بصمات | كيف وصل آلاف المتطوعين الأجانب للقتال إلى جانب داعش وتنظيم القاعدة؟
د. علي حافظ
دعونا نرجع قليلاً إلى الوراء…
لا أحدَ يشكُّ بأنَّ تنظيمَ “داعش” قد شكّل خطراً داهماً على العالم والإنسانية جَمعاء؛ لكن ألم يشكّل الأسد وشبيحتُه ومرتزقته الشيعة خطراً على أحد؟! ما الذي جعل الضميرَ العالميَّ يصحو حينذاك، بعدَ فترةٍ طويلةٍ من السُّبات المقصود واللامبالي تجاهَ ما حدثَ في سورية والعراق من مجازرَ وكوارثَ لا مثيلَ لها؟
أهيَ الصَّدمةُ الناتجة حينها عن قَتلِ الصحفيّ جيمس فولي؛ التي صدمتْنَا أكثرَ ممَّا صدمتهم؟ أم عن قَتلِ اليابانيَّين الشجاعَين كينجي وصديقي النبيل هارونا؟ أم عن حرق الطيار الأردنيّ معاذ الكساسبة؛ وما خَفِيَ بينهم وبعدهم أعظم؟
أين كانوا عندما حذَّرت قياداتٌ عسكريةٌ من الجيش الحرّ، وأخرى سياسيّة معارضة، من خطر “داعش” على سورية والمنطقة، حينما كان تنظيماً صغيراً لا يتجاوز عديدُه عديدَ أيِّ فصيلٍ سوريٍّ مسلحٍ آخر؛ مثلما حذّرت قبل ذلك من خطر بقاء الأسد في سُدَّة الحكم؟
لقد دخل الجيشُ الحرُّ معركةً حاسمةً ضدَّه في محافظتَي حلبَ وإدلبَ بداية عام 2014، واستطاع طردَه بإمكاناتٍ محدودةٍ من مساحاتٍ واسعةٍ وحَصرَه في الرَّقة؛ ولو توافر السلاحُ والذخيرة والدعم اللوجستيّ ـ وقبلها الإرادة الدولية ـ لاستطاع دحرَهُ وإخراجَه من سورية كلها. لكن بعد فترةٍ وجيزةٍ استقدم تعزيزاتٍ جديدةٍ وأرتالاً كبيرةً من ريف دير الزور بقيادة أبو عمر الشيشاني (طرخان تيمورازوفيتش باتيرشفيلي)، استعاد من خلالها المناطق التي خسرها في شرقيّ مدينة حلب وشمالها، على مرأىً من قوَّات الأسد المشغولة ـ حينذاك ـ بتدمير حلب وقتل أحرارها وتهجير سكانها؛ وصَمتِ العالم أجمع!
لقد ترك هذا العالمُ المُنافقُ تنظيمَ “داعش” يكبُرُ ويتضخَّم ويتمدّدُ أمامَ أعيُنه، ولم يحرِّك ساكناً؛ مثلما ترك الأسدَ يرتكب المجازرَ ملقياً براميلَ الموت المتفجّرة والصواريخ والقذائف والسلاح الكيماوي والغازات السامة على المدنيّين في طول البلاد وعرضها؛ وكأنَّ الأمرَ لا يعنيه، ويجري في كونٍ ناءٍ بعيدٍ عنه!
كان بإمكانهم تسليمُ الأسلحة والذخائر الضرورية، وليس النوعيَّة، من أجل الوقوف في وجه التنظيم الباغي الذي نما بشكلٍ سرطانيٍّ سريعٍ؛ لكن ـ آنذاك ـ لم يكن لدى الغرب والشرق، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكيّة وروسيا، رغبةٌ بالتفكير بهذا الأمر، لأنَّ “داعش” قامت بما كانوا يخطّطون له ـ بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشر ـ محاولةً إيقاف موجات الربيع العربيّ الثورية، وَوَأدِها في سورية؛ بعد وقوف الأسد ومليشياته الطائفية عاجزين عن فعل ذلك، رغم كل المُهَل التي أعطِيَتْ لهم، وكلّ الأسلحة والذخائر الفتاكة التي زُوِّدوا بها!
آلةُ الأسدِ العسكريةُ المجرمةُ التي قتلت آلافَ السوريّين الأبرياء وأجبرت الملايين على النزوح واللجوء، لم تحرّك ضمائرَهم وتجبرهم على التفكير بمعاناتنا وآلامنا ومآسينا… تهجيرُ المسيحيّين في الرّقّة، ومن ثمّ في الموصل، لم يصِل إلى أخلاقهم وشعاراتهم البرَّاقة المدافِعة عن حقوق الإنسان والمواطنة.. محاصرةُ الأكراد في عين العرب وهجوم داعش عليها؛ ومن ثمَّ تهجيرُ وملاحقة اليزيديّن في العراق؛ لم تجِدْ لها مكاناً في قلوبهم وأفكارهم عن حريَّة المُعتقَد.. المجازرُ التي ارتُكِبَت بحقّ أهالي الميادين والشحيل وعشيرة الشعيطات والبونمر، ومن ثمَّ في أخترين وتركمان بارح ودابق ومارع بريف حلب الشمالي، لم تكن دليلاً بالنسبة لهم على بربريَّةِ ودَمَويّة شذاذ الآفاق الداعشيين!…
فقط عندما وصلت عصاباتُ البغدادي إلى حدود المناطق النفطية في شمال العراق، والتي تتركّز فيها جُلُّ مصالحهم في بلاد الرافدَين، وأصبحت على بُعد 30 كيلو متراً من أربيل، التي توجَد فيها واحدةٌ من أكبر الملحقيات الأمنية الأمريكية (عفواً الدبلوماسية) في المنطقة، استيقَظوا من غَفوَتِهم ونهضوا من كراسيّهم المخمليّة، ليرفعوا أصواتهم الخَجولة مناديةً بوضع حدٍّ لتقدم تلك العصابات؛ وكأنهم تلقّوا سطلَ ماءٍ باردٍ على عقولهم المصنوعة من الخُردَة المنصهرة!
بدأت ضرباتُهم الجويّة المركّزة لتجمُّعات “داعش”، وراحت أسلحتُهم وذخائرُهم تتدفّق باتجاه البيشمركة وحزب البي. كي. كي.، دون الرجوع إلى مجلس الأمن لاستصدار القرارات اللازمة بهذا الشأن، كما كان الأمرُ يحدث عندما يتعلق بمعاقبة الأسد ونظامه.. ارتفعت حرارة التصريحات حتّى حِدَّة الانفجار، وعُقدت الاجتماعات، وأخذت رولتيكا المشاورات السريعة تدور، وجُلبت الخططُ من مَخادع غرف النوم الاجتماعية إلى طاولات المطابخ السياسية؛ وفجأةً أصبح الكلُّ جاهزاً للمشاركة في وقف زحف المغوليّين الجُدُد باتجاه المصالح الأمريكية والإيرانية في العراق؛ وبنفس الوقت غير معنيٍّ تماماً بزحفه تجاه المدن والقرى السورية المحرّرة من الاحتلال الأسديّ!
حتى إنَّ قرارَ مجلس الأمن الدوليّ الذي اتَّخذَ بالإجماع (15 آب 2014) تحتَ الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وأدرجَ فيه ستَّة أفرادٍ تابعين للدولة الإسلامية في العراق والشام ولجبهة النصرة على قائمة الجزاءات المفروضة على التنظيمَين في محاولةٍ لقطع التمويل عنهم، اتَّضح أنَّ خمسةً منهم هم أعضاءُ في “جبهة النصرة” وواحدٌ فقط من “داعش”: عبد الرحمن الظافر الدبيدي الجهاني )نصرة(، وحجّاج بن فهد العجمي (نصرة)، وسعيد عريف (نصرة)، وعبد المحسن عبد الله إبراهيم الشارخ (نصرة)، وحامد حمد حامد العلي (نصرة)، وأبو محمد العدنانيّ (داعش).
تصوَّروا أنه لم يُدرَج فيه حتى اسمُ قائد التنظيم إبراهيم عواد المعروف بأبي بكر البغدادي، الذي روَّع سكَّان سورية والعراق بنشره الإرهابَ بالذبح، ولا قادةُ التنظيم الميدانيّين والأمنيّين والأمراء المنفِّذين؛ ولا التنظيماتُ الإرهابية الأخرى ـ حزب الله اللبناني، الميلشيات العراقية والأفغانية الشيعية، لواء القدس الفلسطيني ـ رغم ارتكابهم للكثير من الأعمال الإجرامية؟!
ذاك القرارُ فتح البابَ على مصراعَيه لمُغَازلة الجميع ـ الأصدقاء والأعداء ـ وطلبِ مساعدتِهم من جديدٍ في محاربة الإرهاب (السُّنيّ)؛ الذي خُطّطَ له في الغرب، ومُوِّلَ من جهاتٍ غير رسميّةٍ على الأغلب، وتمَّت رعايتُه من قِبَلِ النظامَين السوريِّ والعراقيّ، وتحتَ إشراف الحاج قاسم سُلَيماني ـ الولي الفقيه الإيرانيّ في البلاد العربية.. أي جميع أولئك الذين حاولوا التجمُّعَ يوماً من أجل مقاتلة الإرهاب!
لم يكن تنظيم “داعش” مشكلةً إقليميةً ـ كما ادَّعى باراك أوباما حينذاك ـ بل شكل مشكلةً عالميةً ما زالت حاضرة نظرياً وعملياً حتى يومنا هذا؛ ومن قام على حشد القوى لمحاربته، ارتكبُ نفسَ الخطأ الذي ارتُكِبَ في ثمانينيّات القرن الماضي، أثناء تشكيل تنظيم “القاعدة” في أفغانستان لمحاربة التدخل العسكريّ السوفييتيّ.. إنَّ محاربةَ “داعش” لثورات الربيع العربيّ ومحاولةَ وقفِ امتدادها عند الحدود الشامية، جعلَ سورية مركزاً أساسياً لتجميع الجهاديّين من كلِّ حَدبٍ وصوبٍ؛ ومن ثمَّ زرعِ الشقاقِ فيما بينهم، وجعلِهم يتناحرون ويتقاتلون على الكعكة البترولية السورية من أجل أفغَنَةِ البلد، ومَحي كلِّ شيءٍ له خصوصيةٌ حضاريةٌ سورية؛ طبعاً بالتعاون مع الأسد العلويّ السوريّ، وخامنئي الشيعيّ الإيرانيّ، وبوتين الأرثوذكسيّ الروسيّ؛ وجعل تركيا الأردوغانية تلعبُ نفس الدور الذي لعبته باكستان في الحرب الأفغانية ـ دولة ترانزيت للجهاديّين العالميّين المتوجّهين إلى سورية والعراق؛ وكأنَّ الذي يجري في جِوارها الإقليميّ لا يَعنِيها تماماً، ولا يؤثّر عليها في المستقبَلِ القريب!
لكن، رغم مرور الوقت، لم يجب أحد حتى الآن على السؤال الملح التالي: كيف وصل آلاف المتطوعين الأجانب للقتال إلى جانب داعش وتنظيم القاعدة؟!
يبدو أن الجواب سيكون مزعجاً للكثير من الدول وقادتها وأجهزتها الأمنية!!!
q5ja0o