مقامات أمريكية | الكسوف... هل يبدل طبائع البشر؟
د. حسام عتال
في عام ١٩٤١ كتب إسحق اسيموڤ قصة عن شعب يعيش في كوكب بعيد تدور حوله ستة شموس، فهو في نور دائم لاينقطع عنه سوى في يوم واحد كل يمر كل ٢٠٤٩ سنة. في ذلك اليوم تُكسَفُ الشموس الستة بوقت واحد، ويحل ليل داج. سكان ذلك الكوكب دانوا بعقيدة تؤمن بالشؤم والخرافات، ليس فيها من عظة زاجرة أو عبرة رادعة. بسبب تلك العقيدة، والظلام البهيم الذي حل بهم وقت كسوف شموسهم، تحزبوا وتحيزوا وتشعبوا؛ فانقطع نظامهم، واضطرمت فيما بينهم نار الحرب، وأبيحت دمائهم، ولم ينتهوا حتى مزقوا كوكبهم وأبادوا حضارتهم، وعادوا للعصر الحجري. بعد ذلك يعود بقية من السكان الناجين لردع الصدع، وتأليف المتباين، وإعادة البنيان. ومع الوقت تنشأ حضارة جديدة، حتى يأتي موعد الكسوف التالي بعد ٢٠٤٩ سنة، ثم تعاد الكرة.
مرَّ كسوف الشمس الكلي يوم الإثنين الماضي على شمال أمريكا جاذبا اهتمام الملايين في الولايات المتحدة. سافر سكان الولايات الشمالية جنوباً لمشاهدته (بسبب مساره في وسط القارة). وهناك التقوا بسكان الولايات الجنوبية الذين كانوا قد توجهوا في رحلتهم بالاتجاه المعاكس، فالتقت الجماعتان في المنتصف ليرتدوا نظارات غريبة الشكل لمدة أربعة دقائق وثمانية وعشرون ثانية، وراقبوا الشمس وهي تختفي رويداً رويدا، حتى ابتلع الظلام النور عدا هالة طفيفة مشوشة حول القمر تشبه ما يرسمه الأطفال بالطباشير على الرصيف. بعدها، ومع ارتفاع تأوهات الكبار وضجة تصفيق الصغار، انفرجت الشمس رويداً رويداً لتغمر الأرض بضوئها من جديد.
هذا الحشد المقدر بأربعة ملايين سبب حالة من الطوارئ في عدد من المدن التي تضاعف عدد سكانها مرات. فالمدينة التي تقطنها ابنتي في إنديانا استقبلت ثلاثة مائة ألفاً من الناس وهي مدينة تعداد سكانها ثمانين ألفاً. ألغيت المدارس وأرسلت الطلاب لبيوتهم مع تعليمات صارمة بشأن الطريقة السليمة في مراقبة الكسوف تجنباً لأذية شبكية العين. الفنادق قد حجزت منذ شهور بأسعار تضاعفت ثلاثة مرات عن سعرها الأصلي. عدد من الحدائق العامة أغلقت أبوابها وقامت بحفلات خاصة جلبت لها فرقاً موسيقية، الدخول إليها أصبح بالضريبة. البلديات طلبت من المحال التجارية إغلاق أبوابها كي تبقى الشوارع مفتوحة للمارة، ونصبت مراحيض متنقلة؛ واستعدت المطاعم والمقاهي لتوفير الطعام والشراب للزائرين. الناس الذين اختاروا عدم دخول المدن اصطفوا على جوانب الطرق السريعة التي غصّت بسياراتهم وشاحناتهم، وخيامهم الصغيرة الفاقعة اللون، الأولاد يلعبون حول السيارات (وفوقها)، الأمهات توزع السندويشات وعلب العصير، بينما الآباء يلعبون بكاميراتهم التي نصبوها على قواعد ثلاثية الأرجل، يحاولون إيجاد أفضل إعدادات لتصوير الكسوف.
كسوف الشمس أمر شائع يحصل تقريباً كل سنة لكن في غالب الأحيان لايمكن رؤيته إلا من المحيطات أو من القطبين. من أي مكان محدد في الأرض يحصل الكسوف مرة كل أربعمائة سنة تقريباً. الشعوب القديمة التي راقبت الكسوف بخشوع فسرته بأشكال عديدة. البابليون والإغريقيون اعتبروه إشارة نحس وشؤم، قبائل الباتامليبا في بلاد التوغو ظنوا أن الشمس تصارع القمر على صدارة السماء، في الصين قالوا إن تنيناً قد التهم الشمس، فيما الإنكا في جنوب أمريكا رأوا فيه غضب الآلهة، فقدموا لها القرابين البشرية من البنات العذارى.
يمكننا أن نتخيل أن أعناق الناس، وقت كسوف الشمس في قديم الأزمان، كانت قد اشرأبت نحو السماء في حركة جماعية موحدة، تماماً كما فعل الشماليون والجنوبيون، ومضيفيهم في الوسط، يوم الإثنين الماضي في الساعة الثانية عشرة وستة دقائق ظهراً. حينها نسوا خلافاتهم على مرشح الرئاسة، والضرائب، والهجرة، والإجهاض، وغاب عن بالهم حرب أوكرانيا، ومذابح غزة الجماعية، ومجاعات السودان، والهجمات الإرهابية على المدنيين، والإنقلابات العسكرية في دول القارة الأفريقية، ناهيك عن معاناة الشعب السوري (التي توقف إعلامهم عن تغطيتها منذ مدة طويلة). فلا تسمع منهم سوى عبارات مثل:
“يا إلهي، لا أستطيع تصديق ذلك، عجيب، جميل، ورائع”.
فجأة أصبحوا مجدداً مواطني بلد واحد، لقد وجدوا بينهم قضية مشتركة توحد مشاربهم، ولو لدقائق.
منظرهم أعادني للوراء ثلاثة عشرين سنة حين كنت أقف على جبل عرفة يوم العيد، أسترق النظر حولي، أرى الحجيج ينظرون إلى السماء، أذرعهم ممتدة، كفوفهم منبسطة، شفاههم تتمتم بالدعاء. أولئك رفعوا رؤوسهم للسماء يجمعهم إيمان بغيب لم يشهدوه بأعينهم، وأمل بحياة بعد الموت لم يعد منها أحد ليخبرهم عنها. لكن ما الذي يدفع بأربعة ملايين أتوا من الشمال والجنوب أن يتركوا خصوماتهم ليقوموا بتأدية طقوس وشعائر لا تقل دراماتيكية؟ كيف علّقوا ماضيهم، وتغاضوا عن حاضرهم، وسَلَوْ عن مستقبلهم، واستطاعوا العيش في لحظة وفاق ووئام وودية في نفس المكان. أليس الكسوف ظاهرة طبيعية متكررة كلنا نعرف أسبابه العلمية ونحدد أوقاته القادمة بدقة نانولحظية من الآن حتى ألف سنة قادمة. أليس الكسوف ظاهرة طبيعية أنتجتها مواد صماء تنتج عدداً لاحصر له من الظواهر كل لحظة؟ ما هي تلك السمة القابعة في كيان الإنسان التي تجعل من الكسوف شيئاً جميلاً، رائعاً، أو عجيباً – شيء لا يُصدق؟ ولم تأثير الكسوف على نفوسنا أعمق مفعولاً من أثر تعاقب النهار والليل الذي نشهده كل يوم (أولئك الذين يستيقظون باكراً منّا)، أو أكثر نفاذاً من المعجزات الصغيرة التي تتطلب منّا تركيزاً صوفياً، كمشهد قطة ترضع صغارها، أو طيراً يبني عشه ليضع فيه بيوضه، أو ساق نبتة ورد سقيناها تهتز متطاولة قبل أن تتفتح أزهارها بأريج عطر؟
وماذا عن مشاعر تلك اللحظات السحرية التي عشناها أيام طفولتنا عندما كنا نركض في الحقول بين أعواد القمح المتموجة مع الريح، أو نقفز في بركة ماء باردة في يوم صيفي حار؟ كل تلك المشاعر وغيرها كالحب، والكره، والشوق، والغيرة، والأمل، والحسد، من أين أتت؟ إذا كانت نتاج الطبيعة المادية المجردة فكيف لنا إذاً، أن نقنع هذا الحشد الأمريكي أن كل ما في هذا الكسوف لا يزيد عن كونه ظاهرة طبيعية عادية واضحة الأسس، ظاهرة تتكرر برتابة وتسكع (خاصة إذا أخذنا بالاعتبار عمر الأرض الذي قارب خمسة بلايين سنة)، وأن عليهم أن يحزموا أغراضهم، ويمحوا صور الكسوف (بما يتضمن التي سجّلت انفجار الهالة لحيظات ما قبل تمام الكسوف) من ذاكرة كاميراتهم، ويعودوا لبيوتهم ومدارسهم ومشاغلهم وأعمالهم؟
لكننا لا نستطيع، ولن نستطيع إقناعهم بذلك، لأننا نعرف بنفس الحتمية العلمية التي استقامت بها الأرض والقمر والشمس، وأنتجت هذا الكسوف، أن ما سيعودون إليه لن يعكس جمال وروعة هذا المشهد العظيم، بل أنهم سيعودون لمزيد من الاقتتال، وتدمير القرى والمدن والحقول وتشريد للناس، وتخريب لكوكب الأرض -كما فعل سكان ذلك الكوكب البعيد في قصة اسحق أسيموڤ عندما مزّقوا بلادهم شر ممزق- لأن هناك شيء آخر يقود تجاربهم وأحاسيسهم ووجدانهم، شيء غامض مبهم غريزي فج وعميق… شئ إنساني بحت.
مرحباً، أنا سعيد للغاية الآن لأنني حصلت على قرضي من هذه الشركة الجيدة بعد أن جربت عدة شركات أخرى ولكن دون جدوى هنا رأيت إعلانات هذه الشركة الجيدة Faiza Afzal Finance وقررت تجربتها واتبعت جميع التعليمات. وأنا هنا سعيد، سعيد بأن قرضي قد تم إضافته إلى حسابي المصرفي، وأنا أقوم بهذه الشهادة بسبب مدى سعادتي بالحصول على قرضي أخيرًا، يمكنك أيضًا الاتصال بهم إذا كنت بحاجة إلى قرض سريع، اتصل بهم الآن عبر هذا بريد إلكتروني:
(contact@faizaafzalfinance.com) أو WhatsApp: +91 (923) 356-1861. للمزيد من المعلومات.
شكرًا.