أرشيف المجلة الشهرية

أديب الشيشكلي يكتب مقدمة مذكرات فتح الصقال واللاذقاني يعقب: الشيشكلي إن حكى!

في عام 1951 أرسل المحامي الشهير فتح الله ميخائيل الصقال الذي كان وزير الأشغال العامة بعد انقلاب حسني الزعيم، مذكراته إلى العقيد أديب الشيشكلي ليكتب مقدمة لها… فماذا كتب الشيشكلي في تقديمه للمذكرات؟ وكيف قرأ د. محيي الدين اللاذقاني نص أديب الشيشكلي بعد ثلاثة أرباع القرن من ذلك الزمان؟!

***

مقدمة مذكرات فتح الله الصقال

بقلم: أديب الشيشكلي

بعث إلي معالي الأستاذ فتح الله صقال بذكرياته عن الأعمال التي اضطلع بها ناهضاً ماضياً نشيطاً في عهد حكومة المرحوم حسني الزعيم وقد اختير فيها وزيراً للأشغال. وأشفعها بكتاب من عنده يقول فيه إنه حريص على أن أقدم هذه الذكريات بكلمة مني.

ولعل الأستاذ يعلم أني لا أستطيع القيام بهذا العبء الثقيل لأني لم أمارس صناعة الأدب، وإعداد المقدمات لتُفتتح بها الكتب والذكريات.

وقد أكون راضياً عن ذلك العهد معجباً به، أو متنكراً له ساخطاً عليه، ويسؤوني أن يتأذّى صاحب الذكريات إذا لم يجد لخواطره الصدى الذي يرجوه فيما أتحدث به، خاصة والخُلق العسكري لا يّحسن التلطف والترضي… وناهيكم بما يتبع مقدمتي من جدل طويل وتفسير متضارب.

على أن الصلة المتينة التي كانت بيني وبين المرحوم الزعيم حسني الزعيم، وإعدادي معه الانقلاب الذي قام به، حببّا إليّ هذا التكليف الذي أثار في نفسي خواطر كثيرة دفعتني للكتابة. وأخرى لا بد لي منها، هو أني لا أطمع في مقدمتي هذه أن أصور للقارئ الذي كانت تعانيه البلاد في محاسنه ومساوئه قبل وقوع الانقلاب، لأن ذلك يستدعي البحث المفصّل والدرس العميق، وأنا لست هنا المؤرخ المجرّب ليظفر الناس مني بما يحبون من التمحيص والاستقصاء.

إلا أن الحق الذي لا شك فيه، والذي أستطيع أن أصدر حكمي عليه عن شعور صادق، هو أن شعبنا على اختلاف نزعاته وتباين أحزابه وهيئاته، كان بعد الجلاء حريصاً كل الحرص على إنهاض وطنه وإعزازه ودفعه مراحل ومراحل في طريق المجد السريع… ولكن الواقع كان يخيّب في كل يوم أمله… ويكّذب رجاءه؛ فلم يجد في استقلاله الغالي مضطربا للعزائم ولا متنفساً للآمال.

ثم كانت محنة فلسطين، أندلس القرن العشرين، فزاد القلق واشتد اليأس وعم الحزن، واعتقد الشعب أن الذين يسوسونه غير قادرين على تعجّل الإصلاح، والاستعداد للخطر الداهم، وتحقيق ما تصبو إليه أمة ناهضة. فأخذ يتلمس الطريق الذي يستعين به على تبديل خوفه أمناً، وضيقه سعة، وعنائه راحة، ويأسه أملاً وبلسماً.

وقد لمسنا ذلك نحن طائفة من العسكريين ففكرنا طويلا، ووجدنا بعد الدراسة العميقة أنه بغير انقلاب لا يصلح الأمر، وكم كنا نود أن نحاذر هذا المركب الشائك، ولكن المريض كانت قد أنهكته العلة، وليس في مقدور أحد غير الجيش إيجاد المخرج والتماس الشفاء للنهوض المنشود بالبلاد.

وكان ما كان، وولينا علينا المرحوم الزعيم حسني رئيس الأركان العامة آنذاك، وأوليناه ثقتنا والناس جميعاً يذكرون أنه سلك في حكمه طريق الرشاد، واختط سياسة حازمة عادلة نشرت الأمن والاستقرار. وأعطى البلاد بعد قليل وجهاً خارجياً ثابتاً انتظم معه للأداة الحكومية جانباها الإداري والسياسي. فتقاصرت شفاعة الشفعاء وتقلصت حظوة المختارين وزعماء الأحياء، ووقعت في النفس مهابة الحكم، وجاد أثرياء الحرب بأموالهم وأخرج من أخرج من الموظفين وكانوا أكثرهم لا يتناهون عن منكر، ولم تعد الوظيفة مأوى للعجزة الذين لا يحسنون إنتاجاً ولا يقدرون على الاضطلاع بعمل من أعمال الدولة. فاستقامت الأمور وشهد بذلك خصوم المرحوم من السياسيين.

ولكن المنصب الجديد، ما لبث أن بدّل أخلاقه وأفسد برنامجه، فطمع أن يسخّر قوى الدولة لطماح نفسه ونفاذ حكمه، فأبعد عنه المخلصين للوطن من أعوانه… وعندما عاجله القدر المحتوم، تغمدّه الله برحمته وتجاوز عن خطيئاته.

وأبعد ما يكون عني، أن أكون فيما كتبت قصدت مشايعة لون من ألوان الحكم، أو مهاجمة شخص، أو نقد عهد. وإنه ليسوؤني أن تُفهم آرائي على هذا النحو. وكل ما قتله لا يعدو المشاعر الشخصية والانطباعات الخاصة، ولست أدري أحق هذا أم باطل، وإنما الذي لا يقبل الشك أني في تصوري قد استمسكتُ جهدي بالنزاهة، وسموت قدرتي على التحيز. وأغتنمها فرصة لأشكر لمعالي الأستاذ الصقال جهده المبارك ووفاءه الكبير، والسلام.

العقيد أديب الشيشكليدمشق في 31/7/1951

تعقيب: الشيشكلي إن حكى

بقلم: د . محيي الدين اللاذقاني- العربي القديم

إذا كان هناك أستاذ حقيقي للمقبور بالقرداحة في طريقة إدارة دفة الحكم الانقلابي في بلد متعدد الطوائف، والأعراق والشخصيات النرجسية، فهو العقيد أديب الشيشكلي، فالمقبور حين عيّن أحمد الخطيب رئيساً للدولة، ريثما ينظم الاستيلاء عليها بالكامل، كان يقلد حرفياً سلفه الشيشكلي، حين أمسك بمقاليد الأمور كلها، وعيّن فوزي السلو رئيساً للدولة، لكن لعبته -آنذاك- لم تستمر طويلاً، كما استمرت مع المقبور؛ لأن رجالات السياسة في عهده، لم يكونوا يبيعون وطنيتهم ومسؤوليتهم بمنصب، أو رشوة فلوس، كما صار عليه الحال في زمن الزعبي، وطلاس، وخدام، وغيرهم من خدم العصابة الأسدية الذين ساعدوا سفاحها، ونغله في العمالة والفساد حتى دمروها.

وقد يكون الشيشكلي معلّماً في السياسة كمواطنه، وابن مدينته أكرم الحوراني، لكنه لم يكن على حد علمي كاتباً حاذقاً، يتجرأ أن يكتب مقدمة لكتاب عن حكومة رجل كان صديقه، ثم انقلب عليه وشارك في إعدامه، لكنه والحق يُقال فعل ذلك بإتقان، ولغة سليمة وحرفية – بل وحُسن تهرب – وهو يقدم لكتاب فتح الله الصقّال عن ذكريات حكومة حسني الزعيم، وكان من الذكاء، بحيث اختصر، ولم يتكلم عن المثالب المعروفة، واكتفى بالقول إن الزعيم كان وطنياً مخلصاً لبلده، لكن غيّره المنصب، وأفسدته السلطة “ولكن المنصب الجديد ما لبث أن بدّل أخلاقه، وأفسد برنامجه، فطمع أن يُسخّر قوى الدولة لطماح نفسه، ونفاذ حكمه..”. 

وقبل هذه المقدمة القصيرة، لم نكن نعرف عن بلاغته غير خطاب استقالته من رئاسة الجمهورية، الذي يجب أن يحفظه كل سوري عن ظهر قلب؛ لأن موقفه في وجه الأزمات الداخلية كان على النقيض من موقف السفاح ونغله: “ﺭﻏﺒﺔ ﻣﻨﻲ ﻓﻲ ﺗﺠﻨّﺐ ﺳﻔﻚ ﺩﻣﺎﺀ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﺣﺐ، ﻭﺍﻟﺠﻴﺶ ﺍﻟﺬﻱ ﺿﺤﻴﺖ ﺑﻜﻞ ﻏﺎﻝٍ ﻣﻦ ﺃﺟﻠﻪ، ﻭﺍﻷﻣﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺣﺎﻭﻟﺖ ﺧﺪﻣﺘﻬﺎ ﺑﺈﺧﻼﺹ ﻭﺻﺪﻕ، ﺃﺗﻘﺪّﻡ ﺑاﺳﺘﻘﺎﻟﺘﻲ ﻣﻦ ﺭﺋﺎﺳﺔ ﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ ﺍﻟﻤﺤﺒﻮﺏ…”.

ولم يكن كاتب ذكريات حكومة حسني الزعيم أقل وطنية من الرئيس، الذي رفض سفك دماء شعبه، وجنّبه حرباً أهلية، فالكاتب فتح الله الصقّال، هو ذاته المحامي الذي أنقذ إبراهيم هنانو من حبل المشنقة، حين حاكمه الفرنسيون بسبع تهم، بينها القتل العمد لمختار بلدة “إسقاط” الإدلبية، التي سمّت نفسها مشكورة بعد الثورة “إسقاط النظام”.

ولمن لم يسمع بتلك القصة من الجيل الجديد، فمختار تلك القرية الصغيرة، هو الذي وشى بإبراهيم هنانو ورفاقه الثوّار للحامية الفرنسية في حارم، فلما داهمتهم وقاوموها، وقتلوا رئيس الحامية وبعض جنوده، وجدوا رسالة المختار الواشي في جيب رئيس الحامية الفرنسية، فاقتصّوا منه فوراً بمحكمة ميدانية وأعدموه، وهذا ما قصّر به أحفادهم ثوار الثورة السورية، الذين تكاثر الوشاة والضفادع بينهم، وكان يجب حسم أمرهم مع المتسلقين والانتهازيين من البدايات، قبل أن تستفحل الظاهرة.

وقد قال يومها الصقال الحلبي، الذي ما يزال بيته قائماً في حلب، عند مدخل حي السبيل، بجانب الفرنسيسكان لقضاة هنانو الفرنسيين، وكلهم من العسكريين: إن الوطنية لا تقتصرعليكم، فما قام به هنانو ورفاقه هو الدفاع عن بلدهم في وجه المحتلين الأجانب، وهو عين ما قام به قومكم من الفلاحين الفرنسيين، حين احتل الألمان جزءاً من فرنسا، أثناء الحرب العالمية الأولى.

وعودة إلى المذكرات التي قدّم لها الشيشكلي، وهي بيت القصيد، يمكن القول إن حسني الزعيم حرامي غسيل، عبر بالسلطة لشهور قليلة، فمواقفه السياسية لم تكن فوق الشبهات، وعمالته توضّحت من أول اتفاقيتين، وقعهما بعد انقلابه، وهي اتفاقية الهدنة مع إسرائيل التي رفضت توقيعها الحكومات السابقة، واتفاقية خطوط التابلاين مع شركة أرامكو النفطية، وكان معروفاً أن السعودية هي التي تدعمه، وأما خلفه سامي الحناوي، فقد كان “مستجد سياسة”، تلاعبت به زوجته، وشقيقتها زوجة عديله، وساعده الأيمن أسعد طلس.

أمّا الشيشكلي، فكان كفتح الله الصقال من طينة أكثر وطنية، لكنها تحمل داخلها قناعة بأن ما تفعله هو لخدمة الوطن، فالشيشكلي لم يقم في الواقع بانقلاب واحد، بل بثلاثة انقلابات متتالية؛ لأنه كان شريكاً لحسني الزعيم بانقلابه، وكان مساعداً للحناوي في انقلابه على الزعيم، قبل أن يقوم بالانقلاب الثالث لحسابه الخاص، بمساعدة أكرم الحوراني المهندس السياسي للانقلابات العسكرية، وفي كل هذه الانقلابات، كان هو ومن حوله يحرصون على القول بأن ما يقومون به هو خدمة للوطن، لكن معظمهم كان يُصاب بمرض حسني الزعيم الذي شرحه، وبيّن أسبابه الشيشكلي في مقدمته لكتاب الصقال.

لقد كان للشيشكلي شقيق في الحزب القومي السوري الاجتماعي؛ لذا ينسبون له بعض أخطاء ذلك الحزب، لكنه كان أقرب للعروبيين ومحسوباً على التيار القومي، الذي كان يقاوم بشراسة مؤامرات حلف بغداد، وما أزمة السويداء التي أفسدت فترة حكمه، وقادت للانقلاب عليه إلا من صنع ذلك الحلف، فقد أدخل الهاشميون من الأردن، بمساعدة نوري السعيد في العراق أسلحة إلى محافظة السويداء للانقلاب عليه، وتوقيع معاهدة اتفاق اتحاد فيدرالي بين العراق وسوريا، فلما انكشفت الخطة، وصودرت بعض مخازن الأسلحة بالمحافظة القريبة من دمشق، قام الشيشكلي بقصف السويداء بالطيران، فانقلب عليه الجميع، واضطر للاستقالة، وخرج من البلد تحت جنح الليل، مع أن القوة العسكرية كانت بيده، وكان قادراً على إفشال انقلاب مصطفى حمدون، كما يقول الضباط من أنصاره.

ومع أن انقلاب حمدون حدث في حلب، فإن أزمة السويداء هي التي أخرجت أديب الشيشكلي من الحكم مستقيلاً، تحت ضغط الشارع السياسي، ليموت بعد عشر سنوات في البرازيل برصاصة من نايف غزالة أحد أبنائها، ولعل التاريخ يعيد نفسه، ويكون حراك السويداء الحالي هو الذي سيخرج بشار الكيماوي من المعادلة السياسية السورية، بعد أن أدى واجبه كاملاً ليرضي مشغليه، ويدمّر على طريقة إجرام أبيه مستقبل ثلاثة أجيال من السوريين الذين لن تقوم لهم قائمة، ما لم يتخلصوا من وريث آخر الانقلابيين في التاريخ السوري الحديث. 

___________________________________

من مقالات العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024

زر الذهاب إلى الأعلى