الدولة السورية الوليدة: إشكاليات الفلول، التشكّل الهيكلي، وإرث الاستبداد
التحدي الأبرز الذي يواجه مسار الدولة الوليدة يتمثل في القدرة على تفكيك شبكات الفلول السياسية والاقتصادية والعسكرية التي وُلدت من رحم الاستبداد

فارس العلي – العربي القديم
إن تجربة التحول السياسي في سوريا تُمثّل نموذجًا مركبًا لتفكيك الاستبداد في سياق عربي وإقليمي بالغ التعقيد. فالإطاحة الرمزية بالرموز السلطوية لم تكن يومًا معادلةً كافية لتأسيس عقد اجتماعي جديد، بقدر ما كانت انفجارًا مكبوتًا للكتلة التاريخية من التصدّعات البنيوية التي راكمها النظام الاستبدادي عبر عقود من السيطرة الشاملة.
وبينما يُنتظر من الدولة الوليدة أن تباشر مهمة البناء السياسي على أسس ديمقراطية وعدلية، فإن الواقع يشي بتداخل معقّد بين مظاهر التفكك المؤسسي، واستمرار شبكات النفوذ القديمة، التي أعادت إنتاج ذاتها بأقنعة جديدة داخل الفضاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فارضةً شروطها على مسار الانتقال، ومعيقةً، في الآن ذاته، ولادة الدولة الدستورية الحديثة.
أولاً: تفكيك الاستبداد… حدود الإطاحة ومآزق التأسيس
لقد بيّنت التجربة السورية، شأنها شأن نماذج تاريخية أخرى كالمجر ورومانيا، أن سقوط الرمز السلطوي لا يتزامن بالضرورة مع انهيار بنى السيطرة المتجذّرة في أجهزة الدولة العميقة. بل إن كثيرًا من هذه الشبكات يعيد التموضع في فضاءات السلطة الجديدة، مستغلًا هشاشة الانتقال وميوعة البنية المؤسساتية، لتثبيت مصالحه ونفوذه ضمن صيغ شكلية من “المدنية الزائفة”.
وبهذا المعنى، فإن الإطاحة الشكلية دون مشروع جذري لإعادة هيكلة السلطة لا تفضي إلا إلى نماذج كاريكاتورية من التحوّل، تفتقر إلى مقومات الفعالية الدستورية، وتُنتج نماذج هجينة تعيد إنتاج منطق القمع والإقصاء بثياب مدنية.
ثانياً: إشكالية الفلول والتكتلات ما بعد السلطوية
إن التحدي الأبرز الذي يواجه مسار الدولة السورية الوليدة يتمثل في قدرة البنى الجديدة على تفكيك شبكات الفلول السياسية والاقتصادية والعسكرية التي وُلدت من رحم الاستبداد. فهذه الشبكات لم تندثر، بل تمكّنت من التحوّل إلى تكتلات مصالح عميقة، تشتبك عضويًا مع قوى محلية وإقليمية، وتعيد إنتاج خطاب السلطة وهيمنة الفئة الواحدة، ولو بوسائل غير عنفية.
ولم يكن انفجار المشهد السوري في الجنوب تحديدًا سوى أحد تجليات هذا الإخفاق الهيكلي، إذ تصارعت قوى الثورة مع تشكيلات عسكرية واقتصادية هجينة، تمارس السلطوية من خارج مظلتها القديمة، وتتنازع على ورثة الدولة من دون مشروع بديل جامع.
ثالثاً: البنية العميقة ومأزق الدولة كفكرة
إن الدولة، كما يعرفها الفكر السياسي المعاصر، ليست مجرد جهاز مؤسساتي أو منظومة قانونية، بل تمثل نسقًا معقدًا من الرموز والسياسات والشرعيات المتداخلة، وهي لا تولد من فراغ، بل من مشروع وطني جامع ينهض على مبادئ العدالة والمواطنة والهوية الجامعة.
وفي الحالة السورية، فإن انعدام مشروع سياسي يتجاوز ثنائية “الضحية والجلاد”، أو “الرمز والسلاح”، قد أفرز فراغًا وجوديًا في تصور الدولة كفكرة. حيث تحوّل الكيان الوطني إلى ساحة مفتوحة لرهانات الخارج، وفضاءً تنازعيًا لمشروعيات محلية متضاربة، أغلبها يفتقر إلى الوعي التأسيسي المطلوب.
رابعاً: الاستعصاء الهيكلي كمأزق بنيوي
لا يمكن لأي مشروع وطني أن يبلغ لحظة التأسيس الحقيقي دون تفكيك شامل للبنى الوسيطة التي شكّلت أعمدة الاستبداد – من الأجهزة الأمنية، إلى البيروقراطيات الطيّعة، إلى الفضاء الرمزي الذي خلق “الزعيم الأبدي” و”الحزب القائد”. وهذه البُنى لا تنهار بسقوط رأس النظام، بل تستمر فاعلة، ولو بأسماء ومسميات جديدة، ما لم تُجتث عبر عملية عدالة انتقالية جذرية، ومؤسسات رقابية مستقلة، ومجتمع سياسي حيّ.
خامساً: الدولة كمنظومة لا كشعار
اللحظة السورية تُملي علينا إعادة تعريف مفهوم الدولة بما يتجاوز الشعارات السياسية والانفعالات الثورية. فالدولة ليست مجرّد واجهة للحكم، بل هي منظومة عقلانية من المؤسسات والمرجعيات والضوابط التي تضمن – لا فقط استمرار النظام – بل عدالته، وتجدّده، وقدرته على احتضان التنوّع وتوزيع الموارد واحتكار العنف المشروع وفقًا لشرعية اجتماعية لا يُنتجها القمع، بل التعاقد السياسي.
ولذلك، فإن غياب هذه المنظومة عن المشهد السوري يبرر هذا الانزلاق المستمر نحو الحروب الأهلية المؤجلة، والانقسامات الطائفية والجهوية، ويؤكد أن نجاح الثورة، لا يُقاس بسقوط النظام فقط، بل بالقدرة على إنتاج بديل وطني جامع، يقدّم سردية جديدة للدولة والمواطنة والهوية.
إن المعضلة السورية لا تختصر في مجرد صراع على السلطة، بل في مأزق بنيوي مركب ناتج عن غياب العقد التأسيسي الذي يدمج مكونات المجتمع كافة ضمن مشروع ديمقراطي تعددي. ولا يمكن اجتراح حل حقيقي دون تفكيك ممنهج للبنى السلطوية القديمة، وتفكيك إرث الاستبداد بأبعاده الرمزية والمؤسسية، واستيعاب التحديات الاجتماعية والاقتصادية في سياق إعادة هندسة الدولة ككيان مدني عادل، لا كساحة لتقاسم الغنائم.
فالدولة السورية الوليدة، إن أرادت النجاة، لا بد أن تُبنى كتصور جديد للعدالة، وكأفق جامع للهوية، لا كتركة مشوهة لنظام لم يكن يومًا مشروعًا وطنيا.