مقامات أمريكية | عماد الحضارة هم الحلاقون
د. حسام عتال
عماد الحضارة هم الحلاقون. فكر في الأمر، وانظر في دور الحلاقين في المجتمع. ألم يقص الحلاقون شعر الملك توت عنخ آمون، والإمبراطور تشيانلونغ وهارون الرشيد والبارون دي مونتسكيو. هل تعتقد أنهم كانوا صامتين وقتها، ألم يبحثوا أموراً ويدلوا بآراء، ويهمسوا أفكاراً في تلك الرؤوس. هل تظن أن الرجل الذي يحمل بيده موسى مصقولة يداعب بها رقبة رجل آخر هو رجل دون تأثير؟ نعم، صحيح أنهم لم يقوموا بعمل رائع عند تصفيف شعر طاغور، بيتهوفن أو آينشتاين، لكنهم، رغم ذلك، حاولوا جهدهم في تلك الرؤوس العملاقة، وهذا ليس أمراً بسيطاً.
لهذا السبب عندما أزور مكاناً جديداً، أول ما أفعله هو حلاقة شعري في صالون الحلاقة المحلي – هذه هي مساهمتي الصغيرة في تاريخ المكان وثقافته. في آخر مرتين زرت فيها القرى الصغيرة في المناطق النائية من شمال ولاية متشغان، وجدت فتيات يافعات يعملون في محلات الحلاقة بدلا عن الرجال. عادة، أصحاب هذه المحلات من الرجال الكبار الذين بسبب السنوات الطويلة التي صبوا فيها انتباههم على رؤوس الجالسين في كراسيهم قد انحنت ظهورهم، فأصبحوا عندما يقفوا جنبك كمن ينصت إليك باهتمام زائد. لكنهم بسبب هذا الوقوف الطويل والتهاب فقرات العمود الفقري، فقد اضطروا للتقاعد لكنهم لا زلوا يجلسون في زوايا محلاتهم، يتحاورون مع الزبائن بمواضيع تبدأ بحالة الطقس، وتمر بقرارات مجلس البلدية المحلية، وتنتهي بآرائهم المتضاربة في آخر مناظرات المرشحين على الرئاسة. أما السبب في استبدالهم بفتيات يافعات (كما قيل لي عندما استفسرت)، فهو أن الفتيات قد ورثوا صنعة آبائهم، ومحلاتهم، لأن أخوتهم من الذكور قد هاجروا للمدن الكبيرة بحثاً عن عمل أفضل، فلم يبقى في القرى سوى الكهول والنساء.
وملفت للنظر كيف أن صالونات الحلاقة هذه تشبه إلى حد كبير نظيراتها في أنحاء العالم. سواء في فالبارايسو، كانبور، أو هلسنكي، فإن الحلاقين يتمسكون بفخر بتقاليدهم المعمارية التي تتحدى الزمن. محلاتهم هي دوماً الأقدم مظهراً وتبدو خارج السياق المحيط بها، فهم مُصرّين على استخدام مواد الخشب الصلب المطلية بألوان كالحة، فتصبح في تناقض مع متاجر الملابس أو الإلكترونيات المجاورة التي تميل إلى الزينة البراقة والألوان الزاهية والزجاج اللامع. في الداخل، تجد الأثاث من الجلد الأصيل الذي له بريق بسبب سنوات من الاحتكاك مع ثياب الناس – الفلاحين ببناطليهم المغبرة العالية الخصر ذات الحمالات، والعمال بقمصانهم الطويلة الملطخة بالزيوت، أما الأطفال فيأتون بسكاكينهم المطوية الحادة التي يحفرون بها قبضات المقاعد تاركين عليها حروف اسمائهم الاولى، فيزيدون بذلك تحفاً فنية لها عراقتها الخاصة.
جدران الصالونات تروي أياماً مضت عن المنطقة التي يقبع فيها المحل. صور قديمة باهتة للمدينة، مبانيها، عرباتها، الترامات، الساحات والحدائق، صورة لفرق رياضية تظهر فخر الشباب لاعبي السلة، والبنات السباحات، وشخصيات مشهورة مرت بالمحل يوماً ما، ترتدي بزات أنيقة ونظارات شمسية. الرفوف مدعومة بأعمدة حديدية سميكة بدهان متقشر. عليها ترتبت قوارير وأوعية وزجاجات بأشكال وأحجام متنوعة. محتوياتها المهيجة للجلد لها رائحة الكولونيا الرخيصة، لونها من الأخضر الفاتح أو الأصفر الكهرماني.
إشارة بالمنشفة الصغيرة هي التلميح المعتاد من الحلاق أنك مدعو للجلوس على المقعد الوثير الذي يشبه العرش. ثم تُلف المنشفة الكبيرة حول رقبتك، وتغطي صدرك وكتفيك لكنها تترك جزءًا من الظهر مكشوفاً، وكأن قصاصات الشعر الصغيرة في الظهر هي أقل إزعاجاً من الأماكن الأخرى. بمجرد تثبيت المنشفة، أنت الآن تحت رحمة يد الحلاق الذي في العادة يتبع إحدى فلسفتين، التفاوت بينهما عميق لدرجة أن طول الزمن لم يسمح بالتصالح بينهما حتى الآن. الفلسفة الأولى تفترض وضعاً تجلس فيه بين مرآتين كبيرتين واحدة أمامك والأخرى خلفك على الجدار المقابل. تميل هذه المرايا بشكل استراتيجي لتجمع مناظر للانعكاسات المتعددة لرأسك، تتضاءل تدريجياً في ارتداد لا نهائي. الفلسفة الثانية تتم عندما يتأكد الحلاق أنك آمن على مقعده وليس لديك وسيلة للهروب، بحركة سريعة خبيثة يديرك بعيداً عن المرآة الوحيدة أمامك، تاركاً إياك تحدق في الجدار الخلفي، تتفحص زينة الجدار المؤلفة من جوائز الصيد كالأسماك الكبيرة أو الطيور الجارحة المحنطة أو الأرانب البرية. في هذا السيناريو الثاني لن تحصل على فرصة أخرى لرؤية رأسك بالتسريحة الجديدة حتى ينهي الحلاق مهمته كلياً. الإشارة إلى ذلك تتم عندما يرمي أدواته الحادة في وعاء مضاء بالنيون الأزرق ويرفع مرآة يدوية خلفك؛ ابتسامة الرضا تحل على وجهه محل تعبيره السابق الجاد، لكن بنفس الوقت، اللامبالي.
من العبث رفض الرشاش من المستحضرات والكريمات القادمة. سيتم تطبيقها على جلدة وجهك ورقبتك وشعرك بدون حاجة للموافقة وقبل أن تحظى بفرصة للاعتراض أو الاحتجاج. أخيراً، تمر فرشاة كثيفة على الجلد المكشوف من رقبتك وكتفيك وأعلى ظهرك بضربات مدروسة، الغرض منها على ما يبدو هو غرس الشذرات الصغيرة من الشعر أعمق في جلدك المكشوف.
تدفع أجرة الحلاقة بالعملة المحلية، وهي رخيصة بالمقارنة بصالونات الحلاقة الحديثة. ثم تغادر المحل بذكريات لن تنساها عن الحلاق (أو الحلاقة الفتاة) والقرية وسكانها. تأمل أن يتذكرك الحلاق بنفس الشوق التي ستتذكره بها، لكن في أعماقك، تعرف أنك زبون من الآلاف الذين مروا بهذا المكان، وأن ما تتمناه سيكون لنفسك أكثر من أي شئ آخر.