الرأي العام

مقامات أمريكية | ماذا فعلت حرب غزة باليسار الإسرائيلي؟!

د. حسام عتال

مما لا شك فيه أن الحرب على الشعب الفلسطيني في غزة قد أظهرت للعيان ما كان مستوراً، وكشفت المواقف الحقيقية للأفراد والأحزاب والشعوب والدول بمختلف مشاربهم واتجاهاتهم وعقائدهم.  هذا الصراع الذي احتد إلى ذروة عنف لم يسبق لها مثيل، وضع على محك الواقع جميع الأعراف والنظم والمسلمات، وبسببه طفا على سطح الماء كل ما كان مستتراً في العمق.

من الذين تجلى موقفهم الحقيقي هي مجموعة ما يسمى باليسار الاسرائيلي. وهي لم تنكشف لنا كعرب لأننا معظمنا لم يكن مخدوعين بهم، ولكنهم انكشفوا أمام الليبراليين اليساريين المناصرين لهم في الغرب، خاصة ضمن مجموعات ومنظمات الطلبة في الكليات والجامعات . فحتى وقت قريب كان اليسار الاسرائيلي قد نجح في تقديم نفسه كمجموعة ليبرالية، علمانية، ذات أصول اشتراكية، تسعى للسلام وتؤمن بالمساواة وحقوق الإنسان ، وقد خلقت وسائل الإعلام في الغرب هالة من الرومانسية حول هذه المجموعة فصورتها بكل رقة، وكأنها مؤلفة من قديسين وأنبياء، فعند ذكرها تحمر الوجنات وتترقرق العيون وتنكس الرؤوس إجلالاً.

معكسر مناهض للصهيونية في إحدى الجامعات الأمريكية: الحرية لفلسطين

المثال النموذجي عن المثقف الإسرائيلي اليساري المعبود في الغرب هو يوڤال نوح هراري. هذا الرجل الذي ولد في 24 شباط 1976 في كيبودز كريات آتا لعائلة علمانية كان بارزاً في العلم منذ صغره، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة أكسفورد في عام 2002 ،متخصصًا في التاريخ الوسيط والتاريخ العسكري. ثم عاد ليعمل كمؤرخ وفيلسوف وأستاذ إسرائيلي في قسم التاريخ بالجامعة العبرية في القدس.

كمثال حي للرجل اليساري العلماني هو نباتي المأكل، يمارس طريقة الفسبانا في  التأمل الصامت عدة ساعات يوميا، وهو مثلّي متزوج من إسحق ياحاڤ، ويقيمان في تورونتو بكندا. شهرتة العالمية جاءت بفضل كتابه “العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري” الذي نُشر في عام   2014كتبه مستخدماً نهجها واسعاً متعدد التخصصات، حيث ألف بين رؤى من التاريخ، والبيولوجيا، والفلسفة، والاقتصاد وقدّم رؤية شاملة لتطور الإنسان تاريخه منذ ظهور أقدم الأنواع البشرية القديمة حتى اليوم.  كتبه بأسلوب سهل ومشوق استطاع تلخيص الأفكار المعقدة وجعلها مفهومة لجمهورواسع. باع الكتاب ملايين النسخ، وبقي عن لائحة أفضل الكتب المبيعة  ١٨٢ أسبوعاً على قائمة أفضل الكتب وأكثرها مبيعاً، فأصبح ظاهرة نشر مشهود بها.  أناس مهمون مثل بيل غيتسو مارك زكنبيرغ وباراك اوباما أشادوا بالكتاب، وقد حصل الكتاب على عدد من الجوائز أيضاً في أمريكا وخارجها. متحف العلوم في تل ابيب خصص للكتاب جناحاً منفرداً بجهود إعلامية من زوجه اسحق.  تُرجم إلى لغات عديدة منها العربية، وتبعه بكتاب ملحق   “الإنسان الإله: تاريخ مختصر للغد” (2015) و “21 درسًا للقرن 21” (2018)، مواصلاً متابعة المواضيع المتعلقة بمستقبل البشرية والقضايا العالمية المعاصرة.

يوڤال نوح هراري وسقوط قناع اليسار الإسرائيلي

هذا الرجل اليساري العلماني المؤمن بالسلام، في مقابلة مع محطة راديو 4 قال أن أسوأ شيء حصل في غزة هو “تزعزع الثقة وانهيار التعايش بين الشعبين”، مدعياً أن أغلب سكان الكيبوزات المحيطة بغزة كانوا من “اشتراكيين مدافعين عن السلام وداعين لحل الدولتين، وأنهم كانوا متعايشين بسلام مع أهل غزة رغم أن كانوا يمطروا بالصواريخ المتتابعة.”

وفي مقال في جريدة الواشنطن بوست تساءل يوڤال “هل ستبقى الصهيونية حية؟” وهو ليس سؤالاً خطابياً، فهو في الواقع يخشى على الصهيونية من الزوال لأنها “حركة وطنية مثل الحركات الوطنية في اليونان أو بولندا” وهي برأيه  “ليست عنصرية إنما تسعى لإثبات الشعب اليهودي في تقرير مصيره في وطن خاص به”.  أما العنصرية الحقيقية بالنسبة له فهي العنصرية الموجهة ضدها ممن يعادون السامية وينكرون حق اليهود في وطن لهم . وهو يتهم الطلاب الذين يهاجمون الصهيونية بأنهم، بمعارضتهم لها، إنما يدعون إلى زوال الشعب اليهودي كله. ويتمادى ليمحّد مؤسسي الدولة الاسرائيلية مثل بين غوريون ومائير وپيريز، مصوراً إياهم بالحكمة والاعتدال وحب التعايش. ويلقي باللوم على الحكومة الحالية التي نأت عن مسارهم الرشيد، مما أدى لمأزق الاحتلال الدائم. اللافت للنظر أننا لا نجده في أي من مقالاته معارضاً للحرب، أو داعياً لوقفها، وأقرب ما ينتقده فيها هو اعترافه بأنه “نعم هناك أخطاء قد حصلت.” أو “الموضوع معقد ويصعب الخوض فيه.”

ثم يقوم بحركة بهلوانية في رسالة نشرها (موقّعة من تسعين  من رفاقه اليساريين الاسرائيليين (قالباً الطاولة على اليسار العالمي والطلبة متهماً إياهم ب “بعدم الحساسية الاخلاقية الشديدة ” وفيها ينحب “دولته المنهارة… لأن حلفائها ورفاقها قد تخلوا عنها وخذلوها” و يعبر عن صدمته الشديدة لأنهم “وضعوا اللوم على إسرائيل”.

يمكننا فهم هذا التناقض عند يوڤال بالعوده إلى كتابه عندما وصف الهوموسابيان أنه الجنس البشري الوحيد الذي يملك قدرة هائلة على التخيل و من ثم تصديق الخيال (ما اسماه بالثورة المعرفية)، ولكن ربما الأصح من ذلك هو استخدام فكرة دانيال كانيمان، الكاتب إسرائيلي الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، عندما قال أن “البشر، في حالات الحرب، يتصرفون وفقا للعناصر الجينية التي يتشاركون فيها مع الجرذان.”

لقد زرت خمسة معسكرات أنشأها الطلاب المناهضون للصهيونية في جامعات أميركية شهيرة وذات نفوذ، وقضيت وقتاً أتكلم مع الطلبة، استمع لمحاضراتهم، وأشعارهم، وأغانيهم، وإنشوداتهم. إنه شعور رائع لأن هذا الجيل الجديد ذكي ومتألق ومثالي (وكثير منهم من اليهود)، قد اكتشف الزيف في اليسار الإسرائيلي، وهم ناشطون بقوة واخلاص ولهم صوت جرئ. هذا التغيير قد فاجأ كثيراً من الصهيونيين الذين إلى وقت قريب ظنوا أن الساحة خالية سوى منهم.  الطلاب يرون بوضوح الموقع الرجعي لهذه لمجموعة اليسار الإسرائيلي التي فقدت بريقها ورونقها الزائفين. ربما بسبب ذلك تتعرض هذه المجموعات الطلابية للنقد الشديد والتشويه (والعنف) وذلك بتحريف هدفها ومبغاها من واقعه في دعم حقوق الشعب الفلسطيني إلى العنصرية المعادية للسامية.  كل ما أرجوه هن أن في سيكتب أحد هؤلاء الطلبة، في المستقبل القريب،  كتاباً “عاقلاً”  حقيقياً يدرّس في صفوف الجامعات، لأن كتاب “العاقل ” الحالي لم يدخل بعد إلى مناهج التعليم في أي من الكليات أو الجامعات, ولن يدخل لأنه بالأساس كتاب ترفيهي ما يسمى ب infotainment، ما زال حكراً بحق وجدارة، على رفوف مراكز التسوق مثل وول مارت وتارغيت وعلى أكشاك البيع في المطارات لتسلية الركاب عند السفر.

زر الذهاب إلى الأعلى