تاريخ العالم

حرية مختنقة: ثورة المرأة الإيرانية من الظل إلى الصرخة

قراءة في المسار التاريخي لنضال النساء الإيرانيات ضد القيود

براء الجمعة – العربي القديم  

شهدت إيران على مرّ العصور تحولات جذرية في سياسات الدولة تجاه النساء، حيث لعبت النساء دوراً محورياً في السعي من أجل حقوقهن رغم القيود الاجتماعية والسياسية المتزايدة. هذه الرحلة الطويلة تعكس مزيجاً من المقاومة، التحدي، والقدرة على إعادة تشكيل مسار النضال النسوي في إيران، ليصبح رمزاً عالمياً للنضال من أجل الحرية والعدالة والمساواة.

الموجة الأولى: جذور النضال في العصر القاجاري

بدأت حركة النساء في إيران تأخذ شكلها الأول في أواخر العصر القاجاري (1796-1925)، حيث ظهرت بوادر الوعي بحقوق المرأة والتعليم. كانت هذه الفترة متأثرة بصعود الفكر التنويري وزيادة الاتصال بالدول الغربية. أسست النساء الإيرانيات أولى المدارس الخاصة بهن، مثل مدرسة “دوشيزكان” في طهران، التي هدفت إلى توفير التعليم الأساسي للفتيات.

رغم الصعوبات والقيود الاجتماعية، ظهرت شخصيات نسائية بارزة مثل طاهرة القرة العين، التي عرفت بشجاعتها في تحدي الأعراف الدينية والاجتماعية من خلال الدعوة إلى تحرير المرأة ومساواتها بالرجل. كانت تلك الفترة بمثابة البداية الحقيقية وأول موجة من حركات النضال النسوي، حيث بدأت النساء بالتعبير عن مطالبهن في الحياة العامة.

الموجة الثانية: الحداثة القسرية في عهد رضا شاه

مع وصول رضا شاه إلى السلطة في عام 1925، شهدت إيران تغييرات جذرية في سياسات الدولة، إذ فرضت الحكومة إصلاحات واسعة تهدف إلى تحديث المجتمع، ومنها سياسات خاصة بالنساء. أبرز هذه السياسات كان قانون “كشف الحجاب” الصادر في عام 1936، الذي أجبر النساء على خلع الحجاب في الأماكن العامة.

رغم نوايا النظام المعلنة لتعزيز حرية النساء، إلا أن التنفيذ القسري لهذه السياسات أدى إلى عكس ذلك. شعرت النساء المحجبات بالإقصاء من الحياة العامة، في حين واجهت النساء غير المحجبات وصمة اجتماعية. في الوقت نفسه، شهدت هذه الفترة توسعاً في فرص التعليم والعمل للنساء، حيث افتتحت مدارس للفتيات، وبدأت النساء في دخول مجالات مهنية جديدة.

الموجة الثالثة: إصلاحات ومحاولات تحديث في عهد الشاه

تميز عهد محمد رضا شاه (1941-1979) بما عُرف بـ”الثورة البيضاء”، وهي سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية. منحت النساء حق التصويت والترشح للمناصب البرلمانية، وبدأت الدولة في تشجيع النساء على دخول سوق العمل والتعليم العالي.

لكن هذه السياسات لم تكن خالية من التحديات. على الرغم من التحسينات القانونية، ظلت المرأة تعاني من قيود ثقافية واجتماعية تمنعها من تحقيق المساواة الكاملة. علاوة على ذلك، ارتبطت هذه الإصلاحات بضغط سياسي من النظام، مما جعل الكثير من النساء يشعرن أن هذه التغييرات لم تكن تعبيراً عن نضال حقيقي، بل جزءاً من استراتيجية الدولة لتعزيز سلطتها.

الموجة الرابعة: ما بعد الثورة الإسلامية

مع اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979 وصعود آية الله الخميني إلى السلطة، تغيرت أوضاع النساء بشكل جذري. فرض الحجاب الإلزامي، وأعيدت صياغة القوانين لتتماشى مع الشريعة الإسلامية. شملت هذه القوانين قيوداً على حقوق النساء في الطلاق، الحضانة، والسفر دون إذن الزوج.

رغم هذه القيود، لم تتوقف النساء عن النضال. خلال الحرب الإيرانية-العراقية (1980-1988)، شاركت النساء كممرضات ومتطوعات، مما ساهم في تعزيز دورهن في المجتمع. وفي السنوات التالية، بدأت تظهر حركات نسوية تطالب بإصلاح القوانين والتخفيف من القيود، مثل حملة “مليون توقيع” التي سعت إلى جمع توقيعات لإلغاء القوانين التمييزية.

الموجة الخامسة: عصر الاحتجاجات الشعبية

في السنوات الأخيرة، وخاصة منذ عام 2022، شهدت إيران تصاعداً في الاحتجاجات النسائية. كانت حركة “المرأة، الحياة، الحرية” من أبرز معالم هذه المرحلة، حيث جاءت كرد فعل مباشر على وفاة مهسا أميني، الشابة التي قتلت أثناء احتجازها من قِبَل شرطة الأخلاق بسبب عدم ارتداء الحجاب “بشكل صحيح”.

تميزت هذه الاحتجاجات بطابعها العابر للطبقات الاجتماعية، حيث شاركت فيها النساء من مختلف الخلفيات. أصبحت هذه الحركة رمزاً عالمياً للنضال من أجل الحرية، وحققت زخماً كبيراً داخل إيران وخارجها. رفعت النساء شعارات تطالب بالمساواة وحرية الاختيار، متحديات القمع الحكومي والعقوبات القاسية.

المقاومة الثقافية والاجتماعية

إلى جانب الاحتجاجات المباشرة، استخدمت النساء الإيرانيات وسائل ثقافية واجتماعية للتعبير عن مقاومتهم. انتشرت الأعمال الأدبية والفنية التي تعكس معاناتهن وطموحاتهن، مثل أفلام المخرجات الإيرانيات التي سلطت الضوء على قضايا النساء، وأصبحت منصات التواصل الاجتماعي أداة أساسية لنشر قصص النضال.

في سياق النضال المستمر للنساء الإيرانيات، برزت قضية الحجاب الإلزامي كأحد أبرز التحديات التي واجهتها النساء في البلاد. منذ فرضه بعد الثورة الإسلامية في عام 1979، أصبح الحجاب الإلزامي رمزاً للسيطرة السياسية والاجتماعية على حياة النساء. رغم ذلك، لم تقبل الكثير من النساء الإيرانيات هذا القيد المفروض عليهن، بل تبنين أساليب مبتكرة للاحتجاج على هذه السياسات. خرجت العديد من النساء إلى الشوارع حاملات شعارات ضد الحجاب الإلزامي، ورفعن الحجاب عن رؤوسهن كرمز من رموز التمرد والحرية. وقد شكّل “يوم الأربعاء الأبيض” الذي أطلقته ناشطات إيرانيات في عام 2018 أحد أوجه هذا الاحتجاج، حيث قررت النساء الخروج بدون حجاب ورفع راية بيضاء كإشارة إلى تمسكهن بالحق في اختيار ما يرتدين. هذه الحركة المستمرة هي جزء من نضال نسائي طويل الأمد يسعى إلى تحدي القيود التي تفرضها السلطة، ويعكس إرادة النساء في استعادة حقوقهن الأساسية في التعبير عن أنفسهن بحرية.

تحديات وآمال المستقبل

رغم الإنجازات الكبيرة التي حققتها النساء الإيرانيات على مر العقود، لا تزال التحديات قائمة ومعقدة. يواجه المجتمع الإيراني نظاماً سياسياً ودينياً يفرض قيوداً صارمة على النساء، مما يحد من حرياتهن ويعطل تقدمهن في العديد من المجالات. إلى جانب ذلك، تواصل الكثيرات منهن معاناتهن من ضغوط اجتماعية وثقافية تشكل عائقاً أمام تحقيق المساواة الفعلية.

ومع كل هذه الصعوبات، تواصل النساء الإيرانيات سعيهن بكل إصرار وعزيمة، مدفوعات بإيمان راسخ أن نيل حقوقهن ليس مجرد خيار، بل هو حق أساسي لا يمكن التراجع عنه. إن جهودهن تمثل نموذجاً ملهماً لا يقتصر تأثيره على إيران فقط، بل يتجاوز الحدود ليصبح مصدر إلهام للنساء في مختلف أنحاء العالم.

هذا السعي المستمر هو تأكيد على قدرة الإنسان على مقاومة القمع وعدم الخضوع، وأن الحرية والعدالة والمساواة هي حقوق طبيعية لكل إنسان. مع كل لحظة جديدة من الحراك النسائي، تبرهن النساء الإيرانيات أنهن قادرات على تحدي الظروف والقيود، وإعادة تشكيل التاريخ من جديد، ليفتحن أمام الأجيال القادمة آفاقاً أوسع من الأمل لنيل الحرية والحقوق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى