أرشيف المجلة الشهرية

هكذا انتصر رياض الترك

عدنان عبد الرزاق

ولو لم يناصر رياض الترك الثورة السورية عام 2011، فعلى الأرجح، ستسقط عنه جلّ الصفات النضالية، وسيسقطه جلّ السوريين من ذواكرهم، بل وليس مستبعداً أن ينتقل “ابن العم” إلى ضفة الوصوليين هواة الضوء والمال، كما الذين عرّتهم الثورة، وسقطوا أمام الاختيار العملي، بعد أن غلبت عليهم انتماءاتهم الضيقة، أو حركتهم أوهامهم ومخاوفهم التي كرّسها حكم الأسد عبر عقود، حتى أصبحت فزّاعة وطوق نجاة في آن.

بيد أن وقوف الترك بمقدمة الثوار، ومذ مطلع الأمل، أكّد حسّه، وانتماءه الوطنيين، وصرف عنه التهم التي حاول كثيرون، إلصاقها به، حين تمرّد على قطيعية خالد بكداش أولاً، وتدجين الجبهة الوطنية التقدمية ثانياً، بعد أن رأى بحسّه الاستشرافي مآلات الشعارات العريضة التي طرحها جمال عبد الناصر، أو مصير حكم العسكر أيام أديب الشيشكلي، ثالثاً ورابعاً.

وربما بمقولته: “ثورتنا سلمية شعبية ترفض الطائفية، والشعب السوري واحد. لا تنازل ولا تفاوض بشأن الهدف المتمثّل بقلب النظام الطاغية” لبّ القول الذي خلص إليه السوريون، بعد أن دفعوا دماً، وسنين وخيبات، وانساقوا­- تحت دوافع العاطفة، وسرعة الخلاص من الاستبداد- مع راديكاليي اليسار، قبل اليمين ومطامع القريب قبل الغرباء.

قصارى القول: مع فائق احترامي، وبالغ تقديري لجميع معارضي حافظ الأسد، بيد أني لم أرَ، أو أسمع، أو أقرأ ضمن مَن عرفت، وقرأت لهم أو عنهم، معارضاً يمتلك لؤم وحقد حافظ الأسد، أو حتى شهوته الإلغائية، من دون أن يتحرّك فيه وازع.

كذلك قلما قرأت، أو سمعت أو رأيت معارضاً للأسد، يمتلك رؤيا إستراتيجية متكاملة، يمكن لو تهيّأت له الظروف، والموضوعية خاصة، أن يُطيح بذلك المستبدّ مؤسس الخنوع والطائفية.

وبذلك، من منطق سياسي، كنت أستشف العبثية والاندفاع الوطني والعاطفي، أكثر ممّا أرى سياسة واقعية تُحسن استغلال اللحظة والتحالفات، وتجيد المقارعة بالأسلحة، والتوقيت المناسبيّن..

ورياض الترك واحد من هؤلاء الشجعان، ولا شك، لمجرد معارضتهم بغياب الأمل والإستراتيجيا، بل ويقينهم بالإبادة، فيما لو وقعوا تحت رحمة مَن لا رحمة لديه.

بيد أن ما سمعته منه بعد السجون والتي، للإنصاف تُؤخذ بعين الاعتبار، أو عنه لجهة التبدّل لدرجة الاتهام، تُبقي الراحل الكبير رياض الترك، ضمن خانة المعارضين المريحين لحافظ الأسد، والمقدور عليهم في نظر بقية المستبدين.

وهنا لا أرمي إلى انشقاقاته عن حزبه، أو رفاق نضاله، إذ لي بعض، أو عظيم التأييد لرفضه القطيعية، أو أن يتحوّل الحزب الشيوعي لدكان، يملكه حزب البعث، أو تحركه الديكتاتوريات، في حين ألمّح لما أعتقده نسفاً بشكل الصراع في ذهنية الترك، إن لجهة الداخل والتحالفات، أو حتى الخارجية التي تجلّت ب”الصفر الاستعماري” الذي طرحه مبكراً، وقبل حتى “صفر مشاكل” الذي اعتمده حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم منذ 2003 حتى اليوم.

وإن كان من بعض، أو عظيم تبرير بهكذا مذهب أو شعار، فالذي رآه، أو استشفه الترك، خلال النضال النظري أو العملي بالمعتقلات، يبدّل أو لا بد أن يبدل، من القناعات والرؤى وطرق الوصول إلى الأهداف، فالترك لم يعش الحرية إلا خلال الحكم المدني البعيد عن الشعارات الكبيرة الرنانة، وهذا قد يُضاف إلى مصلحته وجرأته بطرح سبق. فضلاً عن أن ثبات رؤى وقناعات السياسي هي مقتله. فتبدل العلاقات والمصالح والتحالفات، تفرض على السياسي، أو السياسي المحنّك أن يبدّل ويتبدّل، إلى ما قبل المبادئ والحقوق بموقف.

طبعاً إن لم نغرق بالتحليل، وأسباب التحالفات التي قد يُقال عن بعضها “عودة الشيخ إلى صباه”، على اعتبار الترك تربّى، وتعلم بطفولته في دار أيتام تابعة للجمعية الإسلامية الخيرية في حمص.

كما نبوءات مانديلا سوريا بالانفجار الحتمي، وخروج الشارع السوري تُبرَّر، من منظور سياسي على الأقل، التبدّل ومدّ اليد، وجمع الأضداد، أليس هو من قالها علانية منذ عام 2005، وقبل أن تهبّ أيّ نسمة من نفحات الربيع العربي”النار تضطرم تحت الرماد والشعب الصامت يريد الخلاص”.

نهاية القول: رياض الترك الذي عاش أعماراً عدّة مستقطعة، إذ كان من المفترض أن يموت تحت التعذيب، أيام الشيشكلي، وعبد الحميد السرّاج، أو أيام سجن الخيبة بزمن الوحدة مع عبد الناصر،  ومهما كان جلداً وطويل عمر، أن يموت بمنفردته لنحو ثمانية عشر عاماً، أيام مؤسس الذل والطائفية والقمع، حافظ الأسد، وإن بقي منه شيء لم يمت، فمتابعة الوريث بنهج الوارث، وسجن بشار الأسد للترك كفيلة بإماتة ما تبقّى.

بيد أن محافظة مانديلا سوريا على حياته، وابتسامته الحزينة المختزلة كلّ عذابات المعتقلات، ويقينه أن الأوطان تحتاجنا أحياء لنبنيها، وليس أمواتاً؛ فدوى بقاء مستبدّيها، هي الانتصار الأكبر على الديكتاتوريين الذين تعاقبوا على سجنه، والخوف من تطلعاته التحررية، فأيّاً كانت آراؤنا ومآخذنا تسقط، ولا شك بحضرة مناضل أيقن أن البقاء والمعاودة، هي النصر الوحيد على أنظمة الإماتة والإلغاء..

وربما بأمنية بعد انتصار الثورة، وقلب النظام الطائفي المستبد، والتي كررها منذ عام 2012، إلى قبيل وفاته في باريس مطلع يناير 2024 “إذا بقي مكان صغير على رصيف، سوف أجلس فيه أشاهد وأصفق لشبيبتنا. وهذا سوف يكفيني” تكلّل صفته المانديلية، وتعزز من ابن عمومته لكل السوريين، وتجبّ كلّ ما يمكن أن يقال.

إذ مرة أخرى، أن يعيش الترك نحو عقدين ونيّف في المعتقلات، ويخرج متماسكاً طامحاً ضاحكاً، ويطلق هكذا أمنية، فهذا يوصله لشيخ المعارضين السوريين، وربما من دون منازع.

_____________

من مقالات العدد التاسع من مجلة (العربي القديم) الصادر عن شهر آذار/ مارس 2024

زر الذهاب إلى الأعلى