وكنت أظنّها لا تُفرج
علم الثورة، حين أطل فجر 12/8/ 2024 المبارك، مسح على جبين دمشق المعفر بالبؤس، وأيقظها من كابوس ثقيل
سعاد جروس – العربي القديم
ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها.. فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ
عندما مرّ علم الثورة، وغطى شارع الجسر الأبيض، فجر 8/12/2024، تفجّر الفرح والحزن المكبوت على شكل صرخات هستيرية، بعدما ضاقت خمسين عاماً، واستحكمت حلقاتها ثلاثة عشر عاماً آخرين.
تجرعنا مرارة الخذلان والذل، حتى ظننا أنها لن تُفرج، لكنها فُرجت وسقط الساقط، وتحقق الحلم العزيز، بمرور علم الثورة، وتبخر (القسم4٠)، المختص بمكافحة “الإرهاب”، ومعه ذكريات الترهيب، حين كانت الحافلات البيضاء التابعة له، تمتلئ بشبيحة يخفون العصا الكهربائية بالعلم السوري، وينطلقون الى مناطق المظاهرات، ليندسوا بين المتظاهرين، ويهتفوا “لربهم” الفار، أمام كاميرات الإعلام الخارجي، وعلى رؤوس الأشهاد من إعلاميين دجّالين، ممن استثمروا في الذل، ولمعوا صورة الفار، وتغافلوا عن ملاحقة الثوار السلميين وكهربتهم بالعصي، وضربهم بالرصاص، وزجهم في المعتقلات، لتنهشهم وحوش بشرية، أذهلوا العالم بسفالتهم.
مشاهد، كان يراقبها أهالي الشام متجرعين مرارة الصمت، ومازلت أذكر ليلة ظلماء في عام 2012، انقطع فيها التيار الكهربائي عن دمشق بالكامل، وخيم هدوء ثقيل، في تلك الليلة، سمعت صرخات المعتقلين تحت التعذيب، في غرف التحقيق، قبل ترحيلهم الى معتقلات فرع الخطيب الرهيب الواقع في حي آخر.
ولم تقتصر ممارسات هذا القسم الذي يحتل مبنىً سكنياً في الجسر الأبيض على تلك السلوكيات المتوحشة، بل كان لا يتوانى عن إغلاق شارع نسيب البكري من الجهتين، عند عبور مواكب التأييد القادمة من ساحة السبع بحرات، بعد احتفالات صاخبة تهدد وتتوعد المعارضين بالفناء، ووسط سوق المانطو في الجسر الأبيض، عُقدت حلقات الدبكة والرقص والخلع، فيما عيون الأهالي تراقبهم من خلف النوافذ، بقلوب يفطرها الوجع على نخبة ثوار سوريا الذين تحصدهم الآلة العسكرية، دون هوادة في دمشق والغوطة ومختلف المناطق السورية.
في شارع الجسر الأبيض، وكل شوارع المناطق التي مكثت تحت سيطرة النظام الزائل، تراكمت مواجع وأحقاد، احتقنت بما يفوق حجم الدمار في المناطق التي خرجت عن سيطرته. والكارثة أنه ورغم “التقية القسرية” التي مارسها الناس عموماً، كان النظام الجبان يستشعر حجم الضغينة، وأبى إلا أن يفاقمها، فاتحاً كل الأبواب لتفشي الفساد، وامتصاص دماء الجميع، دون استثناء من بائع البسطة وعامل النظافة البسيط والشحاذ الى كبار رجال المال، حتى أزلامه من أمراء الحرب لم يسلموا من النهب الممنهج وفرض الأتاوات، وفي العامين الأخيرين، حتى شبيحته، وعناصر الأمن والضباط، ضاقوا ذرعاً بفساده وشراهته للمال، وراحوا يطلقون عليه تسميات غريبة عجيبة، تؤكد موته كنظام، وتحلل جثته، التي سممت برائحتها الكريهة هوى الشام، حتى إنها فاقت ببشاعتها رائحة الصرف الصحي، الذي سلّطه على نهر بردى العابر في أرقى الأحياء الدمشقية من المالكي وأبو رمانة والروضة، وحتى الجسر الأبيض، خانقاً سكان الشام التي احتلها، وادعى زوراً أنها شامه، وأنه سيد ياسمينها وعطرها.
علم الثورة، حين أطل فجر 8/12/ 2024 المبارك، مسح على جبين دمشق المعفر بالبؤس، وأيقظها من كابوس ثقيل، لتصحو مبتسمة بعد قنوط طويل، وخرج الناس الى الشوارع رافعين إشارات النصر، وأصوات الرصاص تدوي معلنة انهيار الطاغية، والمآذن تصيح: “يا أهل الشام يا أهل الشام هرب الجبان”، في لحظة آسرة لا تُنسى.
إلى ساحة الأمويين، زحفت الشام رافعة أعلام الثورة، لم تسمح لركام الأحقاد بأن يفسد فرحتها بالثوار القادمين من الشمال، والسوريين القادمين من المنافي البعيدة، لم تفوت فرصة ضمّهم إلى قلبها، بعد انتظار طويل، لم تنشغل عن البهجة بما أُثير من زوابع ومخاوف وتخويف، أبت إلا أن تشدو بصوت الساروت، ترثي الشهداء، وتطالب بالمفقودين.
إنها الشام الصابرة التي تغزل من الوجع علماً، ومن الثبات وطناً.
_________________________________________
من مقالات العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024