أرشيف المجلة الشهرية

حكايتي إذ كنت في مدرسة أورينت

عبد القادر لهيب – العربي القديم

لكم أن تتخيلوا فتًى لم تنبت لحيته بعد، يَتَسَمَّر أمام الشاشة، ليتابع بشغف تفاصيل ثورة تنقلها شاشات الهواتف الصغيرة، ينتظر بلهفة أن يسمع صوته في مظاهرة مسائية بصورة مهترئة، قبل أن يبدد صوته الحاد سكون الترقّب من خلف الجوال: “معرة النعمان مظاهرة ليلية نصرة لأهالي درعا ١٦-٠٥-٢٠١١ يوم الإثنين”، ومن هنا ولد الحلم.

مع حلول الذكرى السنوية الأولى لإغلاق قناة أورينت، شرّفني الأستاذ الصحفي محمد منصور مؤسس مجلة وموقع العربي القديم ورئيس التحرير، بالحديث عن مشاركتي المتواضعة في القناة التي ملكت قلوب الكثير من السوريين، وواكبت الساحة السورية قبل الثورة وإبانها وبعدها، وكانت مع السوريين بحراكهم وثورتهم وحربهم وتشتتهم ونزوحهم، ورافقتهم في غابات اللجوء، وتقلبات موجات بحر الهرب بحثاً عن الحياة، فكان لا بدّ من الحديث قليلاً عن هذا الإرث الإعلامي السوري.

لم تكن البداية وردية كما أي خطوات أولى، بل متعثرة يملؤها الكثير من المطبات والمصاعب التي كانت تعيد صقل شخصية ذلك الفتى الذي خطّ شاربه حديثاً، وبات يحمل بدلاً من هاتف النوكيا القديم، معدّات تصوير بينها كاميرات بدلاً من الواحدة التي حملها، ليوثق قصف معرة النعمان بعد تحريرها نهاية عام 2012، ليسير الوقت بعجلة حتى لحظة الخروج من سوريا شهر تشرين الأول / أكتوبر 2016، لأوثّق بعضاً من تلك المرحلة في شهادتي على الثورة ضمن “الذاكرة السورية” لصالح المركز العربي للأبحاث.

كان من الصعب عليَّ بعد تأقلمي على العمل في إذاعة وطن إف إم، وخسارة زملائي في العمل الذي بدأ تدريجياً من نيسان 2019، حتى بقيت وحيداً بعد وباء كورونا الذي تسلل لتركيا في 11 آذار 2020، لأكون مسؤولاً عن الأخبار وإنتاج النشرات والتقارير الصوتية وإخراجهم على الهواء مباشرة، أن أترك المكان الأول الذي بنى شخصيتي الإعلامية، عقب طلب زملائي الانضمام إليهم في قناة أورينت، لأبقى معلّقاً من تشرين الثاني / نوفمبر 2020 حتى اتخاذ القرار في حزيران / يونيو 2021، كثيرة هي الأسباب التي أخّرت التحاقي بأورينت، منها الخوف من هذا الحلم الكبير الذي لم تتسع له رؤيتي، والتصنيف الذي أرفض دائماً تحجيمي فيه، ولعلّ الكلام في هذا السياق يطول.

خطواتي الأولى في أورينت

كان الهدف من انتقالي لأورينت، هو الانضمام إلى فريق “راديو أورينت”، الذي كان يضم الزميلين قصي عمامة وديما شلّار، لأبدأ رسم ملامح عملي الذي أحبّ، الغوص بالأخبار، ونقل معاناة المظلومين.

استمر عملي في قسم “الراديو”، عبر صفحتنا الخاصة في فيسبوك، حتى اختياري لإجراء اختبار النشرات الإخبارية في الشهرين الأخيرين من عام 2021، كنت أخجل من الكاميرا والإضاءة وقيادة رئيس غرفة الأخبار والمخرج لمظهري وتحركاتي، وتدخّلهم في كل شاردة وواردة، فهم ربّان هذه السفينة، لأنقطع لنحو شهرين عن هذه التجربة، حتى بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط / فبراير 2022، وكمن لا يعرف السباحة تم رميي في بحر الهواء المباشر، لأتعلم من كل تلك التجارب والخبرات التي اكتسبتها، فكان ظهوري الأول على الشاشة الرئيسية لقناة أورينت كمذيع أخبار.

صقل المهارات والظهور الأخير

بعد التغطيات الإعلامية للأحداث السورية والدولية وكارثة زلزال الجنوب التركي والشمال السوري 2023، كانت هذه الفترة كفيلة بأن تحمّلني أمانة ثقيلة، وهي السرعة في نقل الخبر، ووضعه في الخلاط الخاص بسياستنا التحريرية، وأباشر المشاركة في إعداد التغطيات والنشرات، لغاية اندلاع حراك السويداء ضد نظام الأسد شهر آب / أغسطس 2023، حيث خصصنا في أورينت إلى جانب التغطية اليومية نشرة إخبارية في السادسة من كل مساء، تغطّي كل الأحداث التي تشهدها المحافظة، وخلال هذه المتابعة بدأنا بتغطية ما يعرف بـ “ثورة العشائر”، والهجوم الذي تعرضت له قوات سوريا الديمقراطية قسد في أرياف دير الزور والرقة وحلب، تلتها تغطيتنا لحملة تصعيد هستيرية نفّذتها قوات الأسد مدعومة من روسيا وإيران على مناطق في إدلب، وصولاً للحرب الإسرائيلية على غزة.

في الكثير من التغطيات التي شاركنا فيها، كنت أقوم بإعداد بعضها، وتحضير موادها المرئية، حتى أنني أتابع وأجهّز الأخبار العاجلة التي تظهر على شريط القناة، وأنا على الهواء خلال حديثي مع ضيوف التغطية، لذلك لدي ذكريات كثيرة معها ولها عليّ حقّ كبير.

وبعد أن وضعت بعض التغطيات أوزارها، كان لا بد من أخذ استراحة محارب، وإجازة كنت أخبئ أيامها لأجمعها وأزور الأقارب والأصحاب في مدينة إسكندورن جنوب تركيا، ففي يوم الخميس 16 تشرين الثاني / نوفمبر جهّزت رسالتي الإلكترونية للإدارة، وطلبت إجازة مدتها 20 يوماً، قبل أن أقدّم نشرة الحصاد الأخيرة مع الزميلة ناديا كمال مساء ذلك اليوم.

قرار الإيقاف وتلقّي الصدمة!

تلا ذلك المساء الذي كان من المفترض أن يكون الأخير قبل الإجازة، كثير من الأحاديث عن خططي المستقبلية وماذا سأفعل في كل هذه الأيام، وهل أتى “إذن السفر” الذي يخوّلني السفر إلى إسكندرون، فباشرت في اليوم الأول تحضير “المحاشي السورية”، بعد صلاة الجمعة، وفي الساعة الثانية كان لرؤساء الأقسام اجتماع دوري مع مالك القناة الأستاذ غسان عبود لوضعه بصورة العمل وسيره، انتهى الاجتماع كسابقه دون أية رواسب، أو إشكاليات أو بوادر تظهر اقتراب نهايتنا.

بعد خروج رؤساء الأقسام من مقر القناة “كون يوم الجمعة هو عطلة لمعظمهم”، أرسل رئيس التحرير الأستاذ علاء فرحات رسالة على غرفة الواتساب، طلبهم فيها لاجتماع عاجل الساعة 4 عصراً، بدأت التكهنات تدور في غرف الواتساب الضيّقة حول سبب هذا اللقاء، فأصحاب النظرة السوداء اعتقدوا أن هناك خفضاً للرواتب، أما الذين يبثون الأمل، فقالوا من المؤكد أن هناك زيادة على الرواتب أو دعماً بكوادر جديدة.

دخل الجميع غرفة الإدارة، وخرجوا بالخبر الصاعق أن القرار جاء بإيقاف القناة، لم نكن نتخيّل في أسوأ الأحوال أن نسمع بخبر كهذا؛ لأنه لم يكن هناك أي بوادر لمثل هذا القرار، حتى أنني وصفت ما حصل بحديثي مع موقع قناة الحرة، أنه شبيه بوفاة صديق شاب قوي رياضي بسكتة قلبية فجأة دون عوارض صحية.

لم تمضِ دقائق حتى تسلل الخبر من القناة، وبدأ تداوله من قبل صحفيين وناشطين سوريين، ونحن مازلنا في وقع الصدمة صامتين مدهوشين من خبر الإغلاق، لا أبيح سراً إن قلت إن الكثير من الزملاء لم يتمالكوا أنفسهم وخانتهم دموع عيونهم المتحجرة التي سقطت وحدها، فكما ذكرت لم تكن قناة أورينت هي مكان عمل ندخله لتمرير الساعات المفروضة ونخرج، بل كانت منزلاً كبيراً أفراده مسؤولون عن هذه العائلة، حتى وأنا أستذكر تلك اللحظات تخونني أصابعي، وهي تضغط على لوحة المفاتيح، وتظهر الشاشة بضبابية بسبب ذاك الجرح الذي لم نكن نتوقعه.

ابن أورينت ليست شتيمة

لم أخشِ يوماً من اتهامي، بأني تابع لقناة أورينت، بل كان شرفاً خاصة عندما يصدر من أعداء ثورتنا، وعلى الرغم من عادتي التي لا تنفك عني، وهي الشعور بالانتماء، كان ألم إغلاق القناة موجعاً، وأدخلني في حالة صعبة لم أستطع تجاوزها.

تلك الأيام دفعتني للكتابة كثيراً على صفحتي في فيسبوك، فمثلاً لا يمكنك أن تبرر شعورك إلا لمن ذاقه، مثل إغلاق باب عملك آخر مرة بيدك، وتلقى فيه ذكريات، مسكة الباب ذكريات لو كنت تدري، للوحة المفاتيح، لكاسة القهوة، لكرسيّ التجميل، أضواء الكاميرات، ضجيج الصحاب، ضغوط العواجل، حواتيت المسؤولين والضيوف، نكات الصديقات والأصدقاء، عصبية المخرج وخروجه عن طوره، ذلك التململ من برودة المكيف وحرارة الأضواء، جميع هذه التفاصيل تجعلني منتمياً ليس لمكان فقط، بل لثوانٍ تمضي لتحفر بالمخيلة، وتترسخ بالذاكرة مجرياتها.

كلمة حق وشكر

في ختام هذا الكمِّ من المشاعر التي أحاول جاهداً أن أترجمها لكلمات، لا بدّ من شكر كل من ساندني وجعل مني إعلامياً أفخر بكوني كنت يوماً جزءاً من قناة أورينت، ولكي لا أنسى أحداً، فجميع الوجوه التي نظرت لها، وشاء القدر أن يجمعني بها وأقف أمامها، فلها منّي كل الشكر، فقد رباني أبي “رحمه الله” على تقديم الشكر منذ الصغر لزملاء الدراسة، ورفاق صيحة الحرية، والسلاح والكلمة والوجدان والمهنة، فلست الذي ينكر يداً بيضاء مدّت لي وكلمة حسنة زادت ثقتي بنفسي وملاحظة تعلّمت منها.

_________________________________________

 من مقالات العدد السابع عشر من (العربي القديم) الخاص بتلفزيون أورينت – تشرين الثاني/ نوفمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى