مقامات أمريكية | الباريستا والبليونير
د. حسام عتال
الرجل الواقف أمامي أطول مني بشبر ونصف، جسده أهيف كمن مارس السباحة طول عمره، شعره الأشقر قد انحسر عند صدغيه وتداخل فيه بعض الشيب فبدا بلون الشعير في الحقل (كما في الحقول المحيطة بالبلدة في هذه الأيام الخريفية). قد أرخى قميصه الپولو الأبيض فوق بنطال الجينز، وفي رجليه خفين من قماش بسيط عسلي اللون. وقف دون قلق أو حركات زائدة في الطابور الصباحي، ينتظر دوره لشراء القهوة في مقهى بلدتنا الصغيرة.
عندما وصل دوره سألته الباريستا (الموظفة التي تحضر القهوة بأنواعها) قائلة: “ماذا يمكن أن أقدم لك هذا الصباح؟” العبارة التي ترددها لكل زبون. نظر إلى قائمة المشروبات خلفها “آااا، مممم” أصابعه تداعب ذقنه التي لم يحلقها بعد هذا الصباح.
رفّت الباريستا عينيها مرتين، ورفعت حاجبها الأيمن فبان الخاتم المغروز فيه. الخاتم الآخر كان في منخرها الأيسر، وكأنها أرادت أن توازن ثقل الخاتمين كي لا ينحني رأسها باتجاه واحد. نظرت إليه وبدأت تنقر سطح الطاولة أمامها بأصابعها، في كل اصبع خاتم فضي يحمل حجراً كبيراً بلون مختلف عن جاره. لاشك أن بعض الناظرين إلى الباريستا يتسألون: أين تتموضع بقية الخواتم في جسد هذه الفتاة؟
– ماذا عن لاتيه ساخن مع شراب اللوز… لو سمحت.
زفرت الباريستا مما اضطراباً في خصلة شعرها التي تدلت أمام وجهها، وكأنها فرجاً قد حل عليها بعد محنة لا تحتمل.
- اوكي. قالت بعد أن دارت بجسمها وبدأت بتحضير المشروب، ثم وضعته على الطاولة امامها باتجاه أقرب إليها مما أجبر الرجل على الانحناء لإلتقاط الكوب. بعدها أخرج بطاقة الائتمان البنكية من جيبه الخلفي ووضعه في جهاز الدفع.
– هل تريد التبرع بدولار لأبحاث علاج لوكيميا الأطفال؟
– لما لا.
– هل تريد الفاتورة؟ يداها الآن على جانبي خصرها.
- لا شكرا.
جاء دوري بعد أن خرج الرجل سائراً باتجاه سيارته.
– دكتور عتال، أنت تريد المعتاد، أليس كذلك؟
- بالتأكيد
أشارت برأسها تجاه الرجل الذي فتح باب سيارته الفراري الحمراء قائلة: “لا أطيقه!”
هذا الرجل يملك شركة قيمتها ١٧ بليون دولار. التبادل الصباحي البسيط الذي حصل في المقهى المحلي أضاء اثنتين من مزايا المجتمع الأمريكي.
أولها تتعلق بعمالة الخدمات. خلافاً للدول الأوروبية حيث يقوم بالخدمات موظفون متدربون وحرفيون، وخلافاً لدول الخليج حيث العمالة الأجنبية المهاجرة هي التي تقوم بجّل تلك الأشغال، وخلافاً لدول شرق آسيا وجنوب أمريكا التي تعتمد أساساً الطبقة الفقيرة في تلك الأعمال؛ هنا في أمريكا هناك نقص حاد في اليد العاملة، فيحظى الطلاب (غالباً طلاب الثانوية) بعمل الخدمات في المقاهي والمطاعم وأماكن الترفيه كالسينمات ودور الملاهي والمسابح ونوادي الرياضة. هذه تدفع أجوراً متدنية مما يفسر العادة الأمريكية في إعطاء المستخدمين إكراميات سخية للعامين بها. يقوم الطلاب بهذه الأعمال بغض نظر عن حالة عائلاتهم المادية، فالأهل يبغون أن ينشأ لدى أبنائهم شيء من تقدير قيمة العمل والجهد والمال، ويتوقعون منهم أن يكسبوا مصاريف جيوبهم. هكذا يكسب الأولاد تلك المصاريف، ويستطيعون أيضاً تمويل هواياتهم العديدة، فيشترون سيارات قديمة مثل الموستنج أو الكلمارو، ويصلحون محركها وعلبة غيار السرعة في حديقة بيتهم الخلفية، ثم يطلونها بألوانهم المفضلة بعد إزالة الصدأ عنها لتصبح لعبتهم المفضلة في الشوارع في المساء وأيام العطل. أو يشترون إلكترونياتهم المفضلة ولعب الفديو والساعات الرقمية، أو يبدأون مشروع عمل تجاري أو صناعي في كراجات بيوتهم عسى أن يصلون إلى ما وصل إليه مالكو أمازون أو مايكرسوفت.
ثانيها هي نزعة أغنياء أمريكا للتواضع في ملبسهم، مايسمونه dress down وفي تصرفاتهم وفي طريقة تعاملهم مع غيرهم. من الصعب أن تعرف إن كانت السيدة الذي تلاقيها في إحدى ممرات متجر ما مثل Target هل هي سائقة الشاحنة التي أوصلت علبة الكتب التي اشتريتها الأسبوع الماضي من المتجر الاكتروني، أم أنها الطبيبة الذي أخرجت الحصاة من مرارتك عندما أتتك نوبة المغص منذ شهرين. هذه الطبقات الغنية لها طرائقها المختلفة في إظهار ثروتها، لكنها طرائق يصعب مشاهدتها عياناً في الحياة اليومية.
في واقع الأمر التظاهر والتفاخر بالملبس هو أكثر شيوعاً في الطبقات الأخرى، وينظر إليه بازدراء في كثير من الأماكن وفي معظم الأحيان. في مذكرات ستيڤ جوبز يذكر مرة عندما أتى مرشح لمنصب إداري في شركة آبل وقابله مع مجموعة من كبار مساعديه. أتى الرجل وقد ارتدى قميصاً بأزرار أمامية، وبنطالاً من القماش المكوي، حذاءاً جلدياً لماعاً. لم تطل المقابلة طويلاً وما أن خرج من غرفة المقابلة سأل ستيڤ مساعديه عن انطباعاتهم. بادر أحدهم قائلاً “لا أدري… لا أعتقد أني أستطيع الثقة برجل يلبس قميصاً بأزرار أمامية.” ضجت الغرفة بالضحك وقال ستيڤ “تماما، هذا ماكنت أفكر به.” اختارت المجموعة شخصاً آخر كان قد حضر للمقابلة يرتدي تيشيرت، وشورت كاكي، وصندل من نوع بورن.
اخذت قهوتي وخرجت لمصفّ السيارات لأجد البليونير ينتظر وهو يرتشف قهوته في سيارته الفراري الحمراء (لم أدر قبلها أن الفراري فيها مكان مخصص لكوب القهوة). اعترفت لي الباريستا في يوم لاحق أنها تُسخّن قهوة هذا الرجل كثيراً كي يحترق لسانه. المواجهة بينهما لابد أنها قد احتدت في هذه الأيام السابقة لانتخابات الرئاسة، فخواتم يدها بألوان قزح، أما هو فمعروف بأنه الرجل الأسخى تبرعاً للحزب الجمهوري في أمريكا. المواجهة بينهما تذكرني بفلم ديزني beauty, and the beast رغم أني لا استطيع أن أتخيلهما يرقصان سوياً يوماً ما.