إنَّ الكلامَ معاقلُ الأَشْراف: ثورات لا تمت بصلة لأفكار النخب المثقفة
الاحتجاجات على امتداد الوطن العربي لم تستلهم قيمها ورموزها من الفكر السائد عند النُخب المثقفة التقليدية لأن هذه العقائد الفكرية التقليدية بقيت في العالم العربي هامشية لا جذور لها
عبد الرزاق دحنون – العربي القديم
جاء في الأثر أن خياطاً قال لابن المبارك: أنا أخيط ثياب السلاطين فهل تخاف أن أكون من أعوان الظلمة؟ فقال: كلا، إنما أعوان الظلمة من يبيع الخيط والإبرة. أما أنت فمن الظلمة أنفسهم.
سألتني صديقة سورية آشورية مُهاجرة من الشمال السوري، ومُقيمة الآن في أمستردام عاصمة هولندا: هل عكست القصَّة التي يكتبها القصَّاصون العرب في ضوء الاحتجاجات الشعبيَّة العارمة التي شهدتها العديد من البلدان العربية الوجع العميق الذي ألمَّ بهؤلاء الغوغاء، الرعاع، الدهماء، أو كما ينعتهم الاعلام الرسمي بأصحاب الصَّنادل المهترئة؟
قلتُ: الفنُّ القصصيّ على العموم ليس فقط مرآة تعكس حال المجتمع، بل قد تظهر القصَّة المكتوبة بشكل جيد المخفي والمسكوت عنه، وتكون الحيلة التي يقاوم بها الخلق عسف السلطة وجورها واستبدادها وحكوماتها الرشيدة التي تُحارب المواطن في لقمة عيشه وتقتله عندما يتظاهر في الشارع العام. والقصُّ والحكايات والسوالف هي أحد أشكال الهمس والنميمة التي تستعملها العامة من خلف ظهر الحاكم، على حدِّ تعبير جيمس سكوت في كتابه الخطير (المقاومة بالحيلة- كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم) لأننا لو عدنا لمفهوم القصّ في المعاجم لوجدناه تتبع الأثر، أي قصّ أثره قصّاً تتبعه، ومنها قصّاص الأثر المشهور في الجزيرة العربية قبل الإسلام، والخبر أعلمه، ونحن نقصُّ عليك أحسن القصص، أي نبيّن لك أحسن البيان. والقاصُّ من يأتي بالقصّة. والكلمة عربية، وهي تذهب إلى تتبع الأثر المتروك في رمل الصحراء. والقصّ من أفعال الحركة، ومنها جاء المقصّ أي المقراض.
حركة الاحتجاجات، أو قل الثورات وتوكل على الله، التي شهدها الشارع العربي حاولت قرض أو قصّ الظلم والاستبداد من حياة الناس فيمكننا تأكيد فكرة تقول: هذه الاحتجاجات على امتداد الوطن العربي لم تستلهم قيمها ورموزها من الفكر السائد عند النُخب المثقفة التقليدية أو كما يصفهم هادي العلوي البغدادي: أهل الثقافة المترجمة -وأنا هُنا لا أُعيب هذه الاتجاهات الفكرية- ذلك لأن هذه العقائد الفكرية التقليدية بقيت في العالم العربي هامشية، معلقة على جسم الثقافة والوعي العربيين لا جذور لها وحسب، بل لا تبدو في الصورة التي هي عليها قادرة على الردِّ على مطالب احتجاج عوام الخلق، وفهم أبعاد هذه الاحتجاجات الشعبية المتعددة والشاملة. التي تبحث بدورها عن تغير شامل في مفهوم شرعية السلطة. وتنسف بذلك تلك الأبنية القانونية التعسفية-المخالفة لأبسط حقوق المواطن والمُواطَنة- والتي حكمت المجتمع العربي وأوصلته إلى حالة العبودية بأبشع صورها.
وعوام الأرياف ورعاع المدن الذين يعيشون على هامش الحياة السياسية والذين تمردوا بطرق فجَّة أرعبت أنظمة الحكم الشمولية، ذلك أنهم لا يخافون من ذلك التغير الشامل -أكثر من القرد ما مسخ ربك- والذي سينقل المجتمع إلى باب الحرية التي بكل يد مضرَّجة يُدقُّ. بل ظهر الخوف جلياً عند المرعوبين من أهل الثقافة المترجمة وأهل السلطة. وبما أن القوى التقليدية لم يعد بإمكانها أن تتحول إلى منهل لقيم جديدة، معارضة وشعبية، وأن تواكب ممارسة متجددة وتقود تجربة تاريخية جديدة. إضافة إلى أنها عند تراجع النظام العام تراجعت معه وربطت نفسها به نظراً لخوفها من هذه الاحتجاجات الشعبية الفجَّة العارمة. والسؤال: كيف تنضج هذه الاحتجاجات في ظل تغول في القتل من قبل حاكم فظ غليظ القلب خالٍ من الضمير والوجدان، وهروب أهل الثقافة المترجمة إلى الظل خوفاً من نور الشمس الساطع.
وقد جاءت بعض هذه المحاولات القصصية لتعبَّر عن واقع هذه الاحتجاجات الشعبية الواسعة ورصدها إلا أنها لم تصنع فرقاً واضحاً في مسيرتها وانحصرت التجربة في نخب ثقافية خائبة مقطوعة عن مهادها الحقيقي. فمن لا يستطيع أن يقول لأهل الظلم والعسف: كفوا، اخسؤوا، ارحلوا، فهو عبد فاقد لحريته، والمعتقل الحقيقي هو من أعتُقل لسانه عن قول الحق، والحر الحقيقي هو من يقول كلمة الحق، ولو كان محبوساً بين الجدران قابعاً وراء القضبان.
وفي ظني الأغنية الشعبية والاهزوجة -على طريقة عبد الباسط الساروت حارس مرمى الكرامة- وقصيدة الرعاع والشعارات المكتوبة في اللافتات، التي تُضمر سخرية وجرأة قاتلة من وجه الحاكم العربي القبيح وحكومته التي تقتل المواطن عمداً في مظاهرات الاحتجاج، هي المرآة الحقيقية التي عكست ما يختلج في نفوس العباد. وأتصور أن يحدث التحول في سلوك السلطة حين تنال الكلمة فعلياً من سطوتها وهيبتها أكانت هذه الكلمة قصَّة قصيرة أو طويلة أو كلاماً محفوراً على جدار ملطخ بالأصباغ في الأحياء الشعبية. وتزداد وطأة الكلمة وخطورتها حين لا تكتفي-أي الكلمة- بقول الحقيقة-كل الحقيقة للجماهير شعار غسان كنفاني في مجلة الهدف- عارية بيد أنها تسعى في مُحاصرة الحاكم وحكومته ومُراقبته واخترق عوالمه السرية منتهكة قدسيته المزعومة. وأود أن ألفت النظر إلى ملحوظة مهمة هي أن الوقوف مع الرعاع وإظهار أقوالهم المتداولة الفاحشة حول الحاكم العربي وحاشيته والتشجيع عليها والذهاب أبعد مدى في فضح أسراره، تدفعه ليكون أشد عنفاً ودموية في ردود أفعاله تجاه هؤلاء الرعاع ومن يقف معهم في ثورتهم.
إن غاية السلطة السياسية في الدول الحديثة أن تحمي حرية الإنسان وطمأنينته. وقد أكد الرئيس الأمريكي أبرهام لنكولن على أن من حق الشعب أن يُغير السلطة السياسية التي تحكمه بالطرق الدستورية، فإذا لم يستطع ذلك فله أن يغيرها بالقوة. إننا نجد دئماً في كتاب الثورات أن هُناك طبقة تُسيطر على المجتمع وتخنق أنفاسه وتتسلط على الحكم وهي فوق ذلك غير منتجة، فلا تُحسُّ بالمسؤولية الاجتماعية، فتنحل أخلاقها، ويتزعزع تماسكها، وهي تسرف في سرقة المال العام لأنها تستهلك ولا تُنتج، والشعب يحتقرها ويثور عليها كي يمكِّن الطبقة المُنتجة من مسك زمام عربة الدولة الجامحة وكبح سيرها نحو الهاوية.
في علم السياسة تُعتبر السلطة المُطلقة في القصر الجمهوري شديدة الهشاشة ومزعزعة بسبب وجودها في يدي فرد واحد. إن سلطة كهذه تُعتبر خطراً على مصالح المجتمع والدولة معاً لأنها تُنمي الكبرياء والاستخفاف في نفس صاحبها. وتُنمي الخنوع والذل في نفوس أفراد المجتمع على اختلاف مشاربهم الأثنية والعرقية. تتعرَّض هذه السلطة الفردية في القصر الجمهوري بسهولة للتشوّش بالمعنى الحقيقي للكلمة لأنها لا تسعى وراء الواقع الحقيقي أو التقويم المتأني والمناقشة المُفيدة. والأهم من ذلك كله هو أنها تقود الدولة، وهي رفيقتها الحميمة، إلى عالم الفوضى والانهيار.
الثورات التي قام بها الأحرار على مرِّ التاريخ لم تنته لأنها هبت لتحقيق مبادئ الحرية والكرامة والعدالة وانتزاعها انتزاعاً من الحُكَّام الطغاة ودُعاة الظلام، ومهما كانت التضحياتُ جسام فإن الجماهير التي خرجت إلى الشوارع والساحات تزداد تصميماً في نضالها العنيد لكنس تلك الطغمة التي حكمت البلاد والعباد بالعسف والجور والحديد والنار. هذه الجماهير الكادحة التي تعيش أيام الفاقة والمسغبة وإهدار الكرامة في ظلِّ حكومات توسَّعت في عهدها طبائع الاستبداد وشملت كل مرافق الحياة في المجتمع الذي تُحاصره دوائر الفقر والجوع والمرض وفُرضت عليه أنماطاً من الاستبداد والقهر والتهميش لا تُحتمل.
لا حظ أرسطو بحق أنه لا يوجد رجل حر قادر على تحمل مثل هذا الضرب من الحكم، فالإنسان الحر لا يتحمل مثل هذه الأشكال التعسفية من الحكم، إلا مرغماً، أي إذا سُدتْ أمامه كل أبواب الانعتاق. لذلك فإن عبارة أرسطو تُعبّر بدقة عن أولئك الذين يعشقون الحرية، ويمقتون العبودية، وينظرون إلى الطُّغيان على أنه تدمير للإنسان لأنه يُحيل البشر إلى عظام نخرة. والمستبد يرغب في أن تكون رعيته كالغنم دوراً وطاعة، وكالكلاب تذللاً وتملقاً، والمثل الصيني يقول: “ليس أمام الغنم اختيار عندما تكون بين براثن الأسد” ولا شك أن الاستبداد يهدم إنسانية الإنسان، والطُّغيان يُحيل البشر إلى عبيد، وإذا تحوَّل الناس إلى عبيد أو حيوانات مذعورة فقدوا قيمهم، فلا إخلاص، ولا ضمير، ولا وجدان، ولا أمانة، ولا صدق، ولا شجاعة، بل كذب، ونفاق، وتملق، ورياء، وتذلل ومداهنة ومحاولة للوصول إلى الأغراض والغايات من أحط السبل وأقذرها.