعمار، ولنبتعد عن الأجوبة غير المقنعة، ولا تغرَّنَّكم أشعار المستشارين وتشدُّقاتهم الخلَّبيَّة على القنوات الفضائيَّة؛ فمعظم الأهلين يشعرون بالغثيان عند سماعها والنَّظر إلى وجوه أصحابها، ويستعرضون سيرة هؤلاء ومراوغاتهم وتقلُّباتهم بين الولاء لهذا الدَّولة أو تلك، ومن الانتساب إلى هذا الفصيل أو ذاك! ومن المؤكَّد أنَّ غايات أولئك المتشدِّقين في إرضاء الغرور والخواء الدَّاخليِّ والوصول إلى لقب المستشار أو مدير مديريَّات المجرَّة تختلف عن غايات الشَّعب السُّوريِّ الأصيل في الوصول إلى دولة المواطنة والعدالة والمساواة، وحساباتنا في القرايا (جمع قرية) غير حساباتهم عن الارتقاء في القصور والسَّرايا (السَّراي: كلمة تركيَّة تعني القصر أو قصر الحاكم)!
فلا تنخدعوا بالهيلمات الاستعراضيَّة لبعض مستشاريكم أمامكم أو على القنوات الفضائيَّة؛ لأنَّنا ما زلنا نحتاج بعض الوقت حتَّى تمشي الظَّعينة بسلام من حلب حتَّى منبج بالقرب منها! وكذلك لا تصنع ثقافة الدَّولة هوبرات بعض مديري المديريَّات في المجرَّة؛ لأنَّ ثقافة الدَّولة شيء وثقافة الهوبرة والاستعراض الشَّخصيِّ شيء آخر؛ وقد وجد المتنبِّي نفسه أمام الموت، الَّذي استسلم له بعدما استخدم كلمة (أنا) ألف مرَّة في شعره! نعم! يمكنكم وضع الرَّجل المناسب في المكان المناسب! ضعوا من يجيد الهوبرة والبهورة في مكان يحتاج إلى ذلك! وضعوا من يجيد صناعة الثَّقافة مع الإعمار والبناء في الأماكن الَّتي تحتاج إلى صناعة الثَّقافة مع الإعمار والبناء! وتذكَّروا جيَّدًا أنَّ معظم رجال الهيلمة والهوبرة والبهورة لا قيمة لهم في الشَّارع الانتخابيِّ السُّوريِّ إلَّا بمقدار ما سرقوه من سلل الغذاء المخصَّصة لإطعام النَّازحين وتعليم المهجَّرين! وتذكَّروا أنَّ التَّنُّور-بوصفه منجزًأ حضاريًّأ مدمجًا-سيحاسب، وسيخبز، ويطبخ، ويطعم المحتاجين، ويكافئ الأخيار، وكذلك سيحرق المتجرين؛ لأنَّنا كنَّا في ثورة، وما زلنا في مرحلة النتقاليَّة؛ سيحاسب التَّنُّور مثلما حاسب مِن قبلكم وزير الثَّقافة ورجلها الأوَّل محمَّد بن عبد الملك الزَّيَّات، الَّذي كان وزيرًا للمعتصم والواثق في العصر العبَّاسيِّ؛ فظلم بغير وجه حقَّ، ودبَّج بقدرته الكلاميَّة هوبرات لم تُفده في آخر حياته، وأحرق عندما كان وزيرًا بعض النَّاس في التَّنُّور، ثمَّ قتل، وأُحرق في التَّنُّور ذاته! لتغدو تنانير الثَّورة الزَّراعية وأصوات أهلها على ضفاف العاصي والفرات أمقياسًا من مقاييس العدالة الانتقاليَّة. وما زال الأهلون يراقبون تهافت الألقاب والمستشارين، ويدركون أنَّ السِّياسيَّ الحكيم يضع الرَّجل المناسب في المكان المناسب بطريقة مغايرة لسياسة المجرم المخلوع بشَّار الأسد، ويدركون جيِّدًا أن لحظة المحاسبة بالتَّاريخ وانتخابات مجلس الشَّعب ورئاسة الجمهوريَّة ستأتي؛ لأنَّ الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة أمُّ العدالة الانتقاليَّة بكلِّ معانيها؛ من عدالة شريعة إيبلا على ألواح الطِّين منذ 3000 سنة قبل الميلاد حتَّى عدالة الثَّامن من كانون الأول/ديسمبر 2024 مرورًا بعدالة التَّنانير بين هذه وتلك!