نهاد قلعي: بين لمسة الوفاء ووجع النكران
بقلم: مصعب الجندي
بعد هزيمة حزيران الأليمة عملت القيادة المهزومة، على التخلص من أي صوت يطالب بالمحاسبة، وكشف الحقائق، وكان أولهم سامي الجندي الذي انتهزت فرصة مجيئه من فرنسا، لحضور المؤتمر القومي، التي سبق وأبعد إليها كسفير لسوريا، وألقت أجهزة الأمن القبض عليه في المطار، وأودع السجن. حينها اعتبرت فرنسا الأمر مخالفاً للأعراف الدبلوماسية التي تقضي بأن يُودع أي سفير تنتهي مهمته رئيس الدولة المضيفة، ورفضت استقبال سفير لسوريا، قبل تسوية الأمر، وتم تسويته بأن أُطلق سراح سامي الجندي، وزاره في منزله السفير الفرنسي في سوريا، رغم ذلك لم يشتفِ غلّ العسكر، وسرّب أصدقاء سامي أن القيادة تبحث عن حجة لإعادته للسجن، فاضطر إلى الفرار إلى لبنان بطرق غير رسمية، وانتشر في بيروت المخبرون يبحثون عنه، بحيث لم يتمكن من الإقامة عند أحد أشقائه، وشاءت الصدفة أن التقى بالأستاذ نهاد قلعي الذي كانت تربطهما صداقة واحترام، منذ أن كان سامي الجندي وزيراً للإعلام. لم يتردد الأستاذ نهاد، فأمّن الإقامة للجندي، وأظن في منزل كان يملكه في بيروت، وليس لأحد أصدقائه. بقي الجندي فترة تجاوزت الشهرين في بيروت، إلى أن حصل على وثائق سفر أردنية، وغادر لبنان إلى بلاد المنافي.
عام 1973 عاد سامي الجندي إلى بيروت، وكان والأستاذ نهاد يلتقيان كلما كان الأخير فيها، إلى أن كانت الضربة الأليمة عام 1976 التي كادت أن تودي بحياة القلعي، وانقطع الاثنان لفترة، ثم التقيا. كان القلعي يشكي همومه قليلاً للجندي، والأخير يشعر بألمه من نكران الناس، ويحتار كيف يردّ للصديق كرمه ومجازفته، حتى بحياته عندما قدم له الملاذ، لتكون فرصة له، حيث أقامت السفارة العراقية حفل استقبال بذكرى تأسيس حزب البعث، وعلى الرغم أن سامي الجندي كان منسحباً من كلا فرعيه (القوميين في العراق، والقطريين في سوريا)، لكن الجناح العراقي كان يكنّ له الكثير من الاحترام خصوصاً في فترة رئاسة أحمد حسن البكر. أرسل السفير العراقي بطاقة الدعوة للجندي الذي طلب منه بطاقة ثانية للأستاذ نهاد، بعد أن تأكد من حضور السفير الليبي الجوال، وأذكر أن اسمه (سهيل بو غوفة) وهو من أصهار العقيد القذافي، وكان مسؤولاً عن ملف المطبوعات التي تدعمها ليبيا، كمجلة الوحدة، والكفاح العربي، وإصداراتها، وكان الجندي يعرفه جيداً، من خلال أصدقاء فلسطينيين، وللأمانة كان الرجل يجيد عمله.
ترافق الاثنان للحفل، وكما روى لي سامي الجندي إن نهاد قلعي بكى مرتين، الأولى: للحفاوة التي استقبل فيها في الحفل، وللأسلوب الذي تعامل معه (بو غوفة)، حيث وجه لوليد الحسيني (صاحب الكفاح العربي، ومجلة سامر للأطفال التي كان يمولها القذافي) بأن يكلف الأستاذ نهاد بالعمل الذي يريده، ويرتاح إليه.
غادر الاثنان الحفل، حيث أرادا أن يتسامرا قليلاً، وكانت الدمعة الثانية لنهاد قلعي، حين التقيا بعربة لبائع موز، ورغب القلعي فيه، حيث سأل البائع البيروتي: بكم الموز؟ فأجابه البائع: بليرة. أردف القلعي: شوهاد غالي، ردّ البيروتي: يا خيّ هيدا صومالي، ردّ على البائع، وهو يشير بإصبع خنصره: صومالي شو هادا ياباني، قهقه الثلاثة طويلاً، وقال البيروتي، ولو يا أستاذ حسني (ويعني حسني البورظان) معقول أنا آخد منك فرنك، ورفض أن يتقاضى شيئاً، رغم إصرار الاثنين.
_________________________________________
من مقالات العدد الرابع من صحيفة (العربي القديم) تشرين الأول/ أكتوبر 2023
iIlciKBTjTbhcSWCpTShE