من جديد لا حل سوى الشعب يريد..
محمد زاهر حمودة – العربي القديم
منذ أن نشأت السياسة، وبالذات منذ أن وُلدت جماعات الحكم السياسية عبر التاريخ وحتى هذه اللحظة التاريخية القاتمة التي نعيشها، ما اتسمت طبيعة تلك القوى بشيء أكثر من الأنانية والإنتهازية. كانت عنيدة كالحجارة الصماء وما تزال منافقة ومراوغة بشكل سرمدي، مرحلة الخلافة الراشدة في منطقتنا استثناء تاريخي يؤكد القاعدة ولا ينفيها، القاعدة هي أن فِرقَ الحكم قاطبة لم تكن عبر تاريخها في وارد التواضع لأحدٍ أدنى منها والرأفة بحاله، إن تجاوزنا المديح المأجور للحكام والنفاق والأساطير الموضوعة، فإن التاريخ لم يذكر لنا في غالب صفحاته أن أحداً من الساسة رقَّ قلبه يوماً لمآسي الناس البسطاء فتنازل عن بعض غيّه وعناده لأجلهم، ترك حرباً ما لأجل إيقاف سقوط الضحايا، أو ترك النهب والبذخ والإسراف لأجل أن يتنعم فقراء الناس، أبداً..
“لا تصالح”، شعار كل المراحل..
هل كان أحدٌ يصالح أحداً إلا بعد سقوط آلاف القتلى ودنو السيف من رقبته؟!
تُعد العاطفية نقيصة لدى القادة، والقسوة شرط الحكم الأول. كل مطالب الرحمة من الضعفاء كانت مردودة، فالآذان صماء والعيون عوراء، والاغترار بمهارات الدجل وبيع الأوهام تبلغ عنان السماء. يعشق الرجل الواحد من أهل السياسة حصد المغانم بأشكالها وألوانها المادية والمعنوية بلا حد، لا يعطون أي شيءٍ لأحدٍ إلا بثمن، فإن لم يكن من وجودٍ للمكاسب فعلى الأقل ينبغي ألا يستفيد الخصوم، لا هدايا لديهم، يقولون..”إننا لسنا جمعية خيرية”، هذا ما تسمعه دائماً كحجة، إن تسأل لماذا لم تقبلوا باقتراح كذا؟!، فسيأتيك الجواب المعتاد على الألسن..”كي لا يستفيد الخصوم”!.
حسناً، فكي لا يستفيد الخصوم، لا بأس أن يصل هذا الأداء السياسي المغرور بالبلاد والعباد والأرزاق إلى حالة انسداد الأفق وانعدام الحلول. لا مشكلة، ومن ثم فلتنفجر الأوضاع، ولنتندلع الحروب ولتتوسع ولتتشظى، فمهما توسع الموت وانتشر الجحيم، فلن يتراجع أي فريق عن غيّه، تُرسَل البعثات الدبلوماسية للتفاوض، يستعرض كل طرف مهاراته في ادعاء المظلومية والتشاطر والمراوغة، ثم لِتفشل المفاوضات، ولتُرفَض المبادرات، وليستمر التدهور هكذا نحو هاوية بلا قاع، كما يحصل معنا هذه الأيام.
بعد صيام طويل ثار الجيل.
قامت ثورات الربيع العربي المجيدة بعد صبر طويل على مرواغات وأكاذيب وحجج الجماعات الحاكمة ووعودها المخادعة الزائفة، فمن يأمر بالصيام عليه أن يحدد موعداً للإفطار، اكتشفت الشعوب بعامتها قبل نخبها المنتفعة البليدة زيف وسرابية تلك الحجج والوعود، وبالأخص منهم فئة الشباب. شيئاً فشيئاً قاموا يضربون كل جُدران الخوف حتى أحدثوا فيها خرقاً جسيماً وراحوا ينادون من خلاله ولأول مرة في تاريخهم. “الشعب يريد اسقاط النظام”، يالروعتها من جملة تقشعر لها الأبدان. نعم إن الشعب يريد، ليس فقط الآن ولكن منذ الأزل، فالشعوب بشر، والبشر يريدون، ولئن صبروا فإن لصبرهم حدود، ولئن مرروا الكذبة تلو الأخرى مراتٍ ومرات فهذا لا يعني أنهم أعطوا رخصةً أبدية للكذب والمراوغة، خاصة عندما تطالهم ومباشرةً الآثار القبيحة القذرة لذلك الخداع والتسويف، هم وحدهم وليس غيرهم من يتضررون من الكذب والعدوان والنهب حاضراً ومستقبلاً فضلاً عن تضرر آبائهم وأجدادهم ماضياً، فكيف لا ينتفضون؟!.
ثارت الشعوب العربية بشبابها، فماذا كان؟!
استوعب الدجالون الصدمة. اتبعوا مكراً جديداً بأن أظهروا للشعب الثائر تفهّماً مخادعاً لمطالبه، “نعم أنا فهمتكم”، فأزاحوا الرؤساء القدماء الذين لم يكونوا سوى واجهة للفساد البنيوي، بعد أن امتلأت خزائنهم ونالوا غاية آمالهم العريضة المريضة، قبلوا تنحيتهم على أن يأتي من بعدهم غيرهم، ولكن بشرط أن يكمل على ذات النهج، تلك النية المبيتة كانت حاضرة منذ ما قبل إعلانات التنحي، أرادوا مهلةً ريثما يتجهزون للقادم ويشحّمون ماكينتهم الإستبدادية الصدأة، كان عنوان الفخ والخديعة مُختزلاً في عبارة: “المرحلة الانتقالية”، تلك المرحلة الانتقالية لم تكن سوى هدنة لالتقاط الأنفاس وترتيب الأوراق ريثما تحين اللحظة المناسبة للقيام بالهجوم المضاد أو..”الثورة المضادة”.
خلالها لتلك المرحلة أرخوا الحبل قليلاً لتيارات معارضةٍ مختارةٍ بعناية، تمثل نحس هذه الأمة الأسود، هي التي لا تقل جشعاً وانغلاقاً عن الحاكمين، بل تفوق بعيوبها النادرة العجيبة عيوب تلك الأنظمة القمعية الفاسدة، تشعر أن جميعهم غرباء عنك بعيدون كل البعد عن أفراحك وأحزانك وأحلامك، تتعاطف أنت مع اضطهادهم، لكن هل ستجد منهم من يكترث لمصابك وكفاحك أكثر من تعصبه لإديولوجيته؟! ثم كيف يتعاطون مع بعضهم البعض؟!
دائماً كانوا عاجزين عن التلاقي بقلبٍ سليم، حول مشتركات يتفاهمون عليها بصدق وشفافية وإنكار للذات، لصالح مستقبل الناس والبلاد. كل أوراق تفاهماتهم واجتماعات قياداتهم فشلت، فلقد كانت منذ لحظة كتابتها غير محل ثقة من كوادرهم، حتى عندما يكونون في السجون أو المنافي، تجد سمة التنافس والتنازع والمكائد والمكر فيما بينهم واضحة جلية، تشاحن لا ينتهي، تتلاقى كوادرهم القيادية مرة بعد أخرى لأخذ الصور المشتركة المنافقة، وتبقى قواعدهم متنافرة إلى أقصى حد، لا يثق أحدهم بالآخر حتى لو كان فيما بين الإثنين صلة قرابة، يتطرف هذا ذات اليمين فيتطرف ذاك ذات الشمال! ولا اطمئنان من أحدهم للآخر طيلة العمر فكلٌّ منهم يرى في الآخر كابوسه!، ولذلك فقط نستطيع أن نفهم كيف كانت تنجح الدكتاتوريات الفردية في نيل الإعجاب لقدرتها على احتواء التناقضات الحزبية، ويُمدح مكرها وهي تمسك بالخيوط وتتلاعب بهم، فمرة تضطهد فريقاً أكثر من الثاني وترخي الحبل لفئة ثالثة وتارة أخرى تلعبها بالعكس، وهكذا كسبت ولو على مضض مديح بعض العموم من الناس من باب الإعتراف بالوقائع، فهي بحق قادرة على حفظ الإستقرار واحتواء المخاوف بين طوائف المختلفين عقائدياً، الإختلاف العقائدي الذي دائماً ما كانت تستثمر فيه الجماعات المعارضة بكل غباء وتخسر بسببه مرة بعد مرة بلا استخلاص للعبر أبداً، لا بل إن أكثر ما يدهشك هو التشبث المتضاعف بعد كل فشل بالمبررات الحمقاء ذاتها والعناد المجنون أكثر فأكثر بلا نهاية.
كان ذلك هو المكر المُدبّر
عينه في السنة الأولى لكل بلاد الثورات…إلا في سورية. فقد كان الخيار في سورية هو الذهاب فوراً إلا ما يحبه المستعمرون ويفضلونه بمنتهى الشغف، أي إلى الحرب الأهلية واقتسام النفوذ على الأراضي المحتلة ونهب خيراتها وإخراج أهلها منها واستعمال الساحة السورية كمرحاض تغوط كبير مباح للكل، أو بعبارة ألطف كمكب قمامات سياسية قذرة، كلٌّ يجلب ما يريد إبعاده وحرقه من قمامةِ أزماته الداخلية المزمنة ويرمي أكياسه المنتنة في هذا المكب المُتفق عليه، في وطنٍ للشعب السوري لا يملكون سواه، أراد لأجله الثائرون أقصى ما يُراد من المُحب لحبيبه من آمالٍ وطموحاتٍ مخلصةٍ راقية صادقةٍ محقة، ولكن رفض الأشرار مطالب الأخيار، اُستدعي الإرهاب المُصنّع استخبراتياً بكل أشكاله إلى هذه الأرض التي جُعلت مكبّاً فلوثته بالسموم والقذارة، وأُخرج اللصوص من السجون، وأُطلق للبرابرة والجهلة والمرضى العنان، حمل الجميع السلاح وأُعطي رخصة الإجرام المباح من كل أجهزة المخابرات العاملة على أرض “سورية الأسد”، واستمال كل محتلٍ طرفاً من الأطراف، ثم نال كل محتل حصته من أرض الوطن، الغالي بالنسبة للأوفياء الصادقين، الرخيص والمُباع بالنسبة للساسة الملاعين..
بعد أن نجح مكر الأبالسة وانزلقت سورية نحو الحرب برفض مطالب المظاهرات السلمية التي دامت ستة أشهر، راق مشروع الحرب الأهلية أكثر فأكثر لأعداء المنطقة، فدعموا إشعال الحرائق في اليمن، والعراق، وليبيا، ومؤخراً السودان، ثم راق لهم أكثر إشعال حروبٍ إقليمية، قفزت إسرائيل وإيران إلى الميدان، فأحرقا غزة ومن ثم لبنان..
ثم ماذا؟!
في قانون الصراعات، بقدر ما لديك من قوة، بقدر ما تنشد من نتائج، ليس لك وأنت لا تستطيع طيلة قرن كامل تصنيع محرك أو جهاز اتصال أو آلة طبيّة أو دواء فعّال لمرضٍ مزمن، أن ترجو القضاء على الإستعمار مثلاً وأن تكسر هيمنة القوى الكبرى أو أن تهزم إسرائيل!، نحن صفر على الشمال ليس فقط في مسألة نظام الحكم، نحن أولاً صفر على الشمال في ميادين علوم الفيزياء التطبيقية والكيمياء والطاقة والإلكترون والإتصال وكل ما يتعلق بالتصنيع المتقدم، ذاك فضلاً عن تخلفنا الفكري في الفقه والفلسفة والحقوق، في المجمل لم تنتج جامعاتنا شيئاً ذا بال، نحن الأسوأ في العدالة، في الدين لدينا كليات الشريعة لا تزيد الطين إلا بلة حتى تكاد تقول ليتها ما كانت، فلماذا لا يتآمر عليك الغرب والشرق، سيُعد أحمقاً في تاريخ السياسة ذلك العدو الذي لا يستغل ضعفك ويتآمر للإمعان في إذلالك وإعدام حاضرك ومستقبلك، سيما وهو الإستعماري بطبيعته..
مشهد قاتم: ماذا أبقيت لنا؟!
الربيع العربي لم يكن مجرد مظاهرات لإسقاط دكتاتورٍ واحد، بل كان انتفاضة شاملة على ذلك الوهن والانحدار، زلزل أركان العالم وشوّش حسابات القوى الخمس الكبرى المحتكرة للفيتو في مجلس الأمن، وجعل القاصي والداني يسمع بخبرنا ويتجهز للتعامل معنا فيما لو انتصرنا في معركة التغيير، وبالتالي فإن هذا الشعب المنتفض هو مصدر قوتنا الأساسي بل والوحيد حتى الآن على الأقل، فيما يكمن ضعفنا أساساً في انحطاط المعارضين المؤدلجين وغبائهم وقصورهم المشين، ليس بمثل هؤلاء تُبلغ غايات الشعوب الحرة، أبداً، ليس الديني المتذمت المراوغ وليس الملحد الناقم المهووس وليس القومجي الشعاراتي الفاشي ممن يُرجى من أمثالهم أي خير، وليس كل المغرورين بأنفسهم من عسكرٍ متكبرين أو رجال أعمالٍ إنتهازيين أو فنانين نرجسيين من يُرتجى بهم إيصال هذا الشعب المسكين إلى بر الأمان، على الإطلاق، الأنانيون يهجمون وقت الغنائم فقط ويتراجعون وقت القلّة والشدة، في نفوسهم كِبرٌ ما هم ببالغيه، فهل سنبقى ننتظر من أمثال هؤلاء شيء؟!، فضلاً عن إنتظار التوبة ووخزة الضمير من أهل وحلفاء السلطة بعد كل ما أظهروه لنا من عمالة ووضاعة وإجرام فاق الخيال..
نحتاج ببساطة أن ننفض أيدينا من إنتظار الأوهام.
نحن أمة حيّة ولّادة، من أنجب تلك النخبة وشهد خيباتها وفشلها هو لا شك قادرٌ على أن ينجب بدلاً عنها آلاف النخب الواعية والوفيّة، فقط علينا إنهاء التعويل على مالا يُرجى منه، تماماً كما قطعنا الأمل في الألفين وأحد عشر من التعويل على الأنظمة حين ذاك، نحن بحاجة أن نعود فلا نترك شعارنا الملهم الأخاذ.. “الشعب يريد”، إي نعم إن الشعب يريد، وهو الآن بات يعرف أكثر ماذا يريد، علينا أن نكمل مشوار معركتنا بأسلوب جديد، حالنا حال من قد خاض مرحلةً أولى من نضاله جرب فيها ما جرب وتعلم من دروسها جيداً، نحتاج إلى تطوير أهدافنا بل وإلى التفصيل فيها أمام الملأ وبكل جرأة، فليسمع السامعون..
الشعب يريد عدالة ناجزة، يريد فرص عمل لكل أبنائه، يريد سلاماً متيناً بين كل الأديان والمذاهب، يريد أماناً وطمأنينة مستدامين، يريد تعليماً نوعياً وجامعات منتجة تحدث فرقاً، يريد جيوشاً مخلصة من الشعب وإليه، تحمي وجوده ليستمتع بخيرات وطنه وتمنع تهجيره، نريد إعلاماً ودراما تكون لنا نحن، مستقلّةً في تمويلها عن أي خارجٍ متلاعب، تحمل همومنا وتعمل لأجلنا وحدنا، وتتمول من جيوبنا. ثرواتنا لنا، عقول شبابنا الأذكياء لنا، اقتصادنا بيدنا، محاكمنا لأجلنا، رجال أمننا لنا، شيوخ طوائفنا خاضعون لشروطنا، سنحيا ونحب ونزرع ونصنع وننتج ونزدهر، سنفرض سلاماً ونحاسب كل من أجرم بحقنا في محاكمنا نحن، بقُضاتنا نحن.
نعم عودوا إلى الطموح والمطالب، إن الشعب يريد، وإن الشعب سيريد ويريد ويريد..
ولن يتغير بنا حالٌ مادمنا ننتظر ممن يخون سلاما..
كل الخونة شركاءٌ فلا يُرجى من العصابات سوى الإجراما..
فلنعد ولنحذر أن يصطاد أحدٌ في بحر أهدافنا فيحرّف ويخوّف ويخوّن ويؤثّم..
فلننادِ جميعاً بما نريد بوضوح وتفصيل، ومن جديد..
الشعب يريد إنهاء الفقر والإجرام..
الشعب يريد إسقاط الظلام..
الشعب يريد عدالة وسلام..
الشعب يريد حرية واستقلالاً وأمانا.