دلالات وقضايا | العبوديَّة وتأثير الانفعالات المضاعفة
الإنسان الَّذي تقهره الانفعالات لا يكون وليَّ نفسه بقدر ما يخضع لسلطان القدر
يكتبها: د. مهنا بلال الرشيد
امتدَّت الثَّورة السُّوريَّة ضدَّ حكم المخلوع بشَّار الأسد وعائلته أكثر من ثلاث عشرة سنة بين 15 آذار-مارس 2011 و8 كانون الأوَّل-ديسمبر 2024، وقد أشعل الثَّورة أطفال درعا، ومشى خلفهم الأحرار والشُّرفاء، وقاد الثَّورة الشُّجعان، ودفعوا ثمن الحرِّيَّة عندما نذروا حيواتهم لخلاص الشَّعب؛ فاستشهد كثير منهم في المعارك والمعتقلات، ونزح وهُجِّر آخرون، وراح بعض الانتهازيِّين من السُّوريِّين وأعدائهم معًا يستثمرون في الثَّورة ذاتها؛ ليجنوا ثمارها، وربطوا مطامعهم الشَّخصيَّة الكبيرة بامتداد زمن الثَّورة، ورسموا مع داعميهم خططهم الدَّنيئة للسَّطوِ على الثَّورة إذا انتصرت، وصاروا مثل المنشار يقصُّون أرباحهم جيئة وذهابًا، وصار معظم الشَّعب السُّوريِّ بسببهم كمن ابتلع السِّكِّين على الحدَّين، فإن دخلت جوفه قتلته، وإن سحبها قطعت شرايينه وأوردته، وحاول المرتزقة أن يروِّجوا انهزام الثَّورة راضين بعبوديَّتهم الطَّوعيَّة أو عبوديَّتهم المختارة، الَّتي حذَّرنا منها إيتيان لابوسي من جانب أوَّل، وكشف لنا تِبعات المطالبة بالحرِّيَّة والكفاح من أجلها من جانب آخر. وخلال هذا المشهد تسيَّد مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ نفر من العبيد المأجورين، أو البشر الَّذين حوَّلوا الثَّورة إلى فُرَصٍ للعمل عند هذا أو ذاك، وإن كان العمل واجبًا مقدَّسًا على كلِّ حرٍّ كي يكسب قوت يومه من أجل مَن يُعيلهم فإنَّه يغدو عبوديَّة مأجورة عندما تعمل مع عدوِّ شعبك، وداعم مستبدِّك المجرم، لا سيَّما إن كنت (مثقَّفاً) واعيًا تعرف أنَّ العالم أو (أعداء العالم) ليسوا جمعيَّة خيريَّة، وإنَّما يوظِّفونك؛ لتكون أداتهم عندما تتقاطع مصالحك الشَّخصيَّة مع غاياتهم الدَّنيئة!
موظَّفون أم ثائرون؟
لا يمكنك أن تعدَّ كثيرًا من المحسوبين على الثَّورة السُّوريَّة بين الثَّائرين، وأنت تراهم يقبضون أثمان ثورتهم أو كُتبهم أو منشوراتهم أو رحلاتهم أو تمثيليَّاتهم بالعملات الصَّعبة على مدار أكثر من ثلاث عشرة سنة من الثَّورة، ويُجيِّرون-علاوة على ذلك بطريقة أو بأُخرى-كلَّ منجز ثوريٍّ لصالحهم وصالح وليِّ نعمتهم خلال الثَّورة، ويحرفون كلَّ حدث بعد انتصار الثَّورة لخدمة غاياتهم وغايات مموِّلهم الدَّنيئة، وعند ذلك ستكتشف الفرق بين من نظر إلى الثَّورة بوصفها طريقًا إلى الحرَّيَّة محفوفًا بالتَّضحيات والمخاطر، ومَن نظر إليها فرصةً استثماريَّة، للعمل عند هذا أو الارتزاق عند ذاك، وراح يفكِّر بقطاف ثمار الثَّورة؛ ليقدِّمها إلى مموِّله نفوذًا في سوريا الجديدة، وكأنَّه هو وصاحبه المستثمر مَن حرَّروها؛ متناسين تضحيات الشُّهداء ودماءهم في عالم ملكوتهم؛ ومن هنا لا نستغرب أن تجتمع بنات آوى مع ثعلبها أو مع مَن ينوب عنه في دمشق ذاتها بين آونة وأخرى لاقتسام الكعكة أو الفريسة أو (الصَّيدة) بحسب تعبير وزير خارجيَّة قطر السَّابق.
لماذا تكون انفعالاتهم مضاعفة؟
تحمَّلتُ كثيرًا من سِهام الطَّعن أو النَّقد الشَّخصيِّ اللَّاذع بسبب كتابتي الدَّائمة عن مناهضتي لمشروع عزمي بشارة في سوريا أو بسبب نقدي أهداف هذا المشروع ونقدي غاياته؛ وذلك لأنَّ عزمي ذاته يحمل الجنسيَّة الإسرائيليَّة، وقد منحه إعلام حافظ الأسد والمخلوع بشَّار الأسد ومحور المقاومة البائد لقب المفكِّر العربيَّ، وراح أزلامه يتَّهمونني كثير بأنَّني أحسد نجاحهم الشَّخصيَّ، وأنا الَّذي لا أعرف معظمهم، ولم يجمعني بهم أيُّ حيِّز جغرافيٍّ أو أيُّ مجال وظيفيٍّ؛ لكنَّني أعلم جيِّدًا مخاطر استثمار مليارات الدُّولارات لتمويل أشخاص متفاوتين بالكفاءات والخبرات خلال الثَّورة؛ ليكونوا تابعين للمموِّل أو على علاقة شخصيَّة به على أقلِّ تقدير، ولهذا المموِّل علاقاته الوثيقة بالنِّظام البائد ومحور مقاوتهم المزعوم، وبالأمس القريب كان موظَّفو هذا المموِّل ينتقدون ثورتنا، ويرون بأعدائها الإيرانيِّين مقاومين، ويعملون في مراكزهم الإعلاميَّة، وينسِّقون معها. وبعد تفنيد ادَّعاءاتهم وعجزهم عن الاستماع لأيِّ نقد موضوعيٍّ لمشروع عزمي بشارة في سوريا يمكننا أن نقتبس من باروخ اسبينوزا للتَّدليل على عبوديَّتهم للمال والانفعال معًا؛ فقد قال اسبينوزا: (فأن ينفعل الإنسان هو إذاً أن يكون عبداً؛ أي أن يتحمَّل عبء الكون بأسره دون وعي منه بذلك)؛ وهذا حقًّا ما نلمسه لدى كثير من مرتزقة عزمي بشارة ممَّن يحملون الجنسيَّة السُّوريَّة، فما إن تسأل أحدهم عن أهدافه من كتبه ومنشوراته وأهداف مموِّله القريبة والبعيدة عند نقدهم كلِّ خطوة لدى حكومة سوريا الرَّاهنة حتَّى يفقد اتَّزانه، وتطيش حجارته على جدران مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ، ويظهر عجز المموَّل عن كبح انفعالاته وتبرير طيشه علاوة على عجزه عن تفسير غايات المموِّل؛ ولهذا قال اسبينوزا: (أسمِّي عجز الإنسان عن كبح انفعالاته والتَّحكُّم فيها عبوديَّة (Servitutem)، والإنسان الَّذي تقهره الانفعالات لا يكون وليَّ نفسه بقدر ما يخضع لسلطان القدر، حتَّى أنَّه غالبًا ما يجد نفسه مجبرًا على القيام بالأسوأ مع أنَّى يرى الأفضل)!
كيف يفكِّر الأحرار؟
يرى اسبينوزا أنَّ الأحرار لا يتأمَّلون شيئًا قدر تأمُّلهم في الموت ذاته، ومن يتأمَّل الموت يتأمَّل الحياة كلَّها؛ لذلك لا يأبه بسفاسف الأمور، ولا ينفعل لمغريات الحياة ومناصبها وبُهرجها وأموال أصحابها؛ لذلك لا يخشى الموت، ويرغب به لو حصل أن يكون موتًا شريفًا، وبعد سمعة حسنة، كسبها من خلال بحثه الدَّائم عن الخير لا عن المكاسب الدُّنيويَّة؛ ومن هنا لا يمكن للحرِّ إلَّا أن يكون نبيلًا حكيمًا، نما فيه الخير على فطرته بعيدًا عن التَّدجين؛ وبعض مطامع الحياة تُدجِّن الإنسان؛ لأنَّها تزيد انفعالاته، وتغريه بالمكاسب، (ونحن قد أثبتنا سابقًا أنَّنا لا نملك قدرة مطلقة على الانفعالات، وإذا رأى الرُّواقيُّون عكس ذلك؛ أي أنَّها تخضع تمامًا لإرادتنا وأنَّه بوسعنا التَّحكُّم فيها، فإنَّ اعتراضات التَّجربة، لا مبادئهم الخاصَّة، قد أرغمتهم على الاعتراف بأنَّ قمعها (أي قمع الانفعالات وتهذيب النَّفس تجاه إغراءات الحياة) والتَّحكُّم فيها يقتضي بالضَّرورة تدريبًا ومِراسًا شديدين. ولقد دأب أحدهم على إثبات ذلك بالاعتماد على مثال كلبين اثنين (إذا كانت ذاكرتي جيِّدة)؛ أوَّلهما داجن والآخر مدرَّب على الصَّيد؛ فبالتَّدريب يمكن أن يتعوَّد الكلب الدَّاجن على الصَّيد، وأن يكفَّ كلب الصَّيد عن مطاردة الأرانب البرِّيَّة)!