العربي الآن

الدفاع الجوي السوري… الحلم الجميل والواقع المرعب

النظام الساقط كان متخلفاً في مجال الذخائر الجوية بشكل لا مثيل له، وهو متأخر عن التقنية المنتشرة في العالم

راني جابر * – العربي القديم

حفزت الضربات الجوية الإسرائيلية مؤخراً الحديث عن حاجة الجمهورية العربية السورية إلى قدرات دفاع جوي؛ وسط إيمان المطالبين بتفعيل أو شراء أو طلب وحدات دفاع جوي (صاروخي) أنه سيكون كافياً وسيصبح الدرع الحامي للوطن من أي اعتداء خارجي.

هذا الطرح يستند إلى تجربة الحرب التي خاضها السوريون لعقد ونصف من الزمن ضد النظام والتي حرم فيها شعبنا من الحصول على أي دفاع جوي فعال، والتي لا علاقة لها في الواقع مع الشكل المحتمل للحرب ضد أي جيش في العالم -خاصة إسرائيل أو أمريكا-؛ وهي مبنية على نوعية التقنيات التي كان يستخدمها النظام بشكل أساسي، وغياب أي اطلاع حقيقي على التقنيات الحديثة التي وصلت في مجال التسليح الجوي في باقي دول العالم، والتي لم يكن النظام يستخدم أي منها.

تخلف شديد!

طوال عقد ونصف استخدم نظام الأسد بشكل أساسي ذخائر وتقنيات قصف جوي تعود بمجملها إلى ما قبل 1990، وهي من أكثر التقنيات تخلفاً في العالم.

حيث اعتمد في معظم الغارات الجوية التي شنها على ذخائر جوية صماء غير موجهة؛ بداية بالقنابل السوفيتية التي تعود تصميماتها إلى الخمسينيات من القرن الماضي، إلى “قنابل القرد” التي صنعها لتكون نسخاً رخيصاً عن هذه القنابل السوفيتية، مروراً بالبراميل المتفجرة والصواريخ الغير موجهة بأنواعها التي استخدمها النظام ضد المدنيين بالدرجة الأولى، وليس ضد أهداف عسكرية.

الملاحظ أن الطائرات في جميع هذه الغارات كانت واضحة للعيان، فأحياناً تقصف من وضع الانقضاض (ميغ 21 ميغ 23 سوخوي 22)، ما يجعلها تصل لمسافات قريبة جداً من الأرض… أو تحوم فوق الأهداف لتقصفها بقنابلها من شاهق (حوامات مي8 مي 25 أو قاذفات سوخوي24 التي كانت أدق ما عند النظام).

نظام ساقط خارج الزمن

النظام الساقط كان متخلفاً في مجال الذخائر الجوية بشكل لا مثيل له في العالم، وهو متأخر عن التقنية المنتشرة في العالم بما يزيد عن 45 عاماً على أقل تقدير.

الذخائر جو-أرض الموجهة موجودة منذ حرب فيتنام، وكانت نسبتها عالية في معظم الغارات التي نفذها الطيران الغربي وحتى الشرقي خلال العقود الخمس الأخيرة، ونفذت الطائرات القاذفة في حرب الخليج الثانية نسبة عالية من الضربات الجوية عالية الفعالية بالقنابل الموجهة بدقة سواء بالليزر أو التوجيه التلفزيوني أو الأقمار الصناعية.

ثم كانت الطفرة بعد حرب الخليج الثالثة وغزو العراق 2003، حيث كانت الطائرات سواء الأمريكية والروسية وغيرها بحاجة إلى اختراق المجال الجوي للدولة والعبور عبر شبكات الدفاع الجوي المعادية للتحليق فوق الهدف أو بجواره لقصفه.

لكن هذا أصبح من الماضي، بل من التاريخ.

 تستطيع اليوم الطائرات قصف الأهداف مستخدمة “قنابل منزلقة” تصل مديات بعضها حتى 150 كيلو متراً، ومعظمها مداه بسهولة يصل حتى 75 كيلومتراً بدون أي اتصال بصري مع الهدف.

وفي نفس السياق تمتلك العديد من الدول تقنيات صواريخ طوافة تطلق من الطائرات بمديات تصل 250 كيلو متر وأكثر.

حتى روسيا التي دخلت هذا المجال فعلياً بعد بداية الحرب الأوكرانية بقنابل تجريبية بمدى حتى 50 كيلومتراً، وبوزن حتى 3 طن!، المخطط لديها الوصول لمديات حتى 150 كيلومتراً قبل نهاية الحرب الأوكرانية.

ما يجعل الطائرات في أمان تام من الدفاع الجوي، والذي لن يكون بمقدوره فعل أي شيء سوى الاشتباك مع القنابل التي تلقيها الطائرات، وهذا ما كان الدفاع الجوي للنظام الساقط يفعله خلال سنوات الحرب، حيث كانت الطائرات الإسرائيلية في معظم الأوقات تنفذ الرمايات على الأهداف من فوق لبنان أو البحر، ونادراً ما كانت تحتاج لاختراق المجال الجوي للقصف.

أي أن العقيدة التي بني عليها الدفاع الجوي الصاروخي المستخدم حالياً في معظم الدول(ومن بينها سوريا) التي تعتمد على الدفاع الجوي الصاروخي أصبحت تقريباً غير كافية للدفاع عن الأهداف الحيوية في الدولة، وأصبحت جميع استراتيجيات الدفاع الجوي والمعارك الجوية السابقة بحاجة لإعادة نظر.

خاصة أن الطائرات أصبحت قادرة على الرمي على الأهداف من خارج حدود الدولة المستهدفة ومن خارج حتى المجال الجوي وبدون الاقتراب منه، وليست بحاجة لمتابعة المقذوف للتأكد من الإصابة أو النتيجة، بل تطلق الذخيرة وتتركها لنظام التوجيه الذي يقودها بدقة للهدف، وهذا الأمر أصبح الميزة الأساسية للحرب في أوكرانيا والتي تتجنب فيه الطائرات تجاوز خطوط التماس إلا ما ندر.

معظم الدفاع الجوي الذي نستطيع الحصول عليه في سوريا هو إما بقايا ما نجا من الدفاع الجوي للنظام السابق ويمكن إعادة تأهيله أو ما قد نحصل عليه من بعض الدول كمساعدة عسكرية.

وهذا بمعظمه سيكون مداه التشغيلي لا يتجاوز 50 كيلو متراً في أحسن الحالات، ما يعني أننا أمام مشكلة كبيرة لا يمكن التعامل معها بنفس العقلية القديمة، والتي تفترض مرور الطائرات في غارتها فوق منطقة تغطية بطاريات الدفاع الجوي الثابتة المسؤولة عن حماية المنطقة.

فلضرب بطارية دفاع ساحلي أو جوي أو ميناء أو سفينة في الميناء أو بناء في مدينة ساحلية أو حدودية سورية أو العاصمة دمشق وحتى حلب أو حمص أو حماة لا يحتاج الطيران الإسرائيلي وغيره للدخول للمجال الجوي السوري، بل يمكن وبسهولة قصفها من فوق البحر المتوسط وبدون تعريض الطائرات لخطر الدفاع الجوي!.

معظم هذه الذخائر موجهة بالأقمار الصناعية وقسم قليل منها موجه بتقنيات أخرى مثل تحليل الصورة أو رادارات التضاريس، ما يجعل دقتها عالية جداً وتبلغ عدة أمتار فقط، أي تستطيع إصابة حظيرة طائرة أو رادار أو سفينة من مسافة 120 كيلومتراً بدون أي مشاكل.

ما يعني أن بطاريات الدفاع الجوي نفسها التي ستنشر في القواعد العسكرية قد تكون عرضة للتدمير؛ قبل أن تدخل الطائرات القاذفة في مدى الرمي المجدي، أو تكون على أطرافه في أحسن الأحوال ولا فائدة عملية من الرمي عليها، و سيكون من الأجدى الرمي على “القنابل” بدل الطائرات التي لن تصاب على هذا المدى!.

عقيدة جديدة.. عقلية جديدة:

الحاجة إلى التعامل مع هذا الوضع خلال أي خطة لإعادة إنشاء القوة الجوية يدفع للتفكير في إعادة ترتيب الاستراتيجية والعقيدة القتالية للقوة الجوية في سوريا، وإعادة الاعتبار وتقييم كل الخيارات الممكنة وكل الحلول الممكنة، بداية بخطط نشر الدفاع الجوي وآلية عمله وعمل المقاتلات الاعتراضية وأسلوب تشغيلها، فهي ستكون الركيزة الحقيقية للدفاع الجوي المقبل.

أربع ركائز:

يعتمد الدفاع الجوي في الجيوش المتقدمة على أربعة ركائز أساسية، هي

  • منظومة الاستطلاع والإنذار المبكر وشبكة القيادة والسيطرة المتصلة بها
  • الطائرات الاعتراضية
  • شبكة البطاريات المضادة للطائرات
  • وحدات الحرب الإلكترونية المرافقة لكل هذه المنظومة.

الدفاع عن الأجواء الإقليمية وإبقاء الدخلاء والتهديدات خارجاً ومنعها من الاختراق هو مهمة المقاتلات الاعتراضية في الواقع، والتي تنفذ عمليات اعتراض الأجسام المشبوهة والاشتباك معها لو أظهرت رغبة في العمل العدائي.

حيث تحصل منظومة الدفاع الجوي على معلومات مفصلة عن أي طائرات تمثل تهديداً للمجال الجوي الوطني من منظومة الإنذار المبكر والتي تسطع الأجواء الوطنية والإقليمية، لتوجه التحذيرات للمطارات القريبة لإطلاق المقاتلات الاعتراضية المجهزة بأسلحة جو-جو لاعتراض الدخلاء ومنعهم من الدخول للمجال الجوي أو الاقتراب منه، أو تكون الطائرات بشكل دوريات متكررة تمسح أطراف المجال الجوي وخاصة وقت التهديدات أو التوتر، وتنفذ اعتراضات للطائرات التي تمثل تهديداً للمجال الجوي الوطني وتجبرها على الابتعاد أو الهبوط في المطارات القريبة للفحص.

ميزة المقاتلات الاعتراضية قدرتها على العمل على مقربة من التهديدات ومدى أسلحتها الطويل والذي يتجاوز بسهولة مدى منظومات الدفاع الجوي، وقدرتها على المناورة وإطلاق النار على أهداف خارج المجال الجوي وتغطية مناطق لا تصلها صواريخ منصات الدفاع الجوي.

في حين تنفذ بطاريات الدفاع الجوي عمليات الإسناد لهذه الطائرات والاشتباك مع الأجسام التي تخترق المجال الجوي وتمنعها من الوصول للأهداف التي تدافع عنها، وحالياً تسقط القنابل والصواريخ الموجهة المتجهة للأهداف الحيوية التي تحميها من مطارات وقواعد عسكرية ومناطق حيوية صناعية أو إدارية ولوجستية.

أما وحدات الحرب الإلكترونية فهي تشوش على الذخائر والطائرات المهاجمة على مستوى وصلات الاتصال والتحكم والتوجيه، والتشويش على منظومات التوجيه العاملة بالاقمار الصناعية، والتي أظهرت الحرب الأوكرانية فاعلية كبيرة لهذه المنظومات في تخفيض فاعلية الذخائر المنزلقة بأنواعها.

أهم فكرة هي استيعاب التغيرات في التقنية العسكرية وأثرها على القدرات الجوية والذخائر الجوية والدفاع الجوي وشبكات الإنذار المبكر الرادارية أمر مصيري عند إعادة بناء الدفاع الجوي في الجمهورية العربية السورية.

فيجب إدماج التقنيات الحديثة وتبنيها وتغيير طريقة استعمال ما يوجد من تقنيات قديمة بهدف الاستفادة منها، والعمل على زيادة النطاق الحيوي للإنذار والتعامل مع التهديدات، وإضافة المزيد من المرونة لعمل الدفاع الجوي والقوات الجوية بشكل عام.

والأهم من كل هذا هو وجود قوة الردع الحازمة التي تضع في ذهن القوة المهاجمة أنها ستتعرض لعقاب شديد جداً على المستوى العسكري والاستراتيجي؛ في حال فكرت في تنفيذ ضربات جوية ضد مصالح الجمهورية العربية السورية، وهذه القوة الرادعة تكون قدرات عسكرية حاسمة مثل الصواريخ الفرط صوتية عالية الدقة أو القدرات الجوية العالية أو قدرات الهجوم بأسراب ضخمة من المسيرات وأشباهها.

إذاً وتلخيصاً لما سبق؛ الدفاع الجوي الصاروخي لوحده لا يكفي، بل نحن بحاجة إلى توافر كافة مكونات منظومة الدفاع الجوي الحقيقية الأربع المذكورة، وإعادة رسم وبناء العقيدة العسكرية التي تحدد شكل وبنية وعمل الدفاع الجوي والقوى الجوية في الجمهورية العربية السورية، وإعادة الاهتمام بتقنيات الحرب الإلكترونية والتصنيع العسكري ككل، ودعم كل هذا بقدرة الردع التي تعتبر الحامي الأساسي لشعبنا.

_________________________________________________________

*باحث وخبير بالتقنية العسكرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى