رواية (إعصار عذب) لشادية الأتاسي: حين تعمل المخيلة في مواجهة الواقع السوري!
ضاهر عيطة – العربي القديم
كل الأعاصير تكون عنيفة ودامية، إلا في المخيلة الأدبية، فيمكن للإعصار أن يكون عذباً كما في رواية الكاتبة السورية شادية الأتاسي. ولم ترد هذه العذوبة في السياق السردي للأحداث، والوصف لأبطالها وحسب، إنما جاءت بمثابة تقنية تعمدتها المؤلفة حين عنونت روايتها بذلك العنوان، والذي بالضرورة يدفع القارئ لأن يتلمس شيئاً من اللذة والمسرة، رغم أن مجمل أحداث الرواية تشي بالكثير من خيبات الآمال، ويحضر فيها الفراق، والمرض، والسجن، والحرمان، والرحيل، والموت، إلا أن الأتاسي حرصت على أن تكنس عن الحدث قسوته وبشاعته وعنفه، ليصير له بعداً شاعرياً عذباً.
تداخلات دائرية بين الأمكنة والأزمنة
ما أكثر الأمكنة التي تتنقل بينها أرجوحة الرواية، وما أكثر الشخصيات التي فيها، ولكل شخصية هواجسها وأحلامها وصراعاتها. {سليمى} وهي الضمير السارد في هذه الرواية، تروي ما عاشتها من أحداث وتجارب، بدءاً من حرمانها من الأب وموت الأم، وما عاشتها مع الأخوة، نبيل وروز وداليا، ومع الصهر ناصر، وسعد الحبيب والزوج، وكريم الرجل الكردي الذي أغرمت به أيضاً وتزوجته، وباولو الرجل البرتغالي الذي فسح لها المجال لتجد مشروعها الأدبي، بترجمة ونشر أعمال والدها، التي كان قد كتبها من وراء قضبان السجن.
معظم هذه الشخصيات، وما أحاط بها من أحداث رافقت سليمى منذ طفولتها، وحتى بلوغها العقد الرابع، راحت تحفر عميقاً في وجدانها، لتتوالى الأحداث سريعة وخاطفة في السياق السردي، حتى أنه في مرات كثيرة قد لا يتجاوز سرد الحدث بضعه أسطر، إلا أن وقعه يكون جامحاً وعاصفاً، ليغير من مسار الحدث تغييراً جذرياً، كحال الأمكنة والأزمنة التي تتبدل وتتغير سريعاً، وعلى نحو مباغت، فتأتي محملة بالكثير من المعاني والدلالات، وكأننا من خلال الوصف المكثف، نحط أمام مشهد راهن، وإن مر سريعاً، وخاطفاً، لكنه يترك أثراً كبيرًا في مصائر الشخصيات.
من جلسات الأهل والأحبة في مصطبة حي المهاجرين أيام الطفولة، إلى البيت وقبو الكتب، وساحة بائع الذرة والفول في أيام الصبا، ثم بيت الزوج سعد، والطابق الثاني الذي تقطن فيه السيدة صاحبة الزي الأسود واللحن الجنائزي، إلى المطار والطائرة، ثم الانتقال إلى سوسرا، وإلى مدينة إيفان، وساحة مدينة ريبون، والبحيرات وجبال الألب، وعينتاب، وأربيل، وإيفان، ولوزان، والريحانية، لتأتي هذه التداخلات بين الأمكنة والأزمنة ضمن حلقة دائرية، قد يصير فيها الماضي حاضراً، والحاضر ماضياً، وفي كليهما ثمة هجر ورحيل، يشبه تماماً انتقال طيور النورس من مدينة لأخرى، كما تراها سليمى من شرفة بيتها، لكن وعلى عكس هجرة طيور النورس، التي تأتي في مواسم محددة، فإن تنقلات سليمى وهجراتها تأتي مباغتة، ودون توقع أو حسبان، فما أن تحل في مكان حتى تغادره، أو يلفظها المكان إلى غيره، ويمكن القول أن عملية النفي تبدو متبادلة بين الشخصية والأمكنة. إذ مرة يتم اقتلاعها من وطنها سوريا جراء كلمة أدلى بها ضابط في أحد الفروع الأمنية، ومرة ينفيها عشقها لكريم من سويسرا إلى أربيل، بعد تعرضه لإصابة خطيرة في ساقه.
عنف التغيير في مسار الشخصيات
سليمى هي ابنة الفقد، فقد الأشخاص والأزمنة والأمكنة، وقد بدأت حياتها مع فقد الأب، الذي لم يبق لها منه إلا طيفه، وكتبه التي تكسوها الغبار في القبو،، كذلك فقدانها لغيره من الأشخاص، حتى غدا هذا الفقد، فعلاً قمعياً، موازياً لفعل إرغامها على مغادرة دمشق، وها هي دمشق لم تعد دمشق. تغيرت، وتكسرت، واكتست ملامح البؤس والهوان، وبدت أختها داليا التي بقيت هناك، وما حل بها من عذاب وضجر، مرآة لهذه المدينة.
وما نلحظه في سياق الأحداث، أنه يمكن لحدث صغير، أو لجملة واحدة ترد على لسان شخصية من الشخصيات، أو لنظرة يتم تبادلها فيما بينهما، أن تدفع بهذه الشخصيات إلى تغيير مسار حياتها كاملاً، كما اعتقال الأب، ولقائها مع سعد في رحلة الزبداني، وما أسفر هذا اللقاء عن زواج سرعان ما انهار، والرسالة التي وصلتها عبر البريد في مدينة سويسرية، والتي تم إخطارها فيها عن قبولها التدريس في معهد عربي، وكذلك لقائها مع كريم الذي أسفر وخلال ست ساعات عن ولادة قصة عشق ملتهبة، وبلحظة واحدة تم الزواج بعد رحلة هيام استمرت طويلا، ثم في لحظة أخرى يباغتها كريم ويمضي إلى أربيل، فلا تجد منه إلا الكرسي الذي كانت قد تخلت له عنه، وهي كعادتها منذ الصغر دائمًا تتخلى عن الأشياء التي تحبها، كما تخلت حين كانت طفلة عن ألعابها لأختها داليا، وهي لا تتخلى إلا لكونها تحرص أن تظل محاطة بالحب والحنين، في حين أن المحبين سرعان ما يفرون من حولها ويتركانها وحيدة مع قطتها شامية، وها هي تلتقي مع شقيقها نبيل بعازف الكمنجة السوري، وقد بدأ نهارهم معاً مبهجاً، لكثرة ما غنوا فيه لفريد الأطرش وغيره، ومن شدة تفاعل نبيل مع هذه الأغاني، وهو المصاب بالربو، يختتم نهارهم بأن يساق إلى المشفى وقد بات في وضع صعب، وهو الملتاع اشتياقًا إلى الشام، لكنه يلفظ أنفاسه الأخير في الغرفة المعتمة، لتغدو فرانسوا وعقب موت زوجها نبيل مباشرة، امرأة عجوز. وها هو جاد الشاب الدرعاوي المنفتح على الحياة، يأتي إلى زينة، ابنة أخ سليمى، ويطلب من هذه الشابة الفتية، دون سابق إنذاز، أن ترتدي الخمار وترافقه إلى إدلب للإنضمام إلى الجمعيات الإسلامية، وكأن جاد لم يعد جاد الذي تعرفه زينة، فترفض ذلك، وتفضل السفر إلى تركيا للعمل في منظمة إغاثية لمساعدة المحتاجين هناك، بعد أن انكشف لها فكره في لحظة واحدة، وعلى نحو مباغت، وكأن هناك لعنة تنبأ بأن مصير هذه الشابة سيكون كمصير عمتها سليمى!
هذه الإيقاعات المتنوعة والمتضاربة في مسيرة الأحداث، تأتي انعكاساً لما يكتنف الأزمنة والأمكنة من تخبط، وجري سريع، إلى حد أن لا تتنبه سليمى لنفسها، إلا وتكون قد تغيرت حتى ملامحها في غفلة عنها، فما إن تنظر إلى وجهها عبر المرآة لترى ما الذي تغير فيه، حتى لا تكاد تتعرف عليه. وها هي المقبرة يوم تشيع نبيل، وكمعظم الأمكنة، تتخاطف الأحداث فيها اللحظات تلو اللحظات، وكل واحد منها يشير إلى عدم مبالاته بالحدث الذي سبقه، ولا بما سيأتي بعده، فمن وسط المقبرة، وفي أوج الحزن ولوعة الفراق، يحضر كريم أمام سليمى، وقد مر على غيابه زمناً طويلاً، يجيء دون سابق إنذار أيضاً، ومع قدومه يتغير مسار الحدث، ودلالة المكان، ليغدو فضاء المقبرة، فضاءاً منفتحاً على الحياة، ولكن سرعان ما تنتقل سليمى مع حكايات كريم عن عفرين والقامشلي، وعن حال الأكراد، وعن جدته وأمه، إلى مأساة حزن وموت آخر، ليغوص كريم من خلال أجواء الحكايات، في ترديد أغانٍ كردية، ثم يباغت سلميمى بعد ذلك، حين يستغرق في بكاء مرير، وهو ما لم يكن متوقع بالنسبة إليها على الأقل حين تقولك “ثم فعل شيئاً، لم أره يفعله قبلاً، أجهش بالبكاء”.
وكما تتغير الأحداث والأماكن والأزمنة والمصائر، كذلك يحدث لقناعات وأمزجة ورغبات الشخصيات، إذ ليس ثمة ما هو ثابت فيها، وبينما كانت داليا تتفاخر بشعرها الأشقر، فجأة ترتدتي الحجاب، لتترك هذه القطعة القماشية أثراً كبيراً عليها، تشعر معها سليمى بالاغتراب عن أختها، وكأنهما لم تكونا يوماً أختين، كما أن موت الشقيق نبيل جعل سليمى تتخلى عن رغبة الإنجاب، هذه الرغبة التي ظلت ترافقها لزمن طويل، غير أن حدث الموت، يميتها معه.
وها هو كريم حين يسافر إلى فرنسا تاركاً سليمى وحيدة، يباغتها باتصال هاتفي يدعوها من خلاله أن تسافر إليه، وترك كل شيء في سويسرا، يدعوها بنزق، وحين لا تستجيب، لكونها بدأت تحقق كيانها بعد أن شرعت في تهيئة كتابات والدها للترجمة والنشر، يغلق كريم الخط في وجهها، وإذ بشراع كأنه شراع الموت يلف روحها، فأينما توجهت كان موت الأحلام والمعاني والأشخاص يلاحقها، غير أن المؤلفة شادية تأبى أن تطغى مثل هذه الصورة القاتمة على بطلتها، وعلى الفضاء المتخيل الذي ابتكرته، وإذ بها وفي لحظة خاطفة أيضاً، تباغت القارئ، بلوحة للحياة وقد فاض عنها الحب والجمال والعطاء، فتنقله بسلاسة ورشاقة من وسط عوالم شخوصها، ومرارات عليشهم، فاسحة ممراً ليتنفس من خلاله، وإن كان ذلك عبر وصفها لغرسة ليمون، وسحابة غيم،
وكما في رسائل زينة القادمة من مخيم الريحانية، والتي تصف فيها حالة العوز والفقر والجوع والبرد، لتتكشف في هذا النفق مرارات الحياة على نحو أشد وأعمق، من خلال عبارات مكثفة، رشيقة وسريعة، ولشدة غناها التعبيري تنقل معها القارئ إلى هناك، ليرى ما يجري من أهوال وفظائع، ومن قهر وجوع وفساد وسرقة ومؤامرات ورعب وخوف، وإدمان الأطفال على ألعاب القتل والحرب، لكن الأتاسي مع ذلك، تصر على أن تفتح نافذة أمل حتى في عتمة هذا النفق، المحمل في رسائل زينة، وزينة هذه، بمعنى من المعاني تكاد تكون حلم سليمى، قطعة منها، ومن صباها الذي بدأ يذوي، حيث تهمس زينة في واحدة من رسائلها: “أخرج من الخيمة في الليل، تبدو لي السماء قريبة وصافية تتلألأ بالنجوم، أجد في هذا الجو رهبة وسحرًا، يجعل قلبي يخفق بقوة، تبدو لي الحياة حلوة”. فزينة تكتشف أن الناس جميعاً من حولها، يصيرون في الليل أكثر إنسانية، ينكفئون على أنفسهم، وكأنهم يبكون عتمة نهاراتهم، ليجيب مثل هذا المشهد، عن سؤال: من أين تتأتى عذوبة الأعاصير في هذه الرواية.