دلالات وقضايا | عاد آذار وتكلَّم بشَّار
مهنا بلال الرشيد
عاد آذار، وعادت معه ذكريات ثلاثة عشر ربيعًا ثوريًّا، خَبِر فيها السُّوريُّون العالم، وفهموه كما لم يعرفوه ويفهموه من قبل خلال مئة عام من العزلة مرَّت عليهم بعد سقوط الدَّولة العثمانيَّة في نهاية الحرب العالميَّة الأولى سنة 1918. فقد تبدَّد كثير من أحلام الشَّريف حسين سنة 1918، ولم يحكم مع أبنائه تحت راية الثَّورة العربيَّة وطنًا عربيًّا كبيرًا تمتدُّ حدوده من المحيط غربًا إلى الخليج شرقًا، ومن دارفور جنوبًا حتَّى حلب شمالًا. وقبل أن يستتبَّ الأمن، ويطيب المُلْكُ لفيصل بن الحسين، ويستمتع مع أعضاء حكومته الفيصليَّة بهواء دمشق العليل، كشف له الفرنسيُّون عن بنود اتِّفاقيَّتهم السِّرِّيَّة (سايكس بيكو) مع الإنكليز، وَرَحَّلوه؛ ليصير ملكًا على العراق، الَّذي تحصَّل عليه الإنكليز. وقبل أن يتبيَّن للسُّوريِّين خيط حدودهم الأبيض من خيطها الأسود في خريطة دَوْلَتهم أو دُوَلِهم الجديدة، الَّتي رسمها لهم سايكس وبيكو انتهى الفرنسيُّون وخلال وقت قصير من ثورة الجبل في السَّاحل السُّوريِّ سنة 1922 بحسب علي سليمان الأحمد شقيق بدويِّ الجبل في كتابه عن والده سليمان الأحمد. وفي سنة 1922 ذاتها راح الفرنسيُّون يتفاوضون في السَّاحل السُّوريِّ مع سليمان الأحمد من أجل إلحاق العلويِّين بالطَّوائف المسيحيَّة. وإن لم يستطع سليمان الأحمد تلبية رغبة الفرنسِّين بإلحاق العلويِّين بالمسيحيِّين فقد زوَّد مركز حكومة الدَّولة العلويَّة في اللَّاذقيَّة وقضاتها بما يحتاجونه من مؤلَّفات حول القضاء الشِّيعيِّ على المذهب الجعفريِّ؛ لتستقلَّ حكومة اللَّاذقيَّة عن سوريا، وانتسب آلاف العلويِّين إلى جيش الشَّرق الفرنسيِّ بحسب باتريك سيل. وظهرت حكومة حلب المستقلَّة شمال سورية، وعزل الفرنسيُّون خريطة لبنان الحالي عن خريطة سورية المعروفة قبل انطلاق الثَّورة السُّوريَّة ضدَّ المجرم بشَّار الأسد في آذار 2011.
ماذا لو عاد معتذراً؟
وبعد ما يقرب من عشرة أعوام من التَّناحر على سُلطة الدَّولة السُّوريَّة الوليدة من رحم الحرب العالميَّة الأولى استفاق رجال الكتلة الوطنيَّة والأحزاب السِّياسيَّة المتصارعة على أكثر من حكومة ودُويلة تحيط بدمشق وحكومتها المركزيَّة؛ ففي دير الزُّور شرق الفرات حكومة بعيدة عن دمشق وشبه مستقلَّة عنها بحكم الجغرافيا، وفي حلب غرب الفرات حكومة، وإلى الغرب قليلًا هناك في اللَّاذقيَّة حكومة على السَّاحل، وفي دمشق جنوبًا حكومة مركزيَّة، وغربها حكومة في بيروت، وجنوبها حكومة في السُّويداء، وحصل هذا كلَّه في غضون سنوات قليلة بعد نهاية الحرب العالميَّة الأولى 1918.
واليوم بعد ثلاثة عشر عامًا من انطلاق الثَّورة ضدَّ حكم المجرم بشَّار الأسد في آذار 2011 يعود التَّاريخ أو يُعيد ذاته، لا ليعتذر من السُّوريِّين عن دروسه القاسية جدًّا في حقِّهم، بل لينظر في عيونهم (موالين ومعارضين) إن كانوا قد استفادوا من دروسه وعِبَره، ولولا معرفتنا ببعض المتنوِّرين السُّوريِّين من رجالات الثَّورة لأكَّدنا للقارئ الكريم أنَّ دروس التَّاريخ ذهبت سُدًى دون أيِّ فائدة منها؛ فما أشبه اليومَ بالأمس! وما أشبه واقع سوريا الرَّاهنة بسوريا الوليدة من رحم الحرب العالميَّة الأولى! فشرق الفرات في الحسكة ودير الزُّور حكومة، وغربه شمال حلب حكومة، ولدى المجرم بشَّار الأسد في دمشق حكومة، يُساعدها جيش روسيا ومرتزقة من أصقاع الأرض كلِّها، وصار لدى أحرار السُّويداء في ساحة الكرامة حكومة، لم تعد تعترف بحكومة دمشق بعد أن مزَّق الأحرار صور بشَّار الأسد وأبيه حافظ، وأفرغوا شُعَب حزب البعث وفِرقه من تقارير المخبرين.
دلالات استعادة التَّاريخ في حديث بشَّار الأسد مع فلاديمير سولفيوف؟
استبق المجرم بشَّار الأسد في الثَّالث من آذار الجاري 2024 الذِّكرى السَّنويَّة الثَّالثة عشرة لاندلاع الثَّورة السُّوريَّة ضدَّ حكمه، الَّذي ورثه عن أبيه المجرم الآخر حافظ الأسد دون وجه حقٍّ، وظهر في مقابلة مصوَّرة مع الإعلاميِّ الرُّوسيِّ فلاديمير سولولفيوف، وإجراء هذه المقابلة في مطلع آذار شهر الثَّورة واحد من أهمِّ الأسباب، الَّتي أعطت هذه المقابلة أهمِّيَّتها بالنَّسبة للسُّوريِّين والعرب وسائر المهتمِّين بالشَّأن السُّوريِّ. ومن سمع تنظيرات المجرم بشَّار الأسد في خطابات المملَّة ليس كَمن رأى لُغة جسده فيها، وفي الحالات كلِّها يعرف المشاهد والسَّامع والقارئ والمحلِّل أنَّ المجرم بشَّار الأسد لن يخرج عن عادته في الاستطراد بالكلام الفارغ والأحاديث الخُلَّبيَّة والتَّنظيرات الممجوجة البعيدة عن الواقع، وهذا ما حدث في المقابلة فعلًا، وبدلًا من أن يتحدَّث المجرم بشَّار الأسد عن هموم المواطن السُّوريِّ وضيق المعيشة أو جيوش الاحتلال المتعدِّدة، الَّتي انتهكت سيادة الدَّولة، أو حقِّ الرَّدِّ الَّذي لم يعد عنده ذاكرة للاحتفاظ بالمزيد منه، بعدما حشا ذاكرته الصَّغيرة باحتفاظات وهميَّة كثيرة بحقوق ردٍّ مزعومة.
بعدما تحدَّث المجرم بشَّار الأسد عن إطار اللَّوحة خلف الإعلاميِّ الرُّوسيِّ وأجزائها العلويَّة والسُّفليَّة والجانبيَّة، وربطها بالمشهد العامِّ، وفسَّر أسباب جمالها، انتقل للحديث عن مأساة أهلنا في غزَّة بعد أكثر من خمسة أشهر على انطلاق (طوفان الأقصى) في السَّابع من تشرين الأوَّل 2023، وأعاد هذه المأساة إلى جذرها التَّاريخيِّ القريب المتمثِّل باحتلال الكيان الصُّهيونيِّ لأرض فلسطين في الضِّفَّة والقطاع؛ وذلك لأنَّ التَّاريخ-بالنِّسبة لهيرودوت الأسد-حلقة متَّصلة من الأحداث، لا ينفصل جديدها عن سابقه أو لاحقه، وهذه الفقرة تحديدًا تُعطي المسكوت عنه بخُبث في مقابلته أهمِّيَّة كبيرة؛ لأنَّ والده حافظ الأسد قاد انقلابًا عسكريًّا على نور الدِّين الأتاسيِّ في 16 تشرين الثَّاني 1970، ثمَّ ورَّثه حكم سوريا من خلال حزب البعث المهيمن على سوريا؛ ولأنَّ الشِّيء بالشَّيء يُذكر تأتي أهمِّيَّة قياس الغائب أو المغيَّب من كلام بشَّار الأسد وكلام أبيه وأفعالهما على الشَّاهد من كلامهما وأفعالهما؛ ليدين نفسه ومن فمه؛ ولأنَّ التَّاريخ سلسلة مترابطة من الأحداث فكلَّ ما بُني على باطل فهو باطل.
لماذا قَهقَه الأسد؟
استدرج الإعلاميُّ الرُّوسيُّ المجرم بشَّار الأسد؛ ليفصح بلغة جسده عن مكنونات نفسه، وتماهى معه في حديثه عن اللَّوحة، وصار يحرِّك يديه أمامه كما لو كان شاعرًا من شعراء العربيَّة، الَّذين يفهومنها جيِّدًا، ويعرفون ظواهر الكلم وبواطنه فيها؛ لذلك هجعت نَفسُ بشَّار الأسد الخبيثة، وراحت تتحدَّث للإعلاميِّ الرُّوسيِّ ببلاهة غريبة عن غباء الغرب، ثمَّ وجد أنَّ هذا الغرب الغبيَّ نفعيٌّ إلى أبعد حدود البراغماتيَّة؛ لأنَّه لا يبحث عن شركاء يتبادل معهم المصالح، بل يبحث عن أتباع له؛ ولهذا يكشف المسكوت عنه في هذه الفقرة عن غباء بشَّار الأسد لا عن غباء الغرب ذاته؛ لأنَّ هذه البراغماتيَّة الغربيَّة تحتاج إلى ساسة يصوغونها، لا إلى أغبياء يتحدَّثون عن انهيار الدَّولار الأمريكيِّ أمام اللَّيرة السُّوريَّة، فقد تحدَّث المجرم بشَّار الأسد عن انهيار الدُّولار الأمريكيِّ، وهو الَّذي ورث حُكم سوريا عن أبيه سنة 2000، عندما كان الدُّولار الأمريكيُّ الواحد يعادل 50 ليرة سوريَّة تقريبًا، واليوم لأنَّ الدُّولار الأمريكيَّ الواحد صار يُعادل ما يقرب من 15000 ليرة سورية استنتج (الذَّكيُّ) بشَّار الأسد أنَّ الدُّولار الأمريكيَّ منهار.
لغة الجسد لدى الإعلاميِّ الرُّوسيِّ وحركات يديه ونظراته أمام المجرم بشَّار الأسد دفعت الرَّئيس الوريث إلى التَّعالي على توتُّره الكبير، الَّذي أظهرته حركات يديه، فانتقل من الحديث عن جمال اللَّوحة الفنِّيَّة خلف الإعلاميِّ الرُّوسيِّ ليتخيَّل نفسه مع بوتين بطلين داخلها؛ ولأنَّه راح يقرن اسمه باسم بوتين ظنَّ نفسه رئيسًا لدولة من الدُّول دائمة العضويَّة في مجلس الأمن؛ لذلك راح يسخر من عقوبات العالم الاقتصاديَّة ضدَّه وضدَّ بوتين، وركَّز على عقوبة زيلنيسكي رئيس أوكرانيا بوصفه عدوًّا شخصيًّا لبوتين. كما سخر من عمل رئيس أوكرانيا في مجال التَّمثيل قبل انتخابه رئيسًا لأوكرانيا، وتناسى أنَّه قد التقى قبل أيَّام قليلة مع الممثِّل النِّمس مصطفى الخاني، وفي نزعة كوميديَّة خالصة لبس أحدُهما مثل لباس الآخر، وتناقشا معًا حول دور النِّمس والفنِّ والكوميديا في إنقاذ سوريا المستقبل. ثمَّ تحدَّث المجرم بشَّار الأسد-بسخرية-عن توتُّره وقلقه المشترك مع فلاديمير بوتين بسبب عقوبات الغرب ضدَّهما، وقال: إنَّه لن ينام اللَّيل بسبب قلقه على أرصدته الماليَّة في البنوك الأوروبِّيَّة، وقهقه في بلاهة نادرة، وتناسى أرصدة أخيه باسل الأسد، الَّتي تركها في بنوك أوروبَّا حين عاجله الأجل، وأجبرت الصُّدفة التَّاريخيَّة المحضة دكتاتورًا مجرمًا مثل حافظ الأسد على تهيئة ابنه الأبله بشَّار؛ صفوة ما تبقَّى من أولاده المعتوهين والأشرار؛ ليتحكَّم مع أخوته بمصير البشر، الَّذين اختارهم القدر؛ ليعيشوا في خريطة تعيسة، وُلدت من رحم الحرب العالميَّة الأولى، ورسم حدودها ساسة الدُّول العظمى، وتركوا الأخوة الأعداء داخل هذه (الخريطة-القفص)، ينظِّرون، ويتصارعون، ويرسمون حدود دويلاتهم المستقبليَّة المتناحرة على أُسس مذهبيَّة أو طائفيَّة أو عرقيَّة بعيدًا عن منطق التَّاريخ وعِبَرِهِ ومواعظه الكثيرة.