الرأي العام

دلالات وقضايا | الوجود التَّاريخي للأنبياء في مواجهة خزعل الماجديّ وفراس السوَّاح

مهنَّا بلال الرَّشيد

نشر الدُّكتور سامي العامريُّ كتابًا مهمًّا سنة 2021 بعنوان (الوجود التَّاريخيِّ للأنبياء وجدل البحث الأركيولوجيِّ شُبُهاتٌ وردود)، وصدرت الطَّبعة الأولى من هذا الكتاب في الكويت عن مركز رواسخ لنشر الخطاب العلميِّ المؤصَّل ومعالجة القضايا الفكريَّة المعاصرة بعيدًا عن الرِّبح وفقًا لتعريف مركز النَّشر في غلاف الكتاب الدَّاخليِّ، وينشر هذا المركز كتبه بموجب (وصيَّة السَّيِّد علي الرِّفاعيِّ غفر الله له ولوالديه ولذرِّيَّته). بلغ عدد صفحات هذا الكتاب (555) صفحة، قسَّمه مؤلِّفه إلى خمسة أبواب، يسبقها إهداء وتمهيد يتحدَّث فيه عن أهمِّيَّة البحث في الوجود التَّاريخيِّ للأنبياء وسبب اختياره وإشكاليَّته وخطَّة دراسته وحدودها ومنهجها. ويُهدي المؤلِّف كتابه (إلى الأنقياء الأخفياء من شباب الدَّعوة، الَّذين لا تعرفهم الشَّاشات، ولا يُصدَّرون على المنابر..أخيار يعملون في صمت، ويجتهدون بصدق، ينحتون على الصَّخر طريقَ الظَّفر.. عسى أن يرزقهم الله -بفضله- أضعاف ما في صدورهم من خير.

أهمِّيَّة الموضوع ومجال اختصاصه

يتصدَّى الدُّكتور العامريُّ لموضوع الوجود التَّاريخيِّ للأنبياء، وهذا موضوع حسَّاس ذو أهمِّيَّة عالية جدًّا لمساسه بحياة البشر (مؤمنيهم وكفَّارهم، ملحديهم ومتديِّينيهم من اليهود والمسيحيِّين والمسلمين) وغيرهم من الملل والنِّحل كلِّها، ناهيك عن اتِّصاله بجملة من القضايا الجدليَّة الكبرى؛ كخلق الكون ونشأته ووجود الخالق وصفاته وخلق الإنسان الأوَّل ونشأة الأخلاق وظهور الأديان وتعدُّدها ونزول الوحي والرِّسالات السَّماويَّة على الأنبياء وطرائق تدوينها ووصولها إلينا وانقسام البشر إلى طوائف ومذاهب وملل ونِحل متعدِّدة؛ ومن هنا تبرز إشكاليَّة أخرى ترتبط بمجال البحث في هذا الموضوع وأهل الاختصاص المتميِّزين فيه؛ فهل هذا الموضوع موضوع فلسفيٌّ منطقيٌّ أو موضوع تطوُّرات اجتماعيَّة؟ أَهُوَ موضوع لاهوتيٌّ أو موضوع أركيولوجيٌّ (أثريٌّ)؟ هل هو موضوع (فيلولوجيا) أو موضوع مقارنة فقه لغويَّة (عبريَّة وسريانيَّة وعربيَّة) في كتب الرِّسالات السَّماويَّة القديمة؟

يبدو هذا الموضوع موضوعًا بَيْنيًّا؛ أي أنَّ نقاشاته تمتدُّ بين العلوم المتعدِّدة؛ فللفيزياء رأيها في خلق الكون ونشأته، وللكيمياء العضويَّة والعلوم الحيويَّة أقوالهما في أعمار المخلوقات وتطوُّراتها، وللأديان والفلسفات والعلوم الاجتماعيَّة أقوال  في الدِّين بوصفه فكرة فلسفيَّة أو رسالة سماويَّة أو ظاهرة اجتماعيَّة أيضًا، وكذلك للبشر الباحثين في هذا الموضوع آراؤهم؛ لأنَّ البحث يمسُّ كلَّ واحد منهم؛ فإمَّا أن يكون مؤمنًا أو ملحدًا أو كافرًا أو لادينيًّا أو أُلوهيًّا يؤمن بوجود إله يُدبِّر أَمْرَ هذا الكون، ويرسل الرُّسل لهداية البشر، أو رُبوبيًّا يؤمن بوجود خالق خلق هذا الكون؛ لكنَّه يشكُّ في وجود الرُّسل ومعجزاتهم وأحاديثهم عن التَّواصل مع الذَّات الإلهيَّة عن طريق الوحي، وإمَّا أن يكون من أتباع هذا الدِّين أو معتنقي ذاك المذهب، أو يكون على ضفَّة دينيَّة أو مذهبيَّة أخرى؛ لذلك نخلص إلى حساسيَّة هذا الموضوع وبينيَّته وتداخله بين العلوم كلِّها، وأحقِّيَّة البشر جميعهم أن يبحثوا، ويفكِّروا، ويتأمَّلوا فيه طالما أنَّهم هم المعنيُّون به من ناحية إيمانهم أو كُفرهم بالعدميَّة بعد الموت أو بوجود الثَّواب والعقاب في الحياة الآخرة بعد الموت.

نَقْضُ دعوى الاختصاص

نعتقد كما أسلفنا أنَّ هذا الموضوع موضوعًا بينيًّا مشتركًا لدى الباحثين في العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة كلِّها من ناحية أولى، ولأنَّ فكرة الاختصاص الدَّقيق في علم من العلوم الإنسانيَّة أو فنٍّ من فنونها لا تُعفي الباحث من الإلمام بقضايا هذه العلوم مع السَّيطرة والاطِّلاع التَّامَّين على أحدث ما يُكتب في اختصاصه الدَّقيق، ومنذ شاعت فكرة الاختصاص الدَّقيق بين باحثي العلوم الاجتماعيَّة لم نعد نجد العلماء الموسوعيِّين، وإن كنَّا لا نطلب من الباحث المعاصر أن يُلمَّ بتفاصيل العلوم النَّظريَّة والتَّطبيقيَّة كلِّها، كما ألمَّ البيرونيُّ-على سبيل المثال-بالرِّياضيَّات والفلك والكيمياء وعلم الأديان المقارن وكثير من العلوم الأخرى أيضًا؛ فإنَّنا لا نعفيه إن جهل بقضايا تتعلَّق بنشأة الكون وخلق الإنسان وظهور الأديان من ناحية أخرى؛ ولهذا كلِّه لا يحقُّ-من وجهة نظرنا-لشخص أن يدَّعي أنَّه صاحب الاختصاص في هذه القضايا دون غيره، وهذا لا يعني أنَّنا ننكر في الوقت نفسه اختلاف طرائق المعالجة والنِّقاش والاحتجاج وتمايز الباحثين وتفاوت درجاتهم في التَّنظير لقضايا هذا الموضوع الكثيرة؛ ويبقى حقُّ الجميع محفوظًا للنِّقاش في هذه القضايا أو تحليلها والكتابة فيها ومواجهة الرَّأي بالرَّأي بعيدًا عن شخصنة القضايا أو الطَّعن بالآخر المختلف بعيدًا عن الإنسانيَّة والعقل والمنطق.

يغلب على اللَّاهوتيِّ حين يبحث في هذه القضايا أن يحتجَّ بمدوَّنات الكتب المقدَّسة، ويفضِّل الباحث الأركيولوجيُّ أن يقارن مدوَّنات الكتب المقدَّسة بمدوَّنات الأمم وآثارها القديمة، في حين يميل الفيلسوف إلى ضربِ بعض الحجج العقليَّة والمنطقيَّة ببعضها الآخر، وينظُر عالم الاجتماع إلى فكرة الدِّين ونشأة التَّديُّن وأفكاره ومدوَّناته الأولى وتطوُّرات الأديان المتلاحقة. والباحث الصِّنديد في هذا المجال هو مَن يستوعب الجميع، ويُحاجِجهم بالعلم والعقل والمنطق بعيدًا عن الاعتزاز بتديُّنه أو إلحاده ودون أيِّ تجريح وشخصنة الحوار وتحويله من ميدان النِّقاش العلميِّ إلى الطَّعن في أديان المحاورين ومعتقداتهم ومذاهبهم؛ لأنَّ الشِّدَّة في هذا المجال هي الرَّويَّة الكاملة والهدوء ذاته؛ وليس الشَّديد بالصُّرعة، وإنَّما الشَّديد الَّذي يملك نفسه ساعة الغضب خلال النِّقاش إن كان غضبه لدينه أو إن كان غضبه لموضوعيَّة البحث العلميِّ في هذه القضايا؛ والعالم المحاور الهادئ-ولا أحد سواه-هو الَّذي يضمن وصول فكرته إلى الآخر المتحاوِر معه بكلِّ هدوء ورويَّة، ولا شكَّ أنَّ عددًا كبيرًا من القرَّاء والمتابعين، يراقبون المتحاورين، ويميل عقلاؤهم-دون شكٍّ أيضًا-إلى صاحب التَّسلسل المنطقيِّ والحجَّة الدَّامغة.

لمحة موجزة عن جهود سامي العامريِّ

  يُهدي سامي العامريُّ جزءًا مهمًّا من مؤلَّفاته لشباب الدَّعوة المجهولين، ويكتب نصرة للأُلوهيِّين المؤمنين بالآباء والأنبياء من (اليهود والمسلمين)، ويردُّ على الرُّبوبيِّين والملحدين، ويحدِّد منهم: خزعل الماجدي وفراس السَّوَّاح، ويردُّ على كثير من طروحاتهم؛ لذلك ارتأينا أن نعرض هذه القضايا؛ لنقرأ في آراء الماجدي والسَّوَّاح وردود العامريِّ عليهما، ونتمعَّن في حُجَجِ المتحاورين في مؤلَّفاتهم أو مقابلاتهم أو محاضراتهم انتصارًا للبحث العلميِّ، وبعيدًا عن أيِّ تعصُّب لأيِّ شخص منهم؛ لذلك تبرز لدينا ثلاثة من مؤلَّفات الدُّكتور سامي العامريِّ؛ هي: كتاب: (الوجود التَّاريخيُّ للأنبياء وجدل البحث الأركيولوجيُّ شبهات وردود)، وكتاب: (سرقات وأباطيل قراءة نقديَّة لكتاب خزعل الماجديّ: أنبياء سومريُّون المشكَّكك في الأنبياء والآباء)، وكتاب: (لراهين النُّبوَّة والرَّدّ على اعتراضات المستشرقين والمنصِّرين).

  بعد إهداء كتابه لشباب الدَّعوة مهَّد العامريُّ لكتابه: (الوجود التَّاريخيِّ للأنبياء)، ثمَّ تحدَّث في الباب الأوَّل في هذا الكتاب عن جملة من الإشكالات المنهجيَّة؛ مثل: حُجِّيَّة الدَّليل الأثريِّ (الأركيولوجيِّ)، وردَّ على أشهر مَن يدَّعي-بحسب كتابه ومقابلاته- أنَّ (الأركيولوجيا) أو (علم الآثار) من جنس العلوم القطعيَّة، كما اعتنى بالرَّدِّ على آراء خزعل الماجديِّ المشهورة في كتابه: (أنبياء سومريُّون)، والمبثوثة في مقابلاته ومحاضراته، وردَّ أيضًا على المشهور من آراء فراس السَّوَّاح؛ وذلك لأنَّ الماجديِّ والسَّوَّاح رأسين من رؤوس اللَّادينيِّين أو الملاحدة العرب بحسب أقوال سامي العامريِّ في كتبه ومقابلاته المخصَّصة لهذه الرُّدود. ثمَّ يردُّ المؤلِّف في الباب الأوَّل من كتابه على دعوى نشأة علم التَّاريخ مع ثورة (الأركيولوجيا-علم الآثار)، ويفنِّد أوهام المساحات المظلمة -بحسب رأيه أيضًا- في البحث الأركيولوجيِّ ومسلَّماته المطويَّة، ونحن ههنا لا نتبنَّى لغة الباحث في عناوينه ومقابلاته، ولا نرفضها أيضًا، وإنَّما نعرضها بحرفيَّتها في المرحلة الأولى؛ ليكون لنا وقفة معها ومع آراء خزعل الماجديِّ وفراس السَّوَّاح، الَّتي دفعت العامريِّ للرَّدِّ عليهما، ولنضع مادَّة مثيرة للنِّقاش أمام القارئ الكريم.

ثمَّ تحدَّث الدُّكتور العامريِّ في الباب الأوَّل من كتابه عن تعارض مناهج البحث الأركيولوجيِّ وظاهرة التَّحيُّز عند باحثيها، وتناول أثر ثقافة ما بعد الحداثة فيها، وسلطان اللَّادينيَّة عليها بالإضافة إلى التَّعسُّف التَّأويليِّ للكشوف الأركيولوجيَّة. وفنِّد بعد ذلك-من وجهة نظره-مغالطة الاحتجاج بصمت الأركيولوجيا عن ذكر بعض الآباء والأنبياء لإنكار وجودهم في التَّاريخ، كما تحدَّث عن نماذج من الاحتجاج بالجهل نصرةً للمذهب، والاحتجاج بالمعلوم لإنكار المجهول والإيهام بالفراغ وأوجه القصور الكشفيِّ في كلٍّ من الشَّاهد والبحث الأركيولوجيِّ، ويدافع عن التَّوراة، وينتقد العجلة في إدانتها، ويتحدَّث عن صمت الآثار وطبيعة خبر الأنبياء.

وتابع في فصول الباب الأوَّل حديثه عن شبهات حول تاريخ النُّبوَّة والمعجزات، ووقف عند دور الأركيولوجيا في نفي تاريخ النُّبوَّة القديم، ودافع عن التَّوراة واليهود واليهوديَّة، وتحدَّث عن أصالة التَّوحيد في التَّاريخ عند بني إسرائيل اليهود، وفنَّد دعوى اختلاقهم هذه الفكرة في العصور المتأخِّرة، ونقض دلالة الآثار على حداثة التَّوحيد عندهم، وردَّ على اتِّهام التَّوراة بإخفاء ما تصرِّح به، وأفرد أكثر من فقرة للحديث عن تناقض فراس السَّوَّاح-من وجهة نظر العامريِّ-في الاستدلال بالآثار لإثبات أصالة الوثنيَّة في بني إسرائيل، وشرح كيف سقطت أدلَّة السَّوَّاح أو تهافتت عند استدلاله بالتَّوراة لنفي التَّوحيد عند اليهود، وردَّ على كلٍّ من منكري النُّبوَّة والمعجزات في الرُّؤية الطَّبيعيَّة، والقائلين باقتصار النُّبوَّة على منطقة الشَّرق الأدنى القديم. ومع أنَّ العامريَّ وضع التَّوراة في ميزان البحث الأركيولوجيِّ، إلَّا أنَّه راح ينتصر للخبر التَّوراتيِّ من خلال (نقد النَّقد) الموجَّه حول الخبر التَّوراتيِّ؛ لأنَّ هذا النَّقد قراءة عدميَّة من وجهة نظر العامريِّ، ولأنَّ دعوى زيف الخبر التَّوراتيِّ ادِّعاء متطرِّف، ثمَّ راح يُعرِّج على ظاهرة حفظ الأمم تراثها القديم وتاريخيَّة الخبر السِّياسيِّ في التَّوراة، وبدأ يتحدَّث عن الشَّخصيَّات غير المَلَكيَّة والملوك الأجانب بعد الحديث عن حكَّام المملكتين الشِّماليَّة والجنوبيَّة عند بني إسرائيل في الشَّواهد الأركيولوجيَّة، وانتقل بعد هذا كلِّه للتَّدليل على حُجِّيَّة التَّوراة من خلال دلالات الكشف الأركيولوجيِّ، واستغرق قضايا هذا الباب ثُلث كتابه تقريبًا، وأخذت أوَّل (165) صفحة من صفحاته.

لماذا انتصر سامي العامريُّ في كُتبه للتَّوراة والخبر التَّوراتيِّ مع اعترافه بأخطاء التَّوراة؟ كيف برهن على وجود النُّبوَّة ومعجزات الأنبياء؟ هل تصلح أدلَّته على وجود الخالق -سبحانه وتعالى- لتكون أدلَّة على وجود الأنبياء؟ هل كان خزعل الماجديُّ وفراس السَّوَّاح محقَّين في طرح آرائهما؟ وهل كان العامريُّ مقنعًا في الرَّدِّ عليهما؟ وكيف برهن على وجود الآباء ومعجزات الأنبياء؟ وما الغرض الأساسيُّ من تأليف كتابه: الوجود التَّاريخيُّ للأنبياء؟ سنقف عند هذه الأسئلة بدءًا من مقال الأسبوع القادم.

زر الذهاب إلى الأعلى