دلالات وقضايا | عيدكم مبارك: في مديح الخواريف والبكاء على بعضها
مهنا بلال الرشيد
عيدكم سعيد ومبارك، وكلُّ عام وأنتم بخير وسعادة، وعساكم من عوَّاده، وبعد معايدتكم هذه العبارات باسم العربيِّ القديم من رئاسة التَّحرير وأقسام التَّحرير والمراجعة والتَّدقيق والإخراج كلِّها نأمل لك أيُّها القارئ الكريم عيدًا غامرًا بالفرح، ومستقبلًا مليئًا بالسَّعادة في الأعياد القادمة، ثمَّ نسهتلُّ قضيَّة مقال هذا اليوم من أيَّام العيد بالحديث عن خواريف العيد؛ للوقوف عند كثير من دلالاتها، ومن أجمل هذه الدِّلالات ارتباط الأضحية بالفداء والتَّطهير ضدَّ الأنانيَّة والدَّنَس، وإن كان الذَّبيح إسماعيل بن إبراهيم عليهما السَّلام كما يؤمن المسلمون، أو إن كان الذَّبيح إسحق بن إبراهيم عليهما السَّلام كما يؤمن اليهود، لا تتأثَّر دلالات الفداء والتَّطهير المستفادة من مغزى سُنَّة الأضحية أو التَّحضحية بالكبش أو خروف العيد؛ فقد امتثل إبراهيم عليه السَّلام لأمر الله-سبحانه وتعالى-وجهَّز سكِّينه، ووضع ابنه على المذبح، وتلَّهُ للجبين؛ ليظهر فجأة كبش الفداء؛ فيذبحه إبراهيم عليه السَّلام، ويفرح بسلامة ابنه، ويوزِّع لحم الكبش المذبوح على الفقراء والمحتاجين، وتتصاعد رائحة الكَباب؛ سيِّد طعام أهل الأرض، وألذُّ ما يُدعى إليه على الولائم، ثمَّ تنتشر رائحة المشاوي في وادٍ غير ذي زرع في مكَّة المكرَّمة، الَّتي ندعو لحجَّاج بيت الله فيها قبول طاعاتهم، وعودتهم إلى أهليهم فرحين مسرورين.
من مديح الفِداء إلى ذمِّ الخَورَفة
الخَوْرَفَةُ مصطلح شاميٌّ معاصر يدلُّ على النَّصب أو الاحتيال، ويشير إلى وقوع الشَّخصٍ المُخَورَف ضحيَّة للخَورَفة أو الخداع؛ فيقول له أهله وأصدقاؤه: (شو يا خورفوك؟!)؛ فيجيبهم: (أي والله تخورفنا)! بعدما يلوم سلامة سريرته أو بساطة تفكيره؛ ليبدو مثل الخروف البسيط المستسلم لمكر المخادع ودهائه؛ ومن هنا قال أكثم بن صيفيٍّ: (حُسْنُ الظَّنِّ وَرْطَة)، وإن كان حُسن الظَّنِّ بين شهامات العصر الجاهليِّ ورطة فلا شكَّ أنَّ حُسْنَ الظَّنِّ في زمن الحُثالات، وأمام من يدعوك إلى حُسنِ الظَّنِ بالنَّاس في وقتنا الرَّاهن هو (خَوْرَفَةٌ من العيار الثَّقيل) حيث لا سموأل ولا هرم بن سنان ولا حارث بن عوف في وقتنا الرَّاهن، والمجد في أيَّامنا للأبواق، لا لأحد غيرها؛ تلك الأبواق الَّتي تجترُّ شعر أجدادنا وثقافتهم على موائد كلِّ لئيم، وتُرائي بقيَمهم على الملأ بعيدًا عن امتثالها في كلِّ محفل، وتقتبض آخر اللَّيل حسابَها من التَّاجر الَّذي يذبح أهليهم بعد تسليم بيوتهم ودعوتهم إلى مصالحة الجلَّاد في منطقة تلو الأخرى.
خَورَفةٌ تُراثيَّة
حدَّثنا بديع الزَّمان الهمذانيُّ في مقامته البغداديَّة عن قصَّة شهيرة من قِصص (الخورفة) في العصر العبَّاسيِّ؛ فقال: (حدَّسنا عيسى بن هشام قال: اشتهيتُ الأزادَ؛ (أي اللَّحم المشويّ)، وأنا ببغداد، وليس معي عقد على نقد، فخرجتُ أنتهز محالَّه؛ (أي أبحث عن مطاعم الشَّواء)، حتَّى أحلَّني الكرخ، فإذا أنا بسواديٍّ يسوق بالجهد حمارَه؛ (أي عثرتُ على رجل فلَّاح من سواد العراق، يقود حماره بصعوبة)؛ ويطرف بالعقد إزاره؛ فقلتُ: ظفرنا والله بصيد، وحيَّاك الله أبا زيد؛ من أين أقبلتَ؟ وأين نزلتَ)؛ ثمَّ يسأل النَّصَّابُ الفلَّاحَ السَّواديَّ عن أبيه؛ ليدَّعي معرفته، ثمَّ يطلب النَّصَّابُ الشِّواءَ والحلوى له وللسَّواديِّ، ثمَّ يهرب النَّصَّابُ (ويخورف) السَّواديَّ قبل دفع الحساب؛ فيدفع السَّواديُّ الحساب مكرهًا؛ وهو يقول: كَم قلتُ لذاك القُريد، أنا أبو عبيد، وهو يقول: أنتَ أبو زيد؛ فأنشدتُ:
أَعْمِل لرزقكَ كلَّ آله لا تقعدنَّ بكلِّ حاله
وانهضْ بكلِّ عظيمةٍ فالمرءُ يعجزُ لا محاله
بُشرى سارَّة
وهنا نبشِّر بديع الزَّمان الهمذانيَّ بأنَّ النَّصَّابين من أحفاد عيسى بن هشام قد احترفوا العمل في الخورفة، وسوقهم شغَّالٌ (على قدم وساق)، لا سيَّما أدعياء الثَّقافة الأكاديميَّة؛ وأعرف واحدًا منهم؛ خرج من سوريا مع بداية الثَّورة، وكان لديه شهادة جامعيَّة غير معترف بها (بالشَّريعة والأدب العربيِّ معًا)؛ حصل عليها من دكَّان من دكاكين الشَّهادات في دمشق، كان تابعًا لمعمَّر القذَّافيِّ قبل موته، وبعد هجرته بقليل، راح يدرِّسُ في الجامعة، وحصل على الماجستير، وأيَّام الكورونا حصل على الدُّكتوراه (أونلاين)، وناقشها (أونلاين) أيضًا، وراح ينظِّم المؤتمرات عن كلِّ شيء، وبدأ يتحدَّث أيضًا في كلِّ محفلٍ عن كلِّ شيء؛ في التَّفسير والتَّأويل والدَّلالة واللِّسانيَّات وتعليم العربيَّة والحديث الشَّريف والتَّاريخ السِّياسيِّ والتَّعافي المبكِّر والازدهار الاقتصاديِّ، وكنتُ قد نصحتُه-ثمَّ ندمتُ على نصيحتي-في وقت سابق؛ لأنَّني أعرف صعوبة الإلمام باختصاص واحد من كلِّ أطرافه في زمن الاستقرار، ولأنَّني لم أكن أعرف معنى (ضاعت الطَّاسة) في مرحلة من مراحل الثَّورة قلت له: لا تركض خَلْفَ خروفين! سيضيع منك الاثنان! لكنَّني الآن عندما أُشاهد رواجَ المحتالين أحزن لحال سوريا وحال مستقبلها؛ ولا أرى في الأفق القريب أيَّ ملمحٍ من ملامح تعافيها، ولا أعرف من يُخورف مَن بمثل هذا الكلام في وقتنا الرَاهن؟!
المِرْياع
المِرياعُ خروفٌ لا يصلح لأن يكون أُضحية يوم العيد بحسب شروط الفقهاء، ولا يُغرَّنَّك جمال شكله ودناديشه الكثيرة مثل أوسمة مصطفى طلاس! ولا تغرَّنَّكَ ضخامة جثَّته؛ لأنَّ الفُحولة وسلامة الجسد في الأضحية شرط من شروط قبولها؛ أمَّا المرياع والمراييع المدندشة بالألقاب والأجراس والشَّهادات في وقتنا الرَّاهن لا تُحقِّق هذه الشُّروط؛ فاختلالها العقليُّ ظاهر، وسُمنها دليل على خِصائها، وبعضها تهزلُ جدًّا بعد الخِصاء، والرَّاعي أدرى أهل الأرض بها أو بقصَّة خِصائها؛ ففي موسم الرَّبيع ينتظر الرَّاعي ولادة أوَّل خروف ذَكَرٍ بين القطيع؛ ليجعله مرياعًا، فالفطيمة أو أنثى الغنم العَواس الصَّغيرة لا تصلح أن تكون مرياعًا؛ لأنَّ الإناث عاطفيَّات عمومًا، وقد يخدعها خَروفٌ مخاتل بشهادته المزوَّرة أو لقب الدُّكتور في حضرة مسِّيحة الجوخ في المستقبل؛ فتضيع ويضيع خلفَها القطيع!
ضحك الرَّاعي عند ولادة أوَّل خروف من سُلالة النَّعجة (دولِّي المهجَّنة أو المدجَّنة، وقد وظَّف صديقنا ماهر شرف الدِّين اسم النَّعجة في كثير من بودكاستاته)، ثمَّ حمل الرَّاعي الخروفَ الوليد، وأخرجَ من جيبه سكِّينًا حادَّة صنعها له شيخُ القُرباط في أرض الغَجَرِ، وبالسِّكِّين انتزع خِصيتي الخروف، وقضى على فحولته، وأرضعه كثيرًا من لَبَأِ الأغنام؛ ووضع له في الخُرجِ على ظَهرِ الحمار شعيرًا دقيقًا وعلبة حليب فاخر؛ ليستخدمها عند الثُّغاء والإنشاد أو قبل تسجيل البودكاست، وصار الرَّاعي يُلقي للخصيِّ السَّمين شعيرًا من هنا، وخُبزًا يابسًا من هناك؛ فشبَّ الخروف مولعًا بالثُّغاء والإنشاد وفُتات الموائد، وصارت جثَّتُه عظيمة، ونما له صوف أبيض طويل وجميل، وحافظ على مكانه أو مكانته بالقُرب من الرَّاعي ومسِّيحة الجوخ خَلْفَ الخُرج والحمار برغم انشغال القطيع بالتَّزاوج مرَّة وبالعُشب الأخضر مرَّات آخر، وعندما أيقن الرَّاعي من تنشئة خروفه وفقًا لخطَّته الدَّقيقة، ربط له جرسًا في رقبته، وامتطى حماره، وأخرج هاتفه الجوَّال من الخُرج، وراح يُتابع بودكاستات الثُّغاء والبكاء تماشيًا مع الزَّخم الحضاريِّ، وأومأ لمرياعه، ونكز الحمار بسوطه؛ فمشى الحمار، وركض المرياع خلفهم، وارتفعت ترنيمة الجرس المدلَّى في رقبة الخروف معلنًا نهاية حصَّة الرَّعي وموسم التَّزاوج؛ فانتظم القطيع خلف الحمار والرَّاعي والمرياع، وعبروا نحو المجهول!
المقامة الخروفيَّة
حدَّثني صديق من الطَّبقة الوسطى في أرض السَّواد، ذو خبرة بسجايا الخِراف والطَّبقات الرَّثَّة في أطراف البلاد، قال: سينقم عليك مع الذِّئب الرَّاعي وبجنبه كلُّ خروف، وستكسب عداء الخِرفان بالألوف، سيقولون: اتركنا نمرح مع الرَّاعي! في الأرض سهلٌ خصبٌّ ومراعي! فقلت: لا شيء جديد علينا وعلى المتنبِّي في هذا العيد! ستُمضي الظَّعينة والخِرافُ السَّمينة حياتَها مسرورة؛ لا تخشى شيئًا غير الذَّئبِ، الَّذي امتدحت العرب شهامته وصراحته؛ وفي نهاية المطاف سوف يذبحها الرَّاعي بعد الاستماع لأشعار التَّطبيل والبودكاست على صهوة الرائي؛ احفظوا كلام أكثم بن صيفي جيِّدًا! ولا تسمحوا للرِّاعي وغُلمانه أن يخورفوكم من جديد بعد حديثهم عن حُسن الظَّنِّ في هذا العيد!
وآمل لكم أن تستمتعوا بلحوم الخِرفان والخواريف، في جوٍّ غير هذا نظيف، وكلُّ عام وأنتم بخير!