عقدة الرئيس السابق
بقلم: محمد منصور
عشت ثلاثين عاماً تحت حكم حافظ الأسد، ولم أسمع بلقب “الرئيس السوري السابق”، وحين دخلت عامي الثلاثين في سنة توريث الحكم من الأب القائد إلى بشار الأمل، لم تتغير سوى بعض الصور، فالرفاق لم يعترفوا بأن الأب القائد غدا الرئيس السابق، لأنهم أسموه “القائد الخالد”. استمرت روح المرحلة السوداء الكئيبة نفسها: ليس ثمة رئيس سابق على قيد الحياة، يمكن أن يعيش داخل البلد، كما كنت ترى في لبنان المجاور مثلا!
أذكر، وكنت فتىً لا يجتذبه شيء في الدنيا كالكتاب، أنني خلال عودتي إلى بيت جدّي ليلاً، رأيت مجموعة كتب قديمة مرمية في زاوية حارة قديمة، عند مدخل سوق الصوف، حملتها، وأخذت أتصفحها. كان ثمّة كتابٌ عن معرض دمشق الدولي، على صفحته الأولى صورة للرئيس هاشم الأتاسي الذي تمّ في عهده افتتاح المعرض. عندما حملت الكتاب، وذهبت إلى عمتي أسألها: “هذا كان رئيس سورية السابق”، انتفضت كالملسوعة: “لك عمتي بدك تروّح حالك.. رئيس سورية حافظ الأسد. ما في رئيس سابق، لا تخليه هالكتاب بالبيت، برضايا عليك مو ناقصنا”.
أذكر حينها أنّ المخابرات داهمت بيت جدي بحثاً عن ابن عمتي الهارب بتهمة سياسية. يومها تمّ إخفاء كلّ الكتب التي تركها في الدَرَج الخشبي الصاعد إلى القصر، والذي كان في آخره مخزن صغير، لتخزين حطب الشتاء. كانت كتباً مشتبهاً بها، مثل ابن عمتي (مازن)، بينها رواية (كانوا همجاً) لكاتب حمصي اسمه عبد الودود يوسف، قيل إنه اختفى في أحداث الثمانينات، أو قُتل تحت التعذيب. حفظت اسم الرواية؛ لأنني رأيت فيها تعبيراً عن سلوك عناصر المخابرات الذين اقتحموا بيت جدّي، وأثاروا فيه، وفيّ الرعب.
أعود إلى عقدة الطفولة: لماذا ليس هناك رئيسٌ سابقٌ عندنا؟ وقد أثارها لديّ الخبر الرئيس المنشور في الصفحة الأخيرة من (العربي القديم) هذا العدد، حول زيارة الرئيس ناظم القدسي، ولفيف من الوزراء والمسؤولين عام 1962 لبيت الرئيس السابق شكري القوتلي؛ لتناول إفطار رمضان على مائدته، وقيام الصحف بتغطية هذه الزيارة، بل وقيام التلفزيون السوري ببثّ صور عنها في نشرة الأخبار الرئيسية.
الله أكبر!
يعني كان عندنا رئيسٌ سابق؟ وكانت تظهر صوره، مع الرئيس الحالي في التلفزيون؟!
ولمَ العجبُ، فقد ظهر الرئيس السابق هاشم الأتاسي أيضاً مع الرئيس شكري القوتلي عام 1954، بعد فوز الأخير في الانتخابات… وصورة التسلّم والاستلام بينهما موجودةٌ ومنتشرة.
لم يكنِ الحقد الدمويّ، والإجرام الاستئصالي الطائفي قد استشرى في الحياة السورية، ليصبح الرئيس الحالي “وحده لا شريك له”، كما حدث في عهد حافظ الأسد. لن أنسى وجه زميلي الصحفي المخضرم الذي أتى مكفهراً في مربعانية شتاء 1992 إلى مكتب (الكفاح العربي) بدمشق، حيث كنت أعمل: لقد دفن اليوم بصمت الرئيس السابق نور الدين الأتاسي، بعد 22 عاماً قضاها في سجون حافظ الأسد. كان نور الدين الأتاسي مستقيلاً من كل مناصبه، حين قام حافظ الأسد بانقلابه المُسمى “الحركة التصحيحية”، لكن جريمته أنه سيكون “الرئيس السابق”!
من مقالات العدد السابع من مجلة (العربي القديم) كانون الثاني/ يناير 2024