الرأي العام

نوافذ الاثنين: الوجاهة والوجهاء

الوجاهة والوجهاء هي مصطلحات عربية بامتياز، نستخدمها لوصف الأشخاص الذين يتمتعون بمكانة اجتماعية وسياسية مرموقة في المجتمع. أي أن ”الوجاهة“ تشير إلى الشخصية المرموقة في المجتمع، بينما يشير مصطلح ”الوجهاء“ إلى الأشخاص الذين يتمتعون بنفوذ في المجتمع ولهم تأثير كبير على القرارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

ومصطلحات الوجاهة والوجهاء لها تاريخ طويل في الثقافة العربية وتعكس نظاماً اجتماعياً يقوم على الهرمية والتبعية للشخصيات القوية والمؤثرة.

وفي هذا السياق سأحكي قصة صغيرة حدثت في مونتريال بين سوريين وكنت شخصياً طرفاً فيها؛ سأورد القصة؛ لأنها ما زالت تتكرر في حياتنا السورية رغم أنه من المفروض أن الثورة قد حطمت هذه الُبنى كلياً أو جزئياً، ولكن مع الأسف ما تزال موجودة وبقوة، ونظرة سريعة على ما جرى خلال ١٢ عاماً، ويجري كل يوم، تثبت أننا ما نزال ”رعية“ أو ”أزلاماً“ أو ”أبناء طوائف“ أو ”أبناء قبائل“، ولم نستطع بناء هوية وطنية سورية.

بعد الأحداث الدموية في سورية التي توجها ”نظام القتل الأسدي“ بمذبحة حماه ١٩٨٢، زاد عدد المهاجرين السوريين إلى الغرب، وكانت الأبواب الكندية مفتوحة لمن معه مال، بالإضافة إلى اللاجئين الذي فروا من الموت الأسدي، وكنت أحد هؤلاء، ففي عام ١٩٨٩ خرجت من السجن، بعد وشاية مخبر أو مخبرين يعملون في تجارة الكتاب، ووصلت إلى كندا، فُمنحت حق اللجوء، وانخرطت بسرعة في الأوساط السورية، ورأيت الترجمة العملية لسياسيات حافظ الأسد في المجتمع السوري، وهالني حجم وعمق التفتت بين السوريين، وبسرعة تكونت مجموعة سورية مؤلفة من عشرين شخصاً تقريباً، تجتمع أسبوعياً، في بيت أحدنا لمناقشة تأسيس جميعة تعمل على توفير مقر يجمع بعض السوريين، ثم تَطَوَّرَ الأمرُ واتسع ليشمل كل من يتكلم العربية، فكان ”النادي الكندي-العربي“، الذي ضم أكثر من ٣٠٠ عضو، أغلبهم من السوريين.

استُؤْجِرَ مقر جميل وكبير، وكانت المشكلة في فرشه وتأمين أجرته الشهرية. تواصلنا مع عدد كبير من السوريين، وتوجهنا لمن هاجر أو هرب من سورية مع ثروته، ولمن أسس عملاً في مونتريال وجمع ثروة، وحاولنا فلم ننجح. الشيء الذي نتج عن حركتنا أن آخرين من هؤلاء الذين يسمون أنفسهم ”وجهاء“ قد حاولوا التشكيك بنوايانا، فنحن فقراء وجدد في كندا و”نَوَرٌ“، وفي الوقت الذي كنا نتقدم فيه في تجهيز مقرنا، فشلوا هم في الاتفاق على الحد الأدنى لتكوين مؤسسة اجتماعية، وحدث ما لا بدّ أن يحدث؛ تسرب بعد الأشخاص من طرفهم وادعوا أنهم مع رؤيتنا لدور المؤسسة، وتسرب بعض الناس من عندنا إلى طرفهم أملاً بمغانم وهمية.

دون الدخول في تفاصيل كثيرة، كان أحد الأثرياء، وهو ديبلوماسي سابق، يواصل الاتصال بي، مقدماً النصائح على كيفية جمع التبرعات لشراء أثاث ”فاخر“ للنادي يليق ”بالوجهاء والأسر المحترمة“، وكنت طويل البال معه، محاولاً دفعه للتقدم خطوة باتجاه استقطاب سوريين أثرياء، أو مهاجرين قدماء، ولكن استمر في الوقوف عند نقطة واحدة، هي ضرورة إشراك ”الوجهاء“ في الهيئة الإدارية للنادي. وبعد أن فهمت أن النادي سيتشرف بانضمام هؤلاء الوجهاء إليه دون أن يقدموا أي مساهمة مادية أو عملية، قررت تفجير الموقف معه، وفي آخر اتصال هاتفي بيننا، أعاد ذكر ضرورة وجود الوجهاء في الإدارة، فسألته:

من هم الوجهاء يا أستاذ؟

قال: ولو، هم الوجهاء.

قلت: يا أستاذ، مصطلح وجهاء غامض جداً بالنسبة لي، هل لك أن تصف لي وجيهاً، أو تذكر لي أحدهم؟

قال غاضباً: كل الناس تعرف من هم الوجهاء، إلا أنت.

قلت له: سأسّهل الأمر عليك، هل هم الأثرياء مثلاً، الذين سمح لهم حافظ الأسد بسرقة بلدهم والهرب بأموالهم؟ هل هؤلاء وجهاء؟ هل أصبحوا وجهاء علينا لأن رصيدهم المالي في البنوك كبير؟

أنا شخصيا أقبل أن يكونوا وجهاء لي، إذا استخدموا بعض مالهم ”السوري“ في خدمة الجالية السورية، في مساعدة اللاجئين السوريين، في تأمين عمل للسوريين الجدد، في تقديم بعض الإرشادات لهم، إذا كان أحدهم قادراً على القيام بأي مساعدة، من هذه الأنواع لنا كسوريين، فأنا مستعد أن أُتَوِّجَهُ ”وجيهاً“ لي، بل أضعه على رأسي، ولكن لن أسمح لكائن كان أن يركب على ظهري؛ لأن حسابه المصرفي كبير، أو لأنه يرتدي جبّة أو يطلق لحيته أو يضع قلنسوة على رأسه، أو لأنه ابن زعيم عشيرة أو ابن طائفة أو ابن عائلة!!!

الوجيه، يا سيدي، هو من يخدم شعبه، ولخدمة الشعب السوري أشكال كثيرة.

الخلاصة، لقد تفتتنا وتقاتلنا، كما تفتت الثورة السورية، وأصبحت ”زعاماتها“ أو ”وجهائها“ يُفرضون علينا ”بالصرماية“ كما فُرض علينا آل الأسد!

مونتريال في ١٦-٩-٢٠٢٣

زر الذهاب إلى الأعلى