أرشيف المجلة الشهرية

شُهداء بلدة تَلْدَبَس في معركة خان السّبل

تحدَّثتُ مع شباب قريتي الثَّائرين عن معركتهم غير المتكافئة بالسِّلاح مع العصابة الأسديَّة، لكنَّ ذلك لم يُثنِ عزيمتهم أبداً

د. مهنا بلال الرشيد- العربي القديم

ألهبَ صوت حارس الثَّورة السُّوريَّة الشَّهيد عبد الباسط السَّاروت مشاعر الأحرار على امتداد خريطة سوريا كلِّها، فقد امتلك الشَّهيد السَّاروت كاريزما ثوريَّة عالية جدًّا، جعلته مثلًا أعلى لكثير من الثَّائرين الأحرار، ومنهم شهداء قريتي، قرية تَلْدَبَس الَّذين استشهدوا في معركة خان السّبل 27 حزيران-يونيو 2012، خلال تصدِّيهم لأرتال دبَّابات العصابة الأسديَّة المتوجِّهة لإحكام قبضتها على حلب، عاصمة سوريا الاقتصاديَّة في الشّمال السُّوريِّ.

 أسهم التفاف الجماهير الثَّائرة حول السَّاروت بتعرُّف السُّوريِّين كلِّهم إلى أحياء حمص، الَّتي احتضنت هذه المظاهرات، مثل أحياء بابا عمرو، والخالديَّة، والبيَّاضة وغيرها، وصارت حمص عاصمة الثَّورة السُّوريَّة كلِّها، وتصدَّرت مظاهرات أحرارها المشهد الثَّوريِّ مدَّة طويلة من الزَّمن، إلى الحدِّ الَّذي أُعجب فيه الشَّهيد أحمد مصطفى الرَّشيد باسم مدينة (حمص) ذاتها، فسمَّى ابنته الأولى والأخيرة (حمص)، فصار لدينا حمصان: حمص عاصمة الثَّورة السُّوريَّة، وحمص ابن الشَّهيد أحمد مصطفى الرَّشيد، ثمَّ اُستشهد أبو حمص البطل مع ثلاثة من رفاقه في معركة خان السّبل، لصدِّ أرتال دبَّابات العصابة الأسديَّة عن مدينة حلب.

سهرة مع الشَّهيد

رجعتُ من الكويت إلى سوريا لقضاء إجازتي الصَّيفيَّة في بلدتي قبل أيَّام قليلة من معركة حزيران-يونيو 2012 في خان السِّبل، وكعادة أهلنا الَّذين يبادرون إلى السَّلام على كلِّ عائد لأرض الوطن بعد غربة طويلة أو قصيرة، التقيتُ بشهداء تلدبس الأبطال قبل استشهادهم في معركة خان السّبل، وهم بحسب التَّسلسل الأبجديِّ لأسمائهم: أحمد مصطفى الرَّشيد، زياد أحمد الوهوب، وعبد الحميد أحمد عكل الوهوب، وماهر أحمد عقدي، وكان لي أكثر من لقاء وسهرة مطوَّلة مع ابن عمِّي الشَّهيد أحمد مصطفى الرَّشيد، وكذلك التقيتُ بجاري الشَّهيد زياد أحمد الوهوب، وعرفتُ بعد استشهاده وخلال لقائي مع العقيد عبد الجبَّار العقيديِّ في معرض الكتاب العربيِّ في إسطنبول، بأنَّه نزل عند جاري الشَّهيد زياد أحمد الوهوب، خلال تجوِّله لإدارة المعارك في الشَّمال السُّوريِّ، بعد انشقاقه وعمله في الجيش السُّوريِّ الحرِّ.

تحدَّثتُ مع شباب قريتي الثَّائرين عن معركتهم غير المتكافئة بالسِّلاح مع العصابة الأسديَّة المجرمة، لكنَّ ذلك لم يُثنِ عزيمتهم أبدًا، وقالوا: نحن الأقوى، نحن أصحاب الأرض والحقِّ! ومنهم أبناء عمِّي الشَّهيد أحمد مصطفى الرَّشيد الَّذي استشهد بعد سهرتنا معه بيوم واحد، ومع شقيقه الأكبر محمَّد مصطفى الرَّشيد، الَّذي سُجن في صيدنايا بعد عودته من لبنان فيما بعد، وقضى هناك شهيدًا جميلًا تحت التَّعذيب. كان الشُّهداء والثَّائرون من قريتي مؤمنين بالنَّصر ومدركين صعوبة المهمَّة، وتحدَّثوا لي مليًّا عن اصطيادهم رتلًا طويلًا من الدَّبَّابات المتوجِّهة إلى حلب بأسلحة بسيطة وقواذف الـ (RPG)؛ لأنَّهم أبناء المنطقة، وأبناء الثَّورة المؤمنون بانتصارها، وبرغم الفارق الكبير في العتاد والتَّسليح بينهم وبين مرتزقة المخلوع بشَّار الأسد وجنوده، تمكَّنوا بإصرارهم وعزيمتهم من تدمير الدَّبَّابات، الَّتي جعلوها في اليوم الثَّاني منابر لشعراء الثَّورة في ريف معرَّة النُّعمان، فمجَّدوا هذه الملحمة، بدءًا من اليوم الَّذي كنَّا نؤبِّن فيه شهداء تلدبس، ونشيِّعهم.

اقلب أنتَ في إدلب!

ألحق الثُّوَّار والشُّهداء خسائر فادحة بميليشيا المخلوع بشَّار الأسد ومرتزقته، إلى حدٍّ تناثرت فيه دبَّاباتهم المعطوبة والمقلوبة وتلك الَّتي فرَّ منها مرتزقتها على أطراف الطَّريق، وقد كتبوا للمرتزقة على واحدة منها: (اقلب أنت في إدلب)، وقد فرح الثُّوَّار بنصرهم في اليوم الأوَّل من المعركة، وقرَّروا أن يُعيدوا الكَرَّة في اليوم الثَّاني، وتوجَّهوا إلى المعركة نحو معسكر خان السّبل باكرًا في ساعات الفجر الأولى كعادتهم، ولم يأبهوا بحديثنا معهم خلال السَّهرة عن الفارق الكبير بين تسليح الثُّوَّار البسيط وأسلحة الدَّمار الشَّامل، كالأسلحة الكيماويَّة، الَّتي استخدمتها طائرات المجرم المخلوع ضدَّ المدنيين في مجزرتَي خان شيخون، وغوطة دمشق، وبراميله المتفجَّرة الَّتي ألقاها الطَّيَّارون المجرمون، وارتكبوا بها مجزرة الأقلام في بلدة حاس في إدلب، ونفَّذوا ببراميلهم عشرات المجازر المريعة.

مرتزقة الأسد والتفافهم على الثُّوَّار

 عندما وصل الثُّوَّار أرض معركتهم الَّتي خاضوها، وربحوها في اللَّيلة السَّابقة، تفاجؤوا بأنَّ نظام المجرم المخلوع بشَّار الأسد، قد أرسل تعزيزات عسكريَّة كبيرة إليها، ونشرها على أطراف الطَّريق الدُّوليِّ (M5) بين حلب ودمشق، ووضع القنَّاصة فوق المنازل، ونشر مرتزقته المجرمين في المدارس وبين أشجار الزَّيتون، وعندما وصلت مجموعة الثُّوَّار من بلدات ريف معرَّة النُّعمان الشَّرقيِّ إلى الطَّريق الدُّوليِّ التفَّتْ حولهم ميليشيا المخلوع ومرتزقته، وأوقعتهم في كمين غادر، فقاوموا، وقتلوا عددًا كبيرًا من المرتزقة، وأعطبوا دبَّاباتهم، ونجا بعض الثُّوَّار من قلب الكمين الغادر، واُستشهد آخرون، وروى الأحرار الثَّائرون أنَّ الشَّهداء: أحمد مصطفى الرَّشيد، وزياد أحمد الوهوب، وماهر أحمد عقدي، كانوا يؤازرون بعضهم في مقدِّمة المقتحمين؛ لذلك كانوا في طليعة شهداء المعركة، قاوموا فيها حتَّى اُستشهدوا واحدًا تلو الآخر، واستطاع الشَّهيد عبد الحميد أحمد عكل الوهوب أن يصل إلى رتل الدَّبَّابات على الطَّريق الدُّوليِّ، وكان بوسعه أن يتوجَّه غربًا، ليفلت من الكمين الغادر، لكنَّه اختار المقاومة حتَّى اُستشهد بعدما رأى أخوته الثُّوَّار، وقد حصلوا على وسام الشَّهادة والعزَّة والكبرياء، وتوجَّه نحو الدَّبَّابة وضرب بُرْجَها، وفجَّرها من المسافة صفر، وتركها شاهدةً على بطولته، وانطلق إلى الثَّانية، حتَّى جاءته رصاصة غادرة من ميليشيا المرتزقة، فارتقى بها شهيدًا جميلًا.

صوتٌ من مئذنة الجامع

يقع منزلي شرقيَّ القرية بجوار مزرعة الشَّهيد زياد أحمد الوهوب ومنزله، الَّذي انطلق منه العقيد عبد الجبَّار العقيديّ ورفاقه أكثر من مرَّة، وفي منزلنا تحصَّن الثُّوَّار، وجرت فيه المعركة الأخيرة، عندما اجتاح نظام بشَّار الأسد المجرم ريف إدلب ومعرَّة النُّعمان الشَّرقيِّ، مع سراقب وريفها بعد جولات من مفاوضات سوتشي وآستانة 2019. وفي منزلي هذا بالكاد يصلني صوت المؤذِّن، وفي وقت الضُّحى صبيحة 27 حزيران-يونيو سمعتُ صوتًا بعيدًا من المئذنة، أدركتُ حينها استشهاد بعض الثَّائرين الَّذين سهرنا معهم، أو مع بعضهم ليلة استشهادهم، فتوجَّهتُ إلى المسجد، وعرفتُ خبر استشهاد الشَّباب الثَّائرين الأربعة من قريتنا، مع مجموعة من ثوَّار القرى المجاورة، بالإضافة إلى فقدان التَّواصل مع مجموعة أخرى من الثُّوَّار، وصل بعضهم إلى قراهم خلال النَّهار الطَّويل، وتأكَّد استشهاد بعضهم الآخر، وكان معي الشَّيخ محمَّد خالد الشَّيخ في طليعة المشيِّعين، ثمَّ استُشهد الشَّيخ خلال المعارك القادمة.

كوكبة مضيئة من شهداء تَلْدَبَس

تعاهد الشَّباب الثَّائرون على إكمال درب رفاقهم، واتَّخذوا قرارًا لا رجعة فيه، حتَّى الشَّهادة أو النَّصر، والخلاص من المجرم المخلوع، وتحقَّق إيمانهم بنصرهم في الثَّامن كانون الأوَّل-نوفمبر 2024، فتابع المسيرة الشَّيخ محمَّد خالد الشَّيخ، فقاتل وحظي بشرف الشَّهادة ووسامها، واُستشهد قبله ومعه وبعده مجموعة كبيرة من أبناء البلدة في مواقع وسجون متعدِّدة، مثل استشهاد فايز نور الدِّين بزع، وابنه خليل وحمزة زكريَّا بزع، ومهدي حسين عقدي، وعبد الرَّحمن أحمد عقدي، وأحمد ديبو العثمان، وحازم محمَّد الجمعة، ومحمَّد عبد الله الوهوب، ومعاذ مسعود الوهوب، وأحمد عبد المجيد الرَّزُّوق، وزكريَّا أحمد عكل الوهوب، وابنه وأحمد محمود الوهوب، ومحمَّد حسن الوهوب، ومحمَّد عبد الباسط الوهوب، وفجر علو القاسم، ومحمَّد قاسم القاسم، وحمزة قاسم القاسم، ووائل بزع، وإياد عزُّو الشِّيخ، ومحمَّد إبراهيم الشِّيخ، وعلي حسين الشَّيخ، وعيسى عبد القادر الشِّيخ، ومحمَّد حسن بزع، ويوسف إبراهيم الشِّيخ، ورامي عبد الحميد الوهوب، وحسن أحمد الرَّزُّوق، وحسن عبد السَّلام الإسماعيل.

لماذا غيَّرنا أسماء أبنائنا بعد استشهادهم؟

خلال عملي بالتَّدريس والإعلام الثَّوريِّ، فتحتُ هاتفي الجوَّال بعد محاضرة لي في 19 نيسان_أبريل 2016، فوجدتُ مئات الرَّسائل، يهنِّئني أصحابها باستشهاد أخي حسن بلال الرَّشيد، وابن عمِّي محمَّد زكريا الرَّشيد في مجزرة سوق الخضار، الَّتي ارتكبتها طائرات المجرم المخلوع في معرَّة النُّعمان، فتغيِّر اسم ولدي حُسين، وصار اسمه حسن، وكذلك رُزِق أخي الشَّهيد حسن ولدًا بعد استشهاده، فسمَّيناه على اسم والده، بعدما رغب الشَّهيد بتسميته بلال على اسم والدنا، رحمه الله، وجعل مثواه الجنَّة، ومثل هذا صار محمَّد اسمًا لابن الشَّهيد محمَّد ابن عمِّي زكريا، وحملت الأجيال الجديدة في سوريا الثَّورة أسماء آبائها وأعمامها وأخوالها من الشُّهداء، حتَّى تحقَّق النَّصر المبين، وانتصرت ثورتنا المباركة في الثَّامن من كانون الأوَّل-ديسمبر 2024، بعدما روَّى الشُّهداء بدمائهم الزَّكيَّة تراب الوطن؛ لذلك يستحقُّ الشُّهداء منَّا دقيقة صمت وإكبار وإجلال في كلِّ مجلس من مجالسنا حتَّى آماد بعيدة، ويستحقُّ أبناؤهم وبناتهم التَّعليم المجَّانيَّ والمتميِّز في المدارس والجامعات الرَّاقية، ليحملوا فكر آبائهم، وشُعلة تضحياتهم من بعدهم.

معركة ردع العدوان وحرِّيَّة المدن الَّتي دافع الشُّهداء عنها

ونحن إذ نتحدَّث ههنا عن كوكبة من شهداء تلدبس في معركة خان السّبل؛ فذلك لأنَّهم كانوا في طليعة شهداء سوريا في المعارك المسلَّحة، ولأنَّهم حموا حلب من أرتال كبيرة من دبَّابات المجرم المخلوع، حتَّى نالت حلب حرِّيَّتها واستقلالها في 30 تشرين الثَّاني-نوفمبر، خلال معركة ردع العدوان، وتبعها تحرير دمشق وحمص وسوريا كلِّها في الثَّامن من كانون الأوَّل-نوفمبر 2024، وكان لتحرير مدينة حمص عاصمة الثَّورة ومدينة بلبلها وحارسها مذاقٌ خاصٌّ لدى ابنة الشَّهيد حمص أحمد الرَّشيد؛ لأنَّها المدينة الَّتي أحبَّها أبوها الشَّهيد أحمد مصطفى الرَّشيد، وسمَّى ابنته الوحيدة على اسمها الجميل، وتوالت تضحيات أبناء البلدة، وضحَّى شهداء القرى والمدن السُّوريِّة كلِّها، ومن لم تُكتب له الشَّهادة، فقد عزيزًا عليه مع فقده منزله خلال هجرته ونزوحه؛ لذلك صحَّ علينا القول: إنَّ استشهاد أبنائنا وأخوتنا ورفاقنا كان خلودًا لهم، وكان موتًا بطيئًا لنا، فقد كانت تخرج أرواحنا معهم على دفعات، نفقد جزءًا منها، كلَّما احتفلنا بتشييع شهيد، وتأبين الآخر!

  _________________________________________

 من مقالات العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى