رواية (النباتية) للفائزة بجائزة نوبل هان كانغ: مجرد رؤية…
شادية الأتاسي – العربي القديم
قد يكون الحديث عن رواية النباتية للكورية هان كانغ ، التي فازت بجائزة البوكر العالمية، التي تتناول توق الإنسان وشغفه وشكوكه ورغباته ، ترفاً لا يهم القارىء العربي، خصوصاً السوري، الغارق في همه المعيشي اليومي، أو في رحلة البحث عن هوية ووجود إن كان في ديار الغربة .
كان لدي فضول حقيقي لمعرفة ما أرادت هذه الروائية التي أثارت الكثير من الضجة واللغط والتشكيك قوله، تحت عنوان (النباتية)، الذي بدا لي عاديا وحيادياً، وأدركت حين التهمت الصفحات أنه لا ينتمي للرواية بشيء.
بالتأكيد. لم تكن رواية عادية، ليس فقط لأنها مشغولة بحرفية ودقة عالية، ولا لمزجها المدهش ما بين الواقعية والفانتازيا والتجريب، ولا حتى للغتها النثرية الفائقة الجمال. ولكن لتلك السلاسة التي كانت الكاتبة تحرك بها شخصياتها، وتثير أسئلتها المحيّرة والمشككة، في جدوى الوجود الإنساني برمته، من خلال تصاعد وتيرة التطور الدرامي لشخصية يونغ، الزوجة العادية المطيعة.
في الفجر، ظهرت يونغ كشبح في الظلام، تقف دون حراك أمام ثلاجة المطبخ، رمت أكياس اللحوم في سلة الزبالة، ثم اتخذت قرارها الصادم دون تردد، لن تأكل اللحوم بعد اليوم. قالت للزوج المندهش شيئاً واحداً فقط: لقد رأيت حلما!
ثم مضت غير عابئة بشيء.
لم يكن الأمر مجرد قرار مزاجي، أو موضة عابرة، قد يتخذها شخص في لحظة اضطراب. كان أعمق من ذلك بكثير. هناك تغير مفزع حدث في العمق! تغير ينتمي إلى تاريخ طويل ومرهق من التعامل المذل والقاسي والمظلم لإنسانية المرأة. كان بداية الهلاوس التي ازدادت ضراوة، دماء وأشلاء ممزقة ووجوه غريبة، قادت يونغ إلى مرحلة التدمير الذاتي، وقادت شخصيات الرواية إلى نهاياتها المأساوية.
ورغم أن الكاتبة حاولت إظهار هذا التغير في المشهد الأكثر إثارة للجدل، بمزيج ساحر من الضوء واللون والورود والشاعرية الطاغية، إلا أن ذلك القدر من الغضب، من القنوط واليأس والخواء الذي جعلها تحفر بلا كلل في تلك المنطقة المظلمة، حيث يكمن العالم الخفي للإنسان المدنس بالرغبات. كان واضحاً بجلاء، وكان هو ما أرادت قوله !
لم أستطع أن أنجو من السؤال: هل كان الأمر فانتازيا أكثر من كونه حقيقة؟ هل كانت كل هذه الشراسة المشبعة بالجمال، في المشاهد الحميمية /بتلات ورد، كاميرا فائقة الدقة ، ترصد الحركة وانسياب الضوء/ والتي ظهرت فيها يونغ مستسلمة ولا مبالية، لأهواء زوج الشقيقة الكبرى، في تجربة إيروتيكية معقدة، لم يكن رغبة، كان ببساطة مزيدا من الانهيار، مزيدا من الرفض لعالم لم يعد يعني لها شيئا.
هل كان كل هذا وسيلة لإبهار القارئ في حلم طويل من الفن المعقد؟
ربما كان الأمر في حقيقته لا يعدو كونه هوساً مضطرباً يصيب فناناً أو زوجاً يمر بأزمة كمون، يبحث عن عمل فني خلاق يمنحه معنىً طالما حلم به لفنه وحياته. وقد أثار خياله فجأة رؤية / وحمة منغولية/ على الجسد العاري للشقيقة الصغرى لزوجته، التي توقفت عن أكل اللحوم. امرأة لم تكن تعني له شيئاً يوماً، لكنها أصبحت الآن الحقيقة الأكثر اغواءً لخياله، ضارباً عرض الحائط بكل العلاقات الأسرية.
ما يحاول هذا السرد المشبع بالقنوط واليأس توضيحه هو فقدان الرغبة في المعتاد من الأشياء، والبحث عن عالم فانتازي وخيالي مرهق للوصول إلى حالة من النشوة والرضى بغض النظر عما قد يقود إليه.
لقد مضت يونغ في تمردها حتى النهاية. ذلك التاريخ المظلم من التعامل البطريركي القاسي والمذل من الأب والزوج والعشيق، لم تستطع أن تنجو منه. توقفت عن الأكل، رافضةً الموت العادي. قالت للشقيقة الكبرى /الشخصية الإيجابية الوحيدة في الرواية والتي كان تاريخها من الألم والغضب يسير بموازاة تاريخ يونغ، إلا أنها اختارت أن تعيش من أجل ولدها ومن أجل يونغ ذاتها/ أنها لاترغب بالموت، اتخذت وضعية غريبة، رأسها إلى الأسفل وقدماها إلى الأعلى، سأكون شجرة تتغذى بالضوء والشمس والريح. ومن بطني سينبت الورد .
الأمر الغريب، أنه في ظل كل هذا العالم السردي الموغل في العلاقات الإنسانية، لم يكن هناك كلمة واحدة عن الحب، حتى في العلاقة الحميمة، لم تكن مشهداً لعلاقة حب بين رجل وامرأة، استعان فيه الرجل بالحلم والخيال. لم يكن الأمرعبثاً، كان هذا الفقد صارخاً في حقيقته. فهل كان الأمر إذن بحثاً عن المفقود في حياتنا، الحب والإنسان؟
طالما أرقني سؤال ملحّ: هل جوهر الوجود الإنساني الحقيقي يكمن فعلاً في تلك المنطقة المظلمة، وهل هو جوهر شرير وقبيح؟ هل القبح هو الأصل؟ لا أذكر من قال إن الإنسان كائن معقد التركيب، يحمل في داخله صفات الكمال ونقيضها، العقل الشرير والقلب الطيب. لكن السؤال الأكثر إلحاحاً هو: هل هناك حقيقة مطلقة؟
ذلك هو السؤال!