أرشيف المجلة الشهرية

رسالة من أديب حموي إلى مؤتمر الصحفيين العرب بعد عام ونيف على المجرزة!

بقلم: شريف الراس

ربما يجهل الكثير من السوريين اليوم  اسم شريف الراس (1930- 2000) الأديب والناقد والفنان التشكيلي – الحموي الذي درس الفلسفة في جامعة دمشق، وتفتحت مواهبه الأدبية في خمسينيات القرن العشرين، فأخذ ينشر قصصه القصيرة في كبريات المجلات الأدبية العربية آنذاك، كما أقام معرضا للفن التشكيلي رعته وزارة الثقافة السورية زمن حكم الانفصال، واشتهر بكتاباته الساخرة التي نشر الكثير منها في مجلتي (الجديد) و(الأحد) اللبنانيتين في الستينات  و(العربي) الكويتية لاحقا، وأصدر بعضها في كتابيه (للضاحكين فقط) بيروت 1967، و(خواطر ضاحكة) بغداد 1985 غادر وطنه سورية أواخر عام 1965 بعد استيلاء البعث على السلطة، وأصدر روايتين في ثمانينات القرن العشرين هما (طاحون الشياطين)  و(ورطة). وعدداً عن الكتب السياسية التي تناولت أوضاع مدينته حماة، أبرزها (من الجرح السوري) القاهرة 1986، و(سورية تحت الحكم النصيري) فرانكفورت 1987. الرسالة التالية نشرها عام 1983 وكان حينها مقيما في بغداد، وقد وجهها إلى مؤتمر الصحفيين العرب الذي انعقد في بغداد في أيار/ مايو من ذلك العام، لتكون شهادة ألم وصرخة إدانة للتاريخ. ويسر (العربي القديم) أن تعيد نشرها ً في هذا العدد الخاص عن حماة. (العربي القديم)

***

في الثامن والعشرين من أيار المنصرم، انعقد مؤتمر الاتحاد العام للصحفيين العرب.. وقد وجه له الكاتب العربي السوري شريف الراس هذه الرسالة، التي وصلتنا بعد انعقاد المؤتمر، وننشرها نصاً.

إلى الأساتذة الأفاضل المشاركين في مؤتمر الاتحاد العام للصحفيين العرب:

أحييكم أطيب تحية، وأرجو أن تتقبلوا أسمى آيات الاحترام والتقدير،  من زميل لكم من خارج إطار تنظيماتكم النقابية، يتمنى لمؤتمركم الزاهر كل نجاح وتوفيق، ويأمل في أن ينقل إليكم تصورات قراء صحفكم عما يرغبون بأنه تكون عليه مواضيع مناقشاتكم في هذا المؤتمر الذي ينظر إليه هؤلاء القراء – بمنتهى حسن النية – نظرتهم إلى برلمان شعبي على مستوى قومي.

إن مؤتمركم – أيها السادة الأفاضل – ينعقد في يوم 28 أيار، وهو اليومالأول من شهر التعاطف الإنساني مع عائلات ضحايا مجزرة سجن تدمر الوحشية الرهيبة، التي مرت عليهخا ثلاث سنوات دون أن نقرأ أي خبر عنها في الحصف “الأمينة في نقل الأخبار، رغم أنه ذهب ضحيتها أكثر من ثمانمائة أخ لكم، كانوا نياما في زنزاناتهم وقتلوا غيلة وغدرا، ثم دفنوا في حفرة جماعية ضخمة، وأهالت الجرافات التراب فوقهم، بينما كان معظمهم ما يزال جريحا حياً يصرخ ويئن ويستغيث… ولا من منجد ولا من مغيث.

إن قراءكم الذين يرغبون بأن تكونوا أنتم  -لا الأجانب أو الأعداء – مصدر المعلومات الموثوق في تعريفهم بواقع أحوالنا، والذين يعرفون مبلغ سمو مهمتكم ونبل مهنة المتاعب التي تمارسونها، يناشدونكم أن تتخذوا قراراً بتشكيل لجنة، على مستوى الاتحاد، تقوم بالتحقيق في هذا الموضوع الخطير، وتبين للقراء ما إذا كان حقيقة أم إشاعة؟ فإذا كان إشاعة فلماذا لا تسمح السلطة بالتحقيق فيها لنفي التهمة عنها؟ وإذا كانت حقيقة فلماذا يحق لبعض الأجانب والأعداء فقط أن يعرفوها، ولا يحق لنا – نحن أمة هؤلاء الضحايا- أن نعرف من هو المجرم الهمجي الذي ارتكب هذه المجزرة الوحشية وما هي حجته؟ وما هي أسماء الشهداء؟ وهل صحيح أن من أهم أسباب التعتيم على أسماء هؤلاء الشهداء (ومعظمهم من الأطباء والمحامين والمعلمين والصحفيين والطلاب) أن عائلة الشهيد، تخاف إن ذكرت اسم شهيدها أو طالبت بمعرفة مصيره أن يلجأ الهمجيون أنفسهم إلى قتل الأسرة بكاملها؟!

إن اتحادكم الموقر ملزم بأداء هذه المهمة إلزاماً قطيعاً، تفرضه اعتبارات كثيرة، إن لم يكن أبرزها الانسجام مع النوعية الخاصة للمهنة، فأقلها تغطية التقصير في التأخر بأداء هذه الواجب ثلاث سنوات.

وأما إن كان البعض يأنف من الاشتراك في عضوية لجنة التحقيق هذه، بسبب ما في عناصر موضوعها من سجون وصحراء ودماء وضحايا وشناعة في تفاصيلها الإجرامية ونذالة في ممارسات تنفيذها؛ فإننا نطمئنكم أن في هذه المهمة وجها ترفيهياً أيضاً، ذلك أنه يقام في مدينة تدمر ذاتها، وعلى معبد جوبتير الأثري الجليل، وعلى مسمع من أفواج المعتقلين في السجن ذاته، مهرجان دولي للموسيقى العالمية، جلبت له السلطة عدداً من أشهر فرق السيمفونية العالمية لتعزف أجمل الألحان وأرق المقطوعات الموسيقية، لبيتهوفن وباخ وشوبان وشوبرت وغيرهم، بما يعبر عن مدى الرقي الحضاري ورهافة الذوق الفني العالمي لدى الطاغية الذي ارتكب المجزرة إياها. ولن تفوتكم فرصة الاستمتاع ببعض هذه الحفلات الموسيقية الراقية، لأن هذا المهرجان الفني الضخم، يستمر في قلب الصحراء شهرين: شهرا قبل مؤتمركم الزاهر، وشهراً بعد مؤتمركم السعيد.

كما لم تفوتكم متعة قضاء أجمل الشهرات الراقصة مع عروض فرقة أمية الشعبية التي تساهم في هذا المهرجان، بتقديم رقصات تعبر عن مدى فرح شعبنا وسعادته وابتهاجه أيضا، وأما إذا كنتم من المغرمين باصصطياد النشوة الشعرية، فسوف تستمعون إلى قصائد بالإنكليزية والفرنسية ترجمها ويلقيها عليكم موظفون في (اتحاد الكتاب العرب) بصفة شعراء معبرين عن أفراح الجماهير.

وأعتقد أيها السادة الأفاضل، أن نقابة الصحفيين السوريين، التي تسهم إسهاما كاملا في نشاطات اتحادكم وفي أعمال مؤتمركم الزاهر، سوف ترحب كثيرا بتشكيل لجنة التحقيق الصحفية المقترحة. ويدفعنا إلى هذا الاعتقاد ما جاء في البيان البديع الذي نشرته نقابة الصحفيين السوريين قبل حوالي عشرين يوماً من موعد مؤتمركم الجليل، تحدثت فيه عن: “مشاعل فجرنا القومي ودليل قوافل أجيالنا نحو الخلود”، كما تحدثت عن الاستعداد “لكتابة الصفحات الأنصع في تاريخ القضية القومية، ونوهت بالمسيرة الصاعدة إلى “حيث الموقف بطولة، والمسيرة تضحية ورجولة وفداء!” ثم وجهت إليكم تحية عطرة هذا نصها: ” فتحية للصحفيين المناضلين العرب في عيدهم الأغر – وهذه أول مرة نسمع فيها بأن للصحفيين العرب المناضلين عيداً أغر- معاهدين أن يظل اتحاد الصحفيين في القطر العربي السوري، حيث الحرية مسؤولية، ولا رقابة سوى رقابة الضمير، طليعة في النضال مع الجماهير لتحقيق أهدافها والدفاع عن مكتسباتها وتعزيز قدراتها على المواجهة والصمود”.

إنه لمن دواعي الغبطة والاعتزاز والتباهي بين أمم الأرض، أن يكون في أمتنا مثل هذه النقابة السورية الرائعة التي ماتزال تتحدث بمثل هذا الكلام الكبير الذي نسيناه لكثرة بكائنا على قتلانا؛ ففي مجزرة حمة وحدها -وهي مدينة سورية – قتل أكثر من ثلاثين ألف مواطن، كما نسنياه بسبب لوعة قلوبنا وانشغال أذهاننا بالتساؤل حول مصير المفقودين من أبنائنا. (بعد انتهاء تلك المجزرة، اختطفت قوات الطاغية أكثر من سبعة آلاف مواطن عربي، لا يعرف أحد شيئا عن مصيرهم حتى الآن رغم مرور أكثر من سنة وثلاثة شهور). نقول أن وجود مثل هذه النقابة المناضلة يسهل عليكم – أيها السادة المؤتمرون في اتحاد الكتاب العرب – أن تدرجوا بين اهتمامات مؤتمركم الموقر المواضيع التالية:

  1. هل صحيح ما ورد في كتاب (مجزرة حماة) وكتاب (حماة مأساة العصر) من معلومات لا يصدقها عقل بشر، عن مدى الوحشية التي مارستها سلطة أصحاب “رقابة الضمير” في قتل أولئك الآلاف من المواطنين المغدورين، وفي تهديم حوالي ثلثي مباني المدينة، وتحويلها إلى أرض خراب جرداء؟!
  2. وهل أن الصحافة السورية لم تذكر حرفاً واحدا عن هذه المأساة الإنسانية التي فاقت مأساة هيروشيما ببشاعتها، ونذالة مرتكبيها، لأن ذكر ذلك يتعارض مع اختصاص تلك الصحافة في كتابة “الصفحات الأنصع في تاريخ القضية القومية”؟!
  3. وإذا كان من أبسط بديهيات مهام الصحافة أن تنشر الأخبار والوقائع كي تصلح لأن تكون مرجعاً موثوقا للمؤرخين الذين سوف يعودون لكتابة تاريخ هذه الفترة بعد سنوات، فهل أن المؤرخين سيجدون في الصحف السورية خصوصا، والعربية عموما، أي مستند أو مرجع أو حتى إشارة أو غمزة، يمكن الاعتماد عليها، والاستفادة منها في رسم صورة هذه الأيام السوداء الحزينة الدامية؟
  4.  وإذا كانت نقابة “الكلمة الموقف والموقف البطولة والمسيرة التضحية” أعني النقابة السورية إياها، التي تؤكد أن الحرية مسؤولية، ولا رقابة سوى رقابة الضمير، لم تنشر حرفاً واحداً عن هذه المأساة القومية المذهلة، أو عن أي من ذيولها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية و…. إلخ، أفليس من واجب الاتحاد أن يتصدى لهذا التقصير الخطير في الواجب الصحفي، فيرسل ولو مصوراً صحفيا واحداً، يزود هذه الأمة الملهوفة ببعض الصور الفوتوغرافية، عما آلت إليه حماة اليوم من دمار وخراب و… أليس من العار أن لا يقوم بهذا الواجب الصحفي حتى الآن، إلا صحفي واحد اسمه شارل بوبيت؟ أليس من العار والفضيحة للصحافة العربية كلها، أن لا يجد المؤرخ العربي بين يديه، إلى يومنا هذا، أي مرجع صحفي يستند إليه في رسم تصور أولي عن هذه الفاجعة الرهيبة، غير ما نشرته بعض الصحف الفرنسية والإنكليزية والصهيونية؟

أليس من العار على صحافة الأنظمة المتاجِرة بالإسلام، التي تفرض تسطيح صفحتين بشكل دوري للحديث عن أركان الوضوء، وقواعد الاستنجاء، والتي تتباكى على قتيل مسلم في بلاد آسام، وجدا مسجد تهدم في أفغانستان أن تظل صامتة صمت القبور عن جريمة تركيع شعب بكامله لعبادة شخص بدلاً من الله، وحين رفض هذا الشعب الماجد عبادة ذلك الصنم التافه، تعرض لمذبحة لا أشنع منها ولا أشد هولاً وفتكاً وهتكاً لكل ما هو مقدس. أليس عاراً على هذه الصحافة المتاجِرة بالإسلام السكوت على جريمة ذلك الطاغية المتألّه بهدم أكثر من ثمانين مسجداً، وقصف مآذن هذه المدينة العربية جميعاً حتى أخرس صوت الأذان فيها نهائياً؟

أليس من الفضيحة أن لا نقرأ رثاء لتلك المآذن، واستغراباً لغياب أصوات المؤذنين إلا في شهادة ذلك الصحفي الفرنسي، شارل بوبيت حين قال: “إنني أغادر حماة بمزيج من الرعب والفزع. الفزع حين أتذكر أنه ولا مرة واحدة خلال هذه الأيام والليالي التي قضيتها هناك، سمعت صوت المؤذن يدعو المؤمنين إلى الصلاة، كما لو أن المآذن نفسها قد انكمشت على نفسها تلقائياً”. جريدة (ليبراسيون) الفرنسية 1 آذار/ مارس 1982

أيها السادة الصحفيون:

إن الطبيعة النوعية لنقابات الصحفيين تجعلها في موقع المسؤولية من حدوث الجرائم والانحرافات القومية واستفحالها… وإن سكوت نقابة الصحفيين عن الجرائم والخيانات وانعكاسات ذلك على المصير القومي، يختلف كلياً عن سكوت نقابة الحلاقين أو نقابة مستوردي قطع السيارات مثلاً. إن السكوت الصحفي على جرائم ذبح الشهيد صلاح الدين البيطار، والشهداء: رياض طه وموسى شعيب وكمال جنبلاط وعبد الوهاب كيالي وسليم اللوزي، وغيرهم من الصحفيين، كان – شئنا أم أبينا – مشاركة في إغراء الطاغية الهمجي ذاته للتمادي في الولوغ بالدم وذبح مدينة عربية بحالها.

وإن التاريخ لا يرحم…

وإن جماهير أمتنا المسحوقة والمنكوبة والمخنوقة والمأخوذة باللوعة والرعب والأسى والحزن لن تغفر أبدا للكذابين والدجالين والتركيبات الوهمية التي ما عادت تثير غير القرف والاشمئزاز، عندما تتحدث عن ” شرف الكلمة”، وما شابه ذلك من الكلام الكبير الأجوف، ثم لا تخجل من وصف نفسها بـ”الطليعة في النضال مع الجماهير” بينما هي تشارك المجرم المتوحش، في عملية حز رقاب الأطفال والنساء والجماهير!

إننا لن نحملكم ما لا طاقة لكم به، بأن نطلب منكم أن تتصدوا لهذا الطاغية الدموي، المعادي لكل القيم السماوية والإنسانية، فهذا عمل بطولي لا يأتي استجابة لطلب أصلاً… وإنما نطلب منكم أن تتقوا الله في هذا الشخير والنخير، استحسانا لجرائم الطاغية، ولعقاً لدماء الضحايا من على سكينه ويديه الآثمتين… فهذا العمل المخزي ليس من الصحافة وليس من الأخلاق، وليس من العقل أو الضمير… لأنه حتى إذا بلغ الفجور والطيش بالإنسان حد اللامبالاة بمحاسبة الناس له؛ فإنه لامهرب له من وقفة الحساب بين يدي الله سبحانه وتعالى.

أظن أنكم – بعد هذا كله – لن تؤاخذوني إذا أعفيت نفسي من أن أختتم رسالتي هذه بالعبارة المعروفة ” وتفضلوا بقبول… ” ولكنني أناشدكم الله، وأناشد عاطفة الأبوة في قلب كل منكم، وأناشد كل ما بين جوانحكم من حنان ورأفة وعطف وشفقة، إذا شاركتم في عضوية تلك اللجنة الصحفية، وسافرتم إلى مدينتي حماة، التي يتفطر قلبي شوقا لزيارتها منذ سنوات عديدة، أن تقرئوها  مني السلام، وقولوا لها: “السلام عليك أيتها المدينة العربية الشريفة”.

سلموا على ما تبقى من شوارعها، وأزقتها وبيوتها ونواعيرها، سلموا لي على كل ما تبقى من مساجدها ومدارسها، وإذا رأيتم طفلا صغيرا وسيما فهذا الطفل واحد من الأطفال الخمسة الذين اختطف الوحش النذل أباهم بعد المذبحة. كان اسمه قبل ذلك (رفعت بن الحاج خالد الراس)، – صيدلي – اختطفوه مع سبعة آلاف مفقود غاب كل أثر لهم عن الوجود.

ولا تظنوا أيها السادة الصحفيون أنني أحملكم عبئاً شخصياً  يخص فرداً من الناس، فالصحافة تهتم بالقضايا الجماعية الكبرى، ولكنني أؤكد لكم بأنكم لو أعلنتم عن عزمكم على نقل مثل هذه الرسالة الشخصية، لتلقيتم أكثر من أربعين  ألف مناشدة مماثلة من مواطنين هربوا بدينهم وأرواحهم وتشردوا أينما كان… فالمهم عندهم  أن يظلوا بعيدين عن سكين الطاغية الذي يذبح شعبه تنفيذا لمخطط رهيب بتفريغ سورية من أهلها، وذلك لتعزيز قدرات سورية على “المواجهة والصمود”، حسب تعبير نقابة الصحافة السورية في بيانها الصادر ابتهاجاً بعيد الحرية والمسؤولية… وكان الله في عونكم.

التوقيع شريف الراس

مجلة (الطليعة العربية) الأسبوعية – العدد الرابع 6/6/1983

زر الذهاب إلى الأعلى